قد يبدو غريبًا رؤية المدافعين عن المناخ يتجادلون حول مزايا مفهومٍ بيّن العلم ضرورته لإيقاف التغير المناخي الكارثي، إذ يُعد مفهوم (صافي الصفر Net Zero) أحد أهم الأسس التي تنص عليها اتفاقية باريس للمناخ.

وهو ببساطة النقطة التي يتحقق عندها توازن إجمالي بين كمية انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة والممتصة من الغلاف الجوي، ما يوقف زيادة ارتفاع درجة حرارة المناخ.

أُثبِت علميًا ضرورة بلوغ حد صافي الصفر من انبعاثات الغازات الدفيئة حول العالم، أي خفض كمية الغازات الدفيئة المنبعثة إلى الغلاف الجوي إلى الصفر بتحقيق التوازن بين الغازات المنبعثة والممتصة، وتعهدت الحكومات في اتفاق باريس للمناخ عام 2015 بتحقيق التوازن ما بين الانبعاثات الناشئة عن أنشطة بشرية بواسطة المصادر وعمليات الإزالة بواسطة المصارف بحلول منتصف القرن، وذلك سعيًا للإبقاء على الزيادة الناتجة بدرجات الحرارة بحدود 1.5 درجة مئوية فقط، أي الإبقاء على مستوى الاحترار العالمي بمقدار معقول أملًا بتخطي الأزمة.

أُضيفت تلك النصوص إلى اتفاق باريس فقط بسبب جهود الناشطين والدول الضعيفة المعرضة للخطر، وقد لا نجد مثالًا أنجح من هذا لإثبات قدرة أفكار الناشطين على تغيير شروط المعاهدات والاتفاقيات بطريق الحوار.

وخلال سنتين ازداد كثيرًا عدد الأمم والدول والحكومات المحلية والشركات التي جعلت من صافي الصفر هدفًا لها، مع ازدياد التغطية المالية من إجمالي الناتج المحلي عالميًا، إذ قفزت من 16%؜ في يونيو 2019 إلى 23% في مارس 2021.

ليس من المبالغة أن نصف صافي الصفر بأنه عدسة لرؤية عملية إزالة الكربون والتقليل من المخلفات الكربونية والغازات الدفيئة الملوثة للجو، وتستخدمها الحكومات والشركات والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات الأخرى.

ومع ذلك، نرى أن الناشطين حول العالم ليسوا سعداء بتلك الإنجازات، إذ يشير كثير منهم إلى عيوب أهداف صافي الصفر، كالإشارة إلى حريق نشب في إحدى شركات النفط والغاز التي تخطط لدفع التعويضات المالية بدل التعامل مع الانبعاثات الملوثة التي نتجت عن احتراق منتجاتهم.

في بعض الحالات، تتحول المخاوف من تنفيذ أهداف صافي الصفر إلى نقد الفكرة ذاتها، إذ وصف ثلاثة أكاديميين متخصصين في تغير المناخ -ومن ضمنهم الرئيس السابق للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ بوب واتسن- صافي الصفر بإنه وهم و فخ، بينما قالت غريتا تونبرغ: «تلك الأهداف البعيدة تجعل الأمر يبدو وكأننا نعمل لتحقيقها دون الحاجة للتغيير».

ما المقصود بمصطلح «صافي الصفر» بيئيًا؟ ما هي الضرورة البيئية العالمية وراء بلوغ حد صافي الصفر من انبعاثات الغازات الدفيئة حول العالم

الالتزام بصافي الصفر: صورة متباينة

لكي تكون المؤسسة ذات مصداقية، يجب أن تمتلك عدة مقاييس للجودة قبل أن تصرح بالتزامها بتحقيق أهداف الصفر الصافي، فعلى الأقل مثلًا يجب وجود التزام من مستوى عالٍ وخطة عمل منشورة للعيان وتدابير فورية لخفض الانبعاثات وآلية لإعداد التقارير السنوية. ويجب أن تضمن تغطية جميع الانبعاثات التي تسببها، باستخدام عمليات إزالة دائمة وذات جودة عالية وموثقة.

في مارس 2021، نشر الباحثون أول دراسة تحليلية لمدى رصانة الالتزامات بأهداف صافي الصفر التي تعهدت بها أكثر من 4000 من الحكومات الدولية والمحلية والشركات، أي ما يمثل 80% من الانبعاثات العالمية.

وهنا يظهر التباين، فبينما تمتلك عدة مؤسسات تعهدت بتحقيق أهداف صافي الصفر مقاييس صارمة مثل الأهداف المرحلية (60%) وآلية التقارير السنوية (62%) فإن بقية المؤسسات لا تملك أيًا من تلك القياسات.

والأمر مقلق فيما يتعلق بدفع التعويضات، أي أن تدفع الشركات مبالغ مالية تسمح لها ببعث كميات من ثاني أكسيد الكربون أو غيره من الغازات الدفيئة إلى الجو، لأن 23% من المؤسسات فقط تمنع استخدام تلك التعويضات أو تضع قيودًا على استخدامها.

ولكن، هل يعني ذلك أن فكرة صافي الصفر فكرة خيالية أو وهم غير مُجدٍ؟ بالطبع لا. لأن المجموعة المتنامية ممن يتعهدون بأهداف الصفر الصافي تأتي مع نظرية محكمة للتغيير:

  1.  إذا كانت المؤسسة جادة ستنفذ ما تعهدت به بوضع تدابير صارمة، ابتداءً بالإجراءات الفورية لخفض الانبعاثات، أي أن عدم فعل هذا سيعرضها لاتهامات حول جديتها فيما تعهدت به.
  2.  تعهد المؤسسة بهذا الهدف يعني إنها معرضة لمساءلة الناخبين أو المساهمين أو العملاء.
  3.  لتظهر المؤسسة مصداقيتها قد تضطر إلى التقدم بطلب للحصول على اعتماد من آلية محايدة يمكنها التحقق من واقعية خطة العمل.
  4.  آلية اعتماد كتلك تتطور بمرور الزمن لتواكب التطور العلمي، فمثلًا، نشرت حملة السباق إلى الصفر (race to zero) التي تدعمها الأمم المتحدة معايير مُحدّثَة في أبريل 2021 مع انتظار تطويرات سنوية لها.

هذه الشروط الأربعة تجعل الالتزام أكثر واقعية وذا نتائج ملموسة إن صح التعبير، وإن كانت المؤسسة غير جادة، ستُكشف وتُفضح بوضوح.

علامات توضّح إنّ أهداف الصفر الصافي تؤدي إلى أداءٍ أفضل

توجد عدة أدلة تشير إلى تحسن الأداء باتباع أهداف صافي الصفر، وما نزعمه أكثر من مجرد فرضية. فكلٌ من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة حددوا أهداف صافي الصفر لعام 2050، ووسّعوا أهداف 2030 لكي تتناغم مع الأهداف المستقبلية. وفي ألمانيا، أمرت المحكمة الدستورية الحكومة بزيادة سرعة إجراءاتها على المدى القريب لضمان عدم تحمل الأجيال المقبلة لتكاليف تحقيق أهداف صافي الصفر بنسبة أكبر من الآن.

أظهرت دراسة استقصائية للمساهمات المحددة وطنيًا -NDCs- التي يجب أن تقدمها الدول قبل انعقاد قمة المناخ المقبلة للأمم المتحدة -مؤتمرCOP26- أن 32 من أصل 101 دولة ملتزمة بأهداف صافي الصفر عززت مساهماتها المحددة وطنيًا لتغير المناخ مقارنةً مع 11 من أصل 90 دولة غير ملتزمة بالهدف.
والمدافعون عن المناخ محقّون في تسليط الضوء على الطبيعة الفضفاضة لبعض التعهدات، سيما تعهدات شركات الوقود الأحفوري، فهذا التدقيق ضروري لحماية العلم من تضليل المستهلكين حول الممارسات البيئية السيئة التي تقوم بها مؤسسة ما.

كتبت الناشطة تونبرغ على تويتر: «إن لم تستطع رؤية خطورة قيادة أهداف صافي الصفر إلى هذه الأشياء، فأنت إما لا تفهم المشكلة، أو لديك أجندة واضحة. فبالتأكيد لا تتعلق المشكلة بأهداف صافي الصفر بحد ذاتها، بل بأنها تستخدم عذرًا لتأجيل العمل الحقيقي».

هذا خطر حقيقي، فإذا سمحنا للاستخدامات الفاسدة والمضللة لمفهوم صافي الصفر بتشويه سمعة كل المفهوم، فإننا نجازف بخسارة كل المكاسب التي تحققت بشق الأنفس بجهود الناشطين والدول الضعيفة المعرضة للخطر منذ اتفاق باريس في 2015.

بدلًا من تشويه سمعة كل من يتعهد بتطبيق أهداف الصفر الصافي، فإننا ندعو للتمييز بين الأهداف الجادة والأهداف المضللة. لن تشرع جميع المؤسسات في رحلتها لتطبيق أهداف الصفر الصافي بخطة عمل مثالية وكاملة، ولكن يجب عليها توضيح طريقة وصولها لهدفها، فالذين يفعلون هذا يستحقون الثناء إن كانت خططهم قوية وقابلة للتطبيق، في حين يستحق النقد أولئك الذين لا يمتلكون خطة من الأساس أو خططهم غير قابلة للتطبيق وبعيدة عن الواقع.

ومع كل هذه العيوب، فإن التعزيز واسع النطاق لأهداف صافي الصفر، وخصوصًا التي تسبب انخفاضًا كبيرًا في الانبعاثات في العقد المقبل، يوفر الطريق الأكثر قابلية لتطبيق اتفاق باريس للمناخ، ويمنع بالنتيجة أخطر آثار تغير المناخ من الحدوث. يجب علينا الحصول على صافي الصفر الحقيقي الذي كنا نطمح إليه، لا أن نتخلص منه.

اقرأ أيضًا:

هل تحترق الصين نتيجة الاحتباس الحراري ؟

انبعاثات ثنائي اكسيد الكربون تنخفض ، فهل ننجو من الاحتباس الحراري ؟

ترجمة: رفيف داود

تدقيق: محمد حسان عجك

المصدر