كانت الزراعة من أساسيات نهضة أي حضارة في التاريخ. ولكن في القرن الحادي والعشرين، بات التزايد المستمر لحاجة السكان للتغذية يشكل خطرًا على بيئة الكوكب.

تُنتج الزراعة ما يقارب ربع الانبعاثات التي تؤدي إلى زيادة نسبة الاحتباس الحراري. نصف هذه الانبعاثات أساسها حراثة الأراضي لزراعة القمح والذرة، التي تصدر ثاني أكسيد الكربون إلى الجو. ومن جهةٍ أخرى، فإن استعمال السماد لتحفيز المنتوج يؤدي أيضًا إلى انبعاث غازات الميثان وأكسيد النيتروز.

بهدف تخفيض نسبة التلوث المُنبعث من الزراعة، يعمل الباحثون على عدة أصعدة.

من أهم الطرق نوعيةٌ من الحبوب باسم كيرنزا Kernza ذات الاستعمالات المتعددة: تحويلها إلى الطحين للخبز وحبوب الإفطار، وعنصر أساسي في تصنيع العديد من الأطعمة والمشروبات.

وبعكس أنواع الحبوب المعروفة، فإن كيرنزا تُعد حبوبًا دائمة، إذ تُصنع من نباتات لا تحتاج إلى الزراعة السنوية، ما يخفض من نسبة الحراثة الحاصلة.

إضافة إلى ذلك، تمتلك كيرنزا جذورًا تمتد إلى عمقٍ يزيد عن ثلاثة أمتار ما يساهم في منع ثاني أكسيد الكربون من الانبعاث في الجو. ومن جهةٍ أخرى، تساعدها هذه الجذور في تحمل فترات وآثار الجفاف الحاصل بسبب التغير المناخي.

تباعًا لحصد محاصيل كيرنزا، يمكن استعمال الحقول لرعية الماشية.

دور جمعية الأرض الزراعية:

طُورت كيرنزا في جمعية الأرض الزراعية في سالينا، كانساس منذ عام 1976.

وتقول مديرة الاستراتيجية في الجمعية، راشيل ستروير، إن مؤسس الشركة ويس جاكسون توصل لهذا الاكتشاف الرائع.

رأى جاكسون بأن مشكلة الأساليب الزراعية الحديثة هي تأثيرها السلبي على التربة بسبب استعمال أسلوب الزراعة الأحادية (زراعة محصول واحد في حقل والاعتماد على المحصول السنوي).

تقول ستروير: «نستعمل المحاصيل السنوية منذ 10000 سنة، لذا، هي ليست جديدة».

ولكن مع ازدياد حجم واستعمالات هذه المحاصيل في المزارع الحديثة، ظهرت آثارها السلبية على التربة، خصوصًا مع ازدياد استعمال السماد وتلوث المياه الجوفية. ورأى جاكسون أن الاعتماد على الحبوب الدائمة هو حلٌ أساسي لكل هذه المشاكل والآثار.

وتوضح الجمعية: «أكثر من 70% من الغذاء العالمي يعتمد على الحبوب، إضافة إلى ذلك، ما يقارب تلك النسبة أيضًا من المحاصيل الزراعية هي حبوب، لذا، فإن اعتماد الحبوب الدائمة (المعمرة) بدلًا عن المحاصيل السنوية هو الحل الأنسب ليكون لدينا غذاء دائم ومتجدد في المستقبل».

صعوبة تطوير محصول غذائي جديد:

إن تطوير نوعية جديدة من المحاصيل تحدٍ صعب ويتطلب وقتًا. ولكن عام 1983، وجد الباحثون في معهد رودال (مركز بحثي) نبتةً تسمى عشب القمح المتوسط (الاسم العلمي: thinopyrum intermedium)، سلالةٌ من القمح من الممكن تطويرها لتصبح من الحبوب الدائمة.

وبالتعاون مع الباحثين من وزارة الزراعة الأمريكية، عُمل على تطوير وتحسين هذا النوع من القمح.

من جهةٍ أخرى، وفي عام 2003، بدأت جمعية الأرض الزراعية بتطوير عشب القمح المتوسط. وبقيادة الباحث لي ديهان، استغرق الأمر سنوات لتطوير حبوب كيرنزا.

لم تتغير طريقة تطوير نوعيات جديدة من الحبوب منذ العصور القديمة، إذ تُربى وتطور عدة أجيال من نبتة ما للوصول إلى الخصائص المرغوب بها.

وتوضح ستروير قائلةً إن العملية تتضمن تهجين نوعين من النباتات للحصول على نوعٍ جديد، وتضيف: «على مدى السنوات، تُحفظ الأنواع التي تحمل عددًا لا بأس به من البذور».

يمتلك الباحثون حاليًا أدواتٍ لم يمتلكها القدماء، إذ تُستعمل طريقة تُدعى التهجين الجزيئي، إذ تُحلل كل نبتة جينيًا لمعرفة النباتات التي تتمتع بالقدرة على التطوير والتهجين.

وتقول ستروير: «تطلب الأمر عشرة آلاف سنة من الزراعة البدائية، إضافة إلى مئتي سنة من التهجين المتطور للوصول إلى النتائج التي نمتلكها اليوم».

وبالمقارنة، فإن تطوير كيرنزا تطلب عشرين سنة، وسيتطلب الأمر عشرين سنة أخرى لتصبح منافسة في السوق الغذائي.

ولكن تطوير كيرنزا وجعلها متاحة في السوق يتطلب الكثير من العمل إذ يعمل الباحثون على زيادة حجم ومنسوب البذور.

صعوبة حصد المحصول:

بعكس القمح التقليدي، هناك صعوبة بحصد محصول حبوب كيرنزا، فالقمح التقليدي يتميز بسهولة حصد حبوبه التي تتفكك عن النبتة مباشرةً، أما كيرنزا، فهناك خطوة أخرى، إذ ينبغي فصل القشرة الخارجية عن الحبوب قبل تحويلها إلى طحين.

ويوضح مات ريان، الباحث في جامعة كورنيل، قائلًا: «هناك صعوبة في حصاد حبوب كيرنزا، فإن جذور الأخيرة تبقى خضراء حتى بعد نضوج الحبوب، ما يسبب صعوبة في الحصاد، بعكس القمح التقليدي الذي يذبل ويصبح سهل الحصاد».

وبهدف حل هذه المشكلة، يطمح الباحثون إلى تهجين حبوب كيرنزا لتصبح سهلة الحصاد، إضافة إلى العمل على زيادة نسبة المحصول من هذه الحبوب.

وبهدف تحقيق ذلك، جُمعت العديد من البيانات من المزارعين لمعرفة الوقت الأنسب لحصاد حبوب كيرنزا، وتحديد الشروط الأفضل للوصول لأعلى نسبة حصاد.

حاليًا، تُزرع حبوب كيرنزا فيما يزيد عن 819 هكتارًا، في 15 ولاية مختلفة، ويعمل عليها ما يفوق مئة مزارع وخمسين باحثًا، بهدف التحسين من جودتها.

إضافة إلى ذلك، يعمل الباحثون مع الخبازين وصانعي الجعة للبحث في تطبيقات متنوعة لحبوب كيرنزا، وصنع سوق كامل لها في المستقبل.

يُباع أول منتج حاليًا، وهو جعة لونغ روت بايل، إذ يؤكد المصنعين لهذه الجعة، إيجابيات استعمال حبوب كيرنزا.

علق الباحث في جامعة أوهيو، ستيف كولمان، قائلًا: «أعمل على تطوير كيرنزا منذ عشر سنوات، وهذه الرحلة البحثية جميلة للغاية. إنني اليوم أقدّر -أكثر من أي شخص- العمل الذي نحتاجه لتصنيع وتطوير نوعية جديدة من الحبوب، إذ يتطلب الأمر عملًا جديًا وتعاونًا من الباحثين، وتسويقًا للمنتج المصنع. إنه بالفعل عملٌ متعب، ولكن هذا هو الجزء الجميل فيه».

البرنامج الذي يُطور كيرنزا هو جزء من العديد من البرامج التي تعمل على تطوير نوعية جديدة من الحبوب ذات خاصية الدوم، التي يأمل العديد أن تستبدل المحاصيل السنوية الحالية. بعضٌ من هذه البرامج يعمل على الذرة والبذور الزيتية والبقوليات لتطويرها لتصبح دائمة.

ساعدت جمعية الأرض الزراعية أيضًا بالبدء ببرنامجٍ بحثي بالصين للوصول إلى الأرز الدائم. وتختتم ستروير حديثها: «الهدف الذي نطمح له بعيد المدى، إذ إننا نحلم باستبدال الحبوب السنوية بالحبوب المعمرة».

اقرأ أيضًا:

ما هي الزراعة المستدامة ؟

منسوب غاز الميثان يرتفع عالميا ، كيف ساهمت الأراضي الرطبة والزراعة في ذلك

ترجمة: محمد علي مسلماني

تدقيق: مازن النفوري

المصدر