يُعد شات جي بي تي تطورًا تكنولوجيًا بارزًا، فهو قادر على كتابة كلام عادي لكنه مقنع يبدو لقارئه طبيعيًا ومتسقًا وغنيًا بالمعارف. لكنه لا يخلو من النقائص، فقد يُستعمل لقول أشياء غبية، كقوله إن رطلًا من الريش أثقل من رطلين من الآجر، أو إن 450 أكبر من 500.

يغش شات جي بي تي أيضًا، فمع إنه يبدو لسامعه مثيرًا للإعجاب فقد يختلق اقتباسات لكي يوحي بالصوابية الأكاديمية، وقد يسرق نصوصًا أيضًا، فإن طلبت من شات جي بي تي اقتراح أسماء بعض المدن لقصة خيالية، ستجده يستخدم أشياء مألوفة من عالم سيد الخواتم وروايات الأرض الوسطى لتولكين.

ومع كل هذه العيوب يوجد حماس كبير لما سيستطيع شات جي بي تي إنجازه وإنتاجه. ففي قطاع الإعلام مثلًا، يخطط موقع Buzzfeed لاستعمال شات جي بي تي لصياغة استطلاعات على الإنترنت، وقد نشر مالك الصحيفة ريتش مقالات مكتوبة باستعمال هذه التقنية.

لكن مع هذا الحماس توجد أيضًا مخاوف، وهذا مُعتاد فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، ومن المخاوف أن يسبب شات جي بي تي بتسريح العاملين بالجملة في قطاعات معينة من الاقتصاد.

ومن الشائع انتشار الخلاف حين يتقدم العلم بسرعة، فكلما انتشرت تكنولوجيا جديدة نسمع حديثًا عن مكاسب الإنتاجية وجدلًا عن دور ذلك في جعل حالة الناس أفضل أو أسوأ.

يرى بعض الاقتصاديين أن التكنولوجيا تزيد الإنتاج دون أن تهدد العمال بالتسريح الجماعي لأنها تخلق طلبًا على وظائف جديدة. ولكن لا شيء يضمن أن هذه الوظائف ستوفر نفس الرواتب الجيدة أو الضمانات أو تحقيق الذات الذي كانت توفره المهن القديمة التي ستُفقد بسبب التشغيل الآلي (الأتمتة). لذلك يرى العمال أسبابًا وجيهة للقلق من الأتمتة. وتفترض وجهة النظر هذه أيضًا أن الوظائف المؤتمَتة هي في الحقيقة وظائف ضرورية، وإلا فإن الأتمتة لا تعني بالضرورة إنتاجية أكبر.

ولتسليط الضوء على هذه النقطة تجدر الإشارة إلى نظرية (الوظائف التافهة) لعالم الأنثروبولوجيا الحديثة دافيد غرايبر، وفكرتها المُقنعة والمثيرة للجدل تقول إن عددًا كبيرًا من الوظائف (المكتبية في الغالب) هي عديمة الجدوى أساسًا، وهي تافهة لدرجة أن الأشخاص الذين يعملون بها أصلًا يشعرون بأنهم لا يقدمون شيئًا يذكر للمجتمع.

إذن لنقل إن شات جي بي تي بدأ بتأدية أدوار أكثر في منظمة ما، كأن يكتب الفواتير وينسق البيانات وينظم الجداول أو يجمع نتائج الاستطلاعات، إن كانت هذه الوظائف موجودة بسبب عدم نجاعة البيروقراطية، فإن أتمتة هذه الأعمال لن يزيد من الإنتاجية، لأن العمل لم يكن مُنتجًا من الأساس.

ولا يعني ذلك أن الأعمال المكتبية للبشر سوف تختفي، إذ ستكون مصلحة المديرين من استعمال الذكاء الاصطناعي لاستبدال الأشخاص الذين يعملون لديهم حتمًا محدودة. يرى البعض أن المديرين الكبار يستمتعون بإدارة فريق كبير لأن ذلك يمنحهم إحساسًا بالوجاهة والنفوذ، إضافةً إلى ذلك، وجود عدد كبير من الموظفين قد يجعل الشركات تبدو أكثر شرعية ما قد يعود عليها بفوائد استراتيجية.

ستستمر إذن وظائف الإدارة (أو الياقات البيضاء) لكنها قد تصبح أقل وضوحًا، إذ ستزداد وتيرة الاجتماعات أو الاتصالات السريعة على تطبيق زووم، بينما تتمكن أدوات مثل شات جي بي تي من تنفيذ الأعمال الإدارية لهؤلاء الموظفين، لكن التبديل إلى هذه الأدوات ظنًا بأن عمل هؤلاء الموظفين بلا جدوى لن يفيد المديرين بالضرورة.

نظم غير ناجعة

تُعد أفكار ستافورد بير، الخبير في نظم الإدارة مفيدة لاستكشاف العوائق الأهم أمام شات جي بي تي في ما يخص تأثيره في الوظائف، إذ يقول: «تفكيك المشكلات أفضل من حلها». وما يقصده ببساطة أن نظم الحاسوب المصممة بعناية تستشرف المشكلات وتفككها من البداية، بينما تتعامل النظم رديئة التصميم مع المشكلات بعد ظهورها.

يفصّل بير في مقالته البحثية (حرية التصميم) ما يسمى بمعضلة (النجاعة غير الناجعة)، وتفيد المقالة بأنه لا توجد زيادة في الإنتاجية عند استعمال التكنولوجيا لإنجاز المزيد من المهام غير الفعّالة، أي أن تكون أنجع بعدم النجاعة)، ومن هذه الناحية تبدو (مفارقة سولو) منطقية أيضًا، إذ تشير إلى أن تأثير الحواسيب أصغر مما نتوقع على الإنتاجية.

يزيد شات جي بي تي من أهمية فكرة بير (عن تفكيك المشكلات بدل حلها)، فلا شك أن شات جي بي تي قادر على ضبط المعادلات في جداول البيانات، لكن إن كانت هذه الجداول غير ضرورية، فلن يفيد ذلك أحدًا.

إن خطر مبالغة التفكير في أهمية شات جي بي تي يكمن في سهولة تحوّله إلى مثال ممتاز عن استعمال التكنولوجيا لفعل شيء غير ناجع بطريقة أنجع، وهذا يعني فقط أننا نفعل المزيد من الأشياء غير الناجعة، ما يعقّد المشكلة.

يجب أن تهدف التكنولوجيا إلى إعادة تقييم النظم بأكملها بدل أتمتة المهام الفردية. والاستمرار بحل المشكلات فقط بدل استشرافها وتفكيكها سيخلّف مشكلات مستقبلية وينقص الفوائد.

شات جي بي تي هو أداة قوية والفوائد المنتظرة من الذكاء الاصطناعي ما تزال غير مفهومة بالكامل، لكن يوجد خطر حقيقي لإرث هذه التكنولوجيا، وهو ليس المزيد من البطالة، وإنما انتشار التفاهة بكثرة.

اقرأ أيضًا:

تعرف على كلود: منافس شات جي بي تي الأول

تشات جي بي تي ChatGPT أصبح يمتلك عيونًا وآذانًا، ويستطيع حجز تذكرة طيران وطلب الطعام!

ترجمة: زياد نصر

تدقيق: محمد حسان عجك

مراجعة: لبنى حمزة

المصدر