بعد اكتشاف «كريستيان أورستيد» تأثير القِوى الكهربيَّة على انحراف إبرة البوصلة المغناطيسيّة، وما أثارهُ هذا الاكتشاف في الوسط العلميّ الفيزيائيّ، أطلَّ علينا عالِمٌ جديدٌ ليستكمل هذه الثّورة العلميّة، وهو «مايكل فارادي».

وُلِد «مايكل فارادي» لأبٍ حدَّاد، في أحد ضواحي لندن، وعندما كَبُر بالعمر، عمل عند أحد جلَّادي الكتب، ممَّا أتاح له فرصة عظيمة للاطِّلاع على الكثير من العلوم، وبعد سنوات قليلة من هذا العمل، انتقل ليعمل بإحدى مكاتب لندن، حيث استطاع في هذه الفترة أن يوجز الكثير من الأفكار التي قد قرأها مُسبقًا، في محاضرات مبسَّطة، وأرسل هذه المُحاضرات إلى السِّير «همفري ديفي»، فأُعجب السِّير «همفري ديفي» بطريقة عرضِه، واستخدمه كمساعدٍ له في المجمع الملكيّ عام 1813م، وفي موقعه هذا، استطاع «مايكل فارادي» أن يغوصَ أكثر وأكثر في بحر العلوم، حتَّى نشر أوَّل بحثٍ علميٍّ له عام 1816م، وهذا البحث هو الذي لفت انتباه المجتمع العلميّ البريطانيّ لعبقريَّته الفذَّة.

«مايكل فارادي» كانَ يُؤمن بأنَّ كلّ الصُّور التي تظهر بها المادَّة، لها أصل واحد ومشترك، وهذا جعله يفكر باكتشاف «كريستيان أورستيد» بمنظورٍ أخر، فتوقَّع أنَّه قد يكون هناك تأثير للقِوى المغناطيسيَّة على التّيّار الكهربيّ، ممَّا دفعه للتّوصّل إلى مفهوم “الحقل”، لتفسيرِ التّفاعل بين المغناطيس والتّيّار الكهربيّ.

أجرى «مايكل فارادي» العديد من التّجارب الكيميائيّة، التي قادته لقوانين التّحليل الكهربيّ، واستنتج «مايكل فارادي» من هذه التّجارب طبيعة القِوى التي تَربط الذّرّات مع بعضها البعض داخل الجُزيئات، فعند تواجد أحد الأسلاك داخل وعاءٍ يحتوي على موادّ متفاعلة كيميائيًّا، فإنَّ القِوى الكهربيَّة بين جزيئات هذا المحلول، ستقوم بالانتقال عبر هذا السلك، وهذا دليلٌ على احتواء ذرَّات المادَّة الكيميائيَّة على شحنةٍ كهربائيَّةٍ. عند عكس العملية ونقل تيّار كهربائيّ خلال السّلك إلى وعاءٍ بهِ محلول كيميائيّ، وَجَد «مايكل فارادي» أنَّ التّيّارات الكهربائيَّة ذات الشُّحنة الواحدة تقوم بتحليل نفس الكمّيّة، أو نفس العدد من الذّرّات المُتأيِّنة.

لم يحذَق «مايكل فارادي» الرّياضيّات، بل كان أساسه بها هزيلًا، بالإضافة إلى عدم ثقته في النّماذج الرّياضيّة كوصفٍ للظّواهر الطّبيعيّة، فدفعه هذا إلى تطوير النّماذج الفيزيائيّة الخاصّة بهِ كوصفٍ لنتائج تجاربه، فأسّس فكرة “أنبوب القوة” الذي يمتدّ بين شحنة وأخرى، حيث أنّه وافق «إسحق نيوتن» في رفض فكرة التَّأثير عن بعد.

قبل استعراض تأثير «مايكل فارادي» على تطور الكهرومغناطيسيّة، دعنا نمرّ سريعًا على إنجازاتٍ أخرى، قد توصّل إليها وأثّرت في العديد من الأفكار العلميّة. بدأ «مايكل فارادي» دراساته على الكهرباء الرّاكدة أو الأستاتيكيّة، فاستنتج أنّ الشُّحنة الكهربيّة يَنتُج عنها حقول قوّة، وهذه الحقول تتناسب مع مقدار الشُّحنة الكهربيّة.

لم يتوقّف «مايكل فارادي» عند هذا الحد، بل إنّه برهن على أنّ الشُّحنات الكهربيّة تتولّد على شكل أزواجٍ متساوية ومتعاكسة، فكلّ شُحنة موجبة ترافقها شحنة سالبة أيضًا، وقد توصّل إلى هذا البُرهان، بعد أن أحضر وعاءً من الجليد، وأدخل به شحناتٍ موجبة؛ التي نتج عنها خطوط قِوى، فأجبرت الشُّحنات السّالبة للسّطح الدّاخلي للوعاء، على دفع الشُّحنات الموجبة، إلى السّطح الخارجيّ منه، فأصبحَ بداخل الوعاء شحنات موجبة غير ملامسة لسطحه الدّاخليّ، وسطحه الدّاخليّ يحتوي على شحنات سالبة، أمّا سطحه الخارجي يحتوي على شحنات موجبة، وبذا، كلّ شحنة موجبة يتم إدخالها للوعاء، يتولَّد عنها شحنة تساويها على السّطح الخارجيّ، وهذا البرهان قاد «مايكل فارادي» للتّوصل إلى بنية الذّرّة الدّاخليّة، بأنَّها تتماسك بواسطة قوى كهربيّة.

كلّ هذه التَّجارب الكهروكيميائيّة، تعتبر مقدارًا بسيطًا ممّا توصّل إليه هذا العالم العبقريّ، الذي تتجلّى عبقريّته في أبحاثه عن الكهرومغناطيسية، وهذا ما سنستعرضه في الحلقة القادمة.


 

المصدر الأول

المصدر الثاني