سعى البشر عبر التاريخ إلى خداع الموت. ومع إن أحدًا لم يتمكن حتى الآن من التغلب عليه، فقد بذلوا جهودًا خارقة وابتكروا أساليبًا غريبة أملًا في إطالة أعمارهم أو نيل الخلود. فما هي إذن الطرائق التي جربها البشر عبر العصور والثقافات المختلفة في محاولاتهم لإطالة أعمارهم، أو تحقيق الخلود؟
يقول جاي أولشانسكي، أستاذ علم الأوبئة والإحصاء الحيوي بجامعة إلينوي: «أعتبر طب مكافحة الشيخوخة ثاني أقدم مهنة في التاريخ. فقد ظلت العقاقير المضادة للشيخوخة تُباع منذ زمن بعيد».
1) بحث بلاد الرافدين عن الخلود بتجنب النوم
سعى أبطال أساطير بلاد الرافدين على الدوام إلى تحدي الموت، وتُعد ملحمة جلجامش من أقدم القصص التي تناولت هذا الصراع الإنساني. إذ يروي النص الذي خلد مآثر جلجامش في خمس قصائد ملحمية أنه تلقّى من الملك أوتنابيشتيم مهمةً شاقة، وهي أن يظل مستيقظًا ستة أيام وسبع ليالٍ ليبرهن استحقاقه للخلود. لكن جلجامش سرعان ما غلبه النعاس.
ثم أخبره أوتنابيشتيم لاحقًا عن نبتة في أعماق المحيط تعيد الشباب، فنجح جلجامش في الظفر بها، لكن أفعى سرقت النبتة واختفت في المياه، فعاد جلجامش إلى موطنه في أوروك خالي الوفاض بلا سر الخلود.
وبحسب مؤلف كتاب (الخلود: السعي للعيش إلى الأبد وكيف يحرك الحضارات) ستيفن كيف: «إن الدرس المستفاد من ملحمة جلجامش هو أننا لن نتغلب على الموت أبدًا، وأن علينا أن نصالح أنفسنا مع هذه الحقيقة، وأن نفكر في عيش حياة طيبة».
2) جرعات الخلود في مصر القديمة
يقول كيف إن حكّام مصر القديمة كانوا مهووسين تمامًا بفكرة الخلود، إذ آمنوا بوجود حياة بعد الموت، وبضرورة الحفاظ على الأجساد لتكون مأوى للأرواح. ولهذا، أنفق المصريون القدماء السواد الأعظم من وقتهم وجهدهم ومالهم على عمليات التحنيط والطقوس الجنائزية ومن ضمنها بناء الأهرامات. ويضيف أن بعض العلماء قدّروا أن نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي كان يُكرّس لصناعة الحياة الأخرى، من تحنيط وبناء معابد.
لكن لم يعتمد المصريين على التحنيط وحده؛ بل بذلوا جهودًا حثيثة لتمديد أعمارهم باستخدام الطب والجرعات السحرية. ويعلق كيف قائلًا: «كان التحنيط بمثابة الخطة (ب)؛ إذ كانوا أولًا يحاولون إطالة العمر عبر الأدوية والوصفات الطبية. ففي النصوص القديمة والبرديات نجد تعليمات لمعالجة الكسور، إلى جانب وصفات تزعم أنها تمنح الحياة الأبدية. لقد كان هوسًا ضاربًا بجذوره في أعماق التاريخ».
3) إكسير الحياة الخاص بأول إمبراطور صيني
يُعد تشين شي هوانغ شخصية تاريخية بارزة، بوصفه أول إمبراطور وحد الصين عام 221 قبل الميلاد. لكن كيف يوضح أن لديه شغفًا آخر، فقد كان مهووسًا بفكرة الخلود. وبحسب كيف يزخر التاريخ الصيني بالأساطير حول الإكسير السحري الذي يمنح البشر حياة أبدية، مشيرًا إلى أن تشين شي هوانغ جاب أرجاء إمبراطوريته الشاسعة بحثًا عن كيميائيين وسحرة وأطباء يستطيعون منحه إكسير الحياة.
ويتابع: «كان ولعه بإطالة عمره شديدًا إلى حد أنّه حظر مجرد ذكر كلمة (الموت) في حضوره، واصطحب شعراء يحيطون به وهم يغنون قصائد عن الخلود».
لكن هوانغ أصيب بمرض في منتصف عمره، وتوفي بعمر تسعة وأربعين، وتشير إحدى النظريات إلى أن سعيه المحموم وراء الخلود عجّل بوفاته، إذ مات بعدما تناول كميات كبيرة من الزئبق. وتدعم هذه الفرضية حقيقة أن علماء الآثار المعاصرين وجدوا أن مستوى الزئبق في قبره كان أعلى بمئة مرة من المعدل الطبيعي.
4) تناول شراب الذهب للخلود
اجت ممارسة إذابة الذهب وشربه في فرنسا في القرن السادس عشر، بقيادة ديان دي بواتييه خليلة الملك هنري الثاني ملك فرنسا، وقد كانت هذه الممارسات موجودة أيضًا في الصين القديمة ومصر.
يشرح كيف قائلًا: «وُجدت الكيمياء في الشرق والغرب على حد سواء، وكان هدفها الأساسي البحث عن سر الخلود. وكان يُنظر إلى الذهب بوصفه أنقى المعادن وأطهرها نظرًا لعدم قابليته للفساد».
ويذكر أولشانسكي أفكار الكيميائي الصيني وي بويانغ من عام 2500 قبل الميلاد، إذ روّج لأن تناول كميات صغيرة من المواد الخالدة قد يطيل العمر. وقد ساعد انتشار الذهب بين الحكام، الذين ابتاعوه لاستعراض ثرواتهم في توفير كميات وافرة منه للكيميائيين ليذيبوه ويحضّروه.
وبصفتها عشيقة الملك الفرنسي هنري الثاني، تمكنت ديان دي بواتييه من الوصول إلى كميات كبيرة من الذهب حتى وفاتها عن عمر ناهز 66 عامًا، ويبدو أنها تناولت منه الكثير أيضًا. وعندما عُثر على جثمانها عام 2008، كان مستوى الذهب في شعرها أعلى بـ500 مرة من المعدل الطبيعي، وكُشف أيضًا عن آثار للزئبق في عظامها.
يعلق كيف ساخرًا: «هناك تأثير وحيد مؤكد عند تناول الذهب، وهو الحصول في النهاية على براز باهظ الثمن».
5) انتكاسة أول عملية نقل دم للبابا
في عام 1492، وبعد إصابة البابا إنوسنت الثامن بجلطة دماغية، تقرر نقل دم من ثلاثة شبان أصحاء إلى عروقه. وتُعد هذه الحادثة أول عملية نقل دم مسجلة في التاريخ. لكن لم يقتصر الموت على البابا وحده، بل توفي معه الشبان الثلاثة أيضًا.
وجاءت الخطوة المفصلية في مجال نقل الدم عام 1628، حين اكتشف الطبيب الإنجليزي ويليام هارفي الدورة الدموية. وفي عام 1665، تمكن الطبيب ريتشارد لاور من إبقاء كلب على قيد الحياة بنقل دم له من كلاب أخرى، تلتها تقارير متفرقة عن محاولات نقل دم من خراف إلى بشر.
وتقدمت تقنيات نقل الدم تقدمًا ملحوظًا خلال القرن العشرين، فابتكر جيفري كينز مجموعة نقل دم محمولة خلال الحرب العالمية الأولى، ما أتاح للأطباء علاج الجنود في ساحات القتال. ثم جاء الدكتور تشارلز درو، الذي أسس أنظمة ضخمة لتخزين الدم ووحدات متنقلة للتبرع عُرفت باسم سيارات نقل الدم الجوالة (Bloodmobiles) خلال الحرب العالمية الثانية.
وما يزال المجال يحقق تطورًا إلى اليوم. يقول كيف: «ثبت مؤخرًا أن نقل دم الشبان له تأثيرات مجددة للشباب»، لكنه أضاف مستدركًا: «لكن أجريت هذه التجارب على الفئران وحسب».
وقد بدأ بعض العلماء في تجربة نقل بلازما الدم إلى البشر، لكن الوقت ما يزال مبكرًا لمعرفة ما إذا كانت هذه الخطوة ستمدد عمر الإنسان فعلًا، أم أنها مجرد طريق مسدود آخر في السعي الذي لا ينتهي نحو الخلود.
اقرأ أيضًا:
كم يبلغ عمر القمر؟ رحلة عبر مليارات السنين
ترجمة: أميمة الهلو
تدقيق: مؤمن محمد حلمي
مراجعة: محمد حسان عجك