بكاء الرضيع هو الوسيلة الوحيدة للتواصل بين الرضيع ووالديه، وهي التي تقودهم لأخذ سلوكٍ وقائيٍ وتقديم الرعاية، لكنه قد يكون أيضًا مصدرًا لتوترهم واكتئابهم وإرهاقهم وحرمانهم من النوم خاصة إذا كان بكاؤه لا يطاق، لذا يلجأ العديد من الآباء إلى أساليب سلوكية تأخذ أشكالًا مختلفة تمكنهم من التحكم ببكاء الأطفال.

هل على الآباء ترك طفلهم يبكي؟ أم أن البكاء يسبب ضررًا طويل الأمد على الطفل؟

شغل هذا السؤال الباحثين والأطباء وأولياء الأمور فترة طويلة.

دعونا نتعرف أولًا على المقصود بـ (تجاهل بكاء الطفل) قبل أن نقيم نتائج البحث.

ما معنى ترك طفل يبكي؟

هو مصطلح فضفاض يقصد به كل الأساليب التي نستخدمها لنتجاهل بكاء الطفل وحده في مكان آمن لفترة من الزمن.

بنيت الفكرة على مبدأ الكبح في علم النفس، الذي يعتمد على إزالة السلوكيات غير المرغوبة مثل بكاء الطفل، بإزالة المكافأة، وهي هنا استجابة الوالدين.

توجد أنماط مختلفة لأساليب كبح البكاء، مثل الإزالة التامة لاستجابات الوالدين (كبح البكاء غير المعدل) أو الإزالة التدريجية (الكبح التدريجي) بزيادة المدة التي يُترك فيها الطفل يبكي وحده بالتدريج، وتوجد أنماط أخرى تساعد الآباء الذين يشعرون بالضيق لترك طفلهم يبكي بمفرده في غرفة منفصلة، مثل أن يبقوا مع أطفالهم في الغرفة ذاتها دون أن يقتربوا لحملهم عندما يبكون.

عمومًا، لا يُنصح بطريقة الكبح غير المعدلة، ويصعب تنفيذها، بينما يستخدم عدة آباء الطرق الأخف مثل الكبح التدريجي وعدم الاقتراب من الرضيع عند بكائه بعد الشهر الرابع من العمر.

بيّنت العديد من الدراسات فائدة هذه الأساليب في تقليل مدة بكاء الرضيع واستيقاظه ليلًا، وكذلك في التقليل من إجهاد الآباء والتعب والاكتئاب، لكنها رغم ذلك تبدو نهجًا أبويًا قاسيًا للغاية وصعب التنفيذ.

ومما لا يثير الدهشة وجود عدة ادعاءات تتحدث عن الأضرار التي قد يسببها البكاء مثل التعلق غير الآمن بين الأهل والرضع، وزيادة التوتر عند الأطفال، ومشاكل عاطفية طويلة الأمد.

نظريًا، تبدو هذه الادعاءات منطقية إذا أخذنا بعين الاعتبار أهمية التربية الحساسة والتعلق الآمن للرضيع بوالديه في تطور صحته العاطفية.

لكن توجد ادعاءات لا أساس لها تتجاوز النتائج التي أظهرتها الأبحاث وتدّعي أن تجاهل بكاء الطفل يقود إلى أذية في الدماغ.

على الرغم من أن وجهة النظر النقدية حول (تجاهل بكاء الطفل) مفهومة، فمن المهم أولاً أن نقيم الأدلة قبل استخلاص النتائج.

هل لهذا البكاء أثر ضار على رابط التعلق الآمن بين الرضيع ووالديه؟

تقترح نظرية التعلق أن استجابة الوالدين السريعة لاحتياجات الرضيع ضرورية لتكوين علاقة جيدة معه.

يعد بكاء الرضيع سلوكًا اجتماعيًا يدفع الآباء إلى تلبية احتياجات رضيعهم، وبالتالي يعتبر بداية التعلق الآمن بين الطفل والوالدين.

من وجهة نظر نظرية التعلق، قد يسبب تجاهل الآباء لبكاء أطفالهم ضررًا على تطور التعلق الآمن الذي يحتاجه الطفل مع أهله.

دُعِم هذا الادعاء من دراسة طبيعية صغيرة، سجّل فيها الباحثون ملاحظات منزلية خلال كل ربعٍ من أرباع العام الأول للطفل، لمدة أربع ساعات تقريبًا في كل زيارة منزلية له.

وجدوا أن تجاهل بكاء الطفل يزيد من تكرار البكاء ومدته، وأنه مرتبط بطريقة ما بالتعلق غير الآمن بين الأم والرضيع في عمر 12 شهرًا.

على أية حال، انُتقدَت هذه النتائج بسبب حجم العينة الصغير الذي جرت عليه التجربة المكون من 26 عائلة فقط، والنهج التحليلي المبسط المبني على الترابط في العلاقة بين الأهل والرضيع دون الأخذ بعين الاعتبار أثر أي متغيرات أخرى مثل مستوى التعليم عند الوالدين.

تكررت بعد ذلك ثلاث دراسات: دراسة على 50 ثنائيًا مكونًا من الأم والرضيع في عينة هولندية، ودراسة على 178 ثنائيًا مكونًا من الأم والرضيع في عينة بريطانية، ودراسة كندية على 137 ثنائيًا مكونًا من الأم والرضيع، ولم تجد أي من هذه الدراسات أي ارتباط مهم بين ترك الرضيع يبكي ونمط التعلق غير الآمن بين الأم والرضيع، ما يدعو إلى الشك بقابلية تعميم نتائج الدراسات.

رغم وجود عدد قليل من الدراسات حول هذا الموضوع، إلا أننا بحاجة إلى المزيد من الدراسات طويلة الأمد.

هل يزيد البكاء من مستويات التوتر عند الطفل؟

بالإضافة إلى التعلق غير الآمن بين الرضيع والأهل، قيل إن تجاهل بكاء الطفل سيزيد من مستويات التوتر لديه.

تستند هذه الفكرة إلى دراسة ميدلميس عام 2012، التي بحثت في مستويات الكورتيزول (هرمون التوتر) لدى 25 ثنائيًا من الأمهات والرضع أثناء برنامج التدريب على النوم داخل المشفى الذي امتد خمسة أيام، ولم يستجب خلالها الآباء لبكاء طفلهم في أثناء الليل.

لم تلاحظ الدراسة زيادة محددة في مستويات الكورتيزول عند الرضع خلال الأيام الثلاثة الأولى من البرنامج، لكن مستويات الكورتيزول عند الأمهات انخفضت في اليوم الثالث، واقترح القائمون على الدراسة أن عدم التزامن بين مستويات الكورتيزول لدى الأم والرضيع يكشف عن مشكلة في أسلوب “تجاهل بكاء الطفل”.

أسيء تفسير هذه النتيجة في وسائل الإعلام، فقد اعتبرتها مؤشراً للضغوط التي يسببها البكاء على الأطفال، رغم عدم وجود أثر حقيقي ملموس للبكاء في مستويات التوتر عند الطفل ورغم فوائده بتقليل مستويات هرمون التوتر عند الأمهات.

إضافةً إلى ذلك، كانت لهذه الدراسة عدة ثغرات مثل عدم الإبلاغ عن مستويات الكورتيزول الأولية وعدم الإبلاغ عن النتائج حتى ثلاثة أيام.

هل يوجد دليل على نتائج ضارة على صحة الطفل بعد مرحلة الرضاعة؟

تشير نظرية التعلق إلى أن الأطفال الرضع سيستوعبون التجارب التخريبية المبكرة في علاقتهم مع مقدمي الرعاية وسيكون أثرها السلبي على أدائهم النفسي الاجتماعي ونموهم العاطفي دائمًا طوال حياتهم.

إذن، من الواضح أن تجاهل بكاء الطفل له تأثيرات سلبية طويلة الأمد على نموه العاطفي والسلوكي، لكن الأبحاث حول النتائج طويلة الأمد له محدودة للغاية، فقد بحثت دراسة واحدة حتى الآن عن نتائج البكاء على الطفل بعد مرحلة الرضاعة.

في تجربة المراقبة العشوائية تلك، ارتبطت الزيادة التدريجية في وقت الانتظار قبل الاستجابة لبكاء الرضيع بانخفاض فترات البكاء والاستيقاظ ليلاً مع عدم وجود آثار سيئة على نمو الطفل العاطفي والسلوكي ومستويات التوتر (الكورتيزول النهاري) بعد خمس سنوات.

بذلك، تقترح هذه الدراسة عدم وجود آثار طويلة الأمد على النمو العاطفي والسلوكي للطفل، لكن لا يمكننا إهمال المشكلات المنهجية في الدراسة، مثل ارتفاع معدل رفض الأهل لمجموعة العلاج، وكون الآباء في مجموعة العلاج مدركين لماهية العلاج، ما قد يؤثر على سلوك الوالدين أثناء التدخل في التجربة، وعلى استجاباتهم لمقاييس النتائج مثل مقياس المشكلات العاطفية والسلوكية لأطفالهم.

الخلاصة

الدراسات التي بحثت في الآثار الضارة المحتملة لـ تجاهل بكاء الطفل ليست بكثيرة رغم قوة الادعاءات حول الموضوع، وإذا أخدنا بعين الاعتبار المشكلات المنهجية التي عانت منها هذه الدراسات، فلا يمكننا حتى الآن أن ندحض أو نؤكد الادعاء القائل أن تجاهل بكاء الطفل له أضرار طويلة الأمد.

اقرأ أيضًا:

دموع الألم ودموع الفرح، هل البكاء أمر صحي؟

لماذا يكون البكاء مفيد أحيانًا؟

ترجمة: مرح الخرفان

تدقيق: بدور مارديني

المصدر