يمكن تتبع تطور الفولاذ إلى بداية العصر الحديدي قبل 4000 عام، حين أثبت أنه أقسى وأقوى من البرونز الذي كان المعدن الأكثر استخدامًا. بدأ الحديد يستبدل البرونز في صناعة الأسلحة والأدوات.

لعدة آلاف من السنوات اللاحقة، اعتمدت جودة الحديد المنتج على المعدن الخام المتوفر وعلى طرق الإنتاج.

بحلول القرن السابع عشر، كانت خصائص الحديد مفهومة على نحو جيد، لكن التوسع الحضري المتزايد في أوروبا تطلّب معدنًا هيكليًّا متعدد الاستخدامات. وبحلول القرن التاسع عشر، أعطت كمية الحديد المستهلكة في توسيع السكك الحديدية علماء المعادن حافزًا ماديًا لإيجاد حل لهشاشة الحديد وعدم كفاءته في عمليات الإنتاج.

حدث التقدم الأكبر في تاريخ الفولاذ عام 1856، عندما طور هنري بيسمر طريقة فعالة لاستخدام الأكسجين للحد من محتوى الكربون في الحديد، وُلدت حينها صناعة الفولاذ الحديثة.

عهد الحديد:

يبدأ الحديد بتشرّب الكربون في درجات الحرارة العالية، ما يقلل من نقطة انصهار المعدن، وينتج حديد الصب، الذي يحوي نسبة 2.5% إلى 4.5% من الكربون. إن تطور أفران الصهر التي استخدمها الصينيون للمرة الأولى في القرن السادس قبل الميلاد واستُخدِمت على نحو أوسع في أوروبا، زاد من إنتاج الحديد الصب.

الحديد الصب هو الحديد المنصهر الخارج من أفران الصهر، ويُبَرد في القناة الرئيسية والقوالب المجاورة. الحديد الصب قوي لكنه يعاني الهشاشة بسبب احتوائه على الكربون، ما يجعله غير مثالي للعمل والتشكيل.

أدرك علماء المعادن أن مشكلة الهشاشة تتعلق بنسبة الكربون المرتفعة في الحديد، لذا اختبروا أساليب جديدة لجعل الحديد أكثر قابلية للتطبيق والاستخدام.

بحلول أواخر القرن الثامن عشر، تعلم صانعو الحديد كيفية تحويل الحديد الصب إلى الحديد المطاوع قليل الكربون باستخدام أفران التسويط، التي طورها هنري كورت عام 1784. تسخن الأفران الحديد المنصهر، الذي يحركه عمال الصهر باستخدام أدوات طويلة تشبه المجادف، ما يسمح للأكسجين بالاندماج وإزالة الكربون ببطء.

ترتفع درجة انصهار الحديد عندما ينخفض مستوى الكربون فيه، لذلك تتجمع كتل من الحديد في الفرن، تُزال هذه الكتل الحديدية ويعالجها العمال باستخدام المطارق قبل أن تُحوَّل إلى ألواح أو قضبان. بحلول عام 1860، وُجد أكثر من 3000 فرن تسويط في بريطانيا، لكن واجهت هذه العملية عوائق كبيرة، مثل الحاجة إلى الكثير من الأيدي العاملة والوقود.

يُعد الفولاذ المُنفّط أحد أقدم أشكال الفولاذ، وقد بدأ إنتاجه في ألمانيا وإنكلترا في القرن السابع عشر، وأُنتِج بزيادة مستوى الكربون في الحديد الخام المنصهر باستخدام عملية التقسية. في هذه العملية توضَع قضبان من الحديد المطاوع مع طبقات مع الفحم المسحوق في صناديق حجرية وتُسخن.

بعد نحو أسبوع يمتص الحديد الكربون الموجود في الفحم. يوزع التسخين المتكرر الكربون على نحو أكثر توازنًا، فينتج بعد التبريد الفولاذ المُنفّط. يجعل محتوى الكربون العالي الفولاذ المُنفّط قابلًا للتطبيق أكثر من الحديد الخام، ما يسمح بضغطه أو لفّه.

تحسن إنتاج الفولاذ المُنفّط في أربعينيات القرن الثامن عشر، عندما وجد صانع الساعات الإنكليزي بنجامين هانتسمن -بينما كان يحاول تطوير فولاذ عالي الجودة من أجل نوابض ساعته- أن المعدن يمكن صهره في بوتقات من الطين، ثم تكريره باستخدام تدفق خاص لإزالة الخبث الذي خلفته عملية التقسية، وكانت النتيجة بوتقة أو قالب فولاذ. لكن بسبب تكلفة الإنتاج، استُخدم الفولاذ المُنفّط والفولاذ المسبوك فقط في بعض التطبيقات الخاصة.

لذلك، بقي حديد الصب المصنوع في أفران التسويط المعدن الهيكلي الأساسي في بريطانيا الصناعية خلال معظم القرن التاسع عشر.

عملية بيسمر وتصنيع الفولاذ الحديث:

شكّلت زيادة بناء السكك الحديدية في القرن التاسع عشر في كل من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ضغطًا هائلًا على صناعة الحديد، التي ظلت تعاني عدم كفاءة الإنتاج، إذ لم يثبت الفولاذ نفسه بوصفه معدن بناء، وكان إنتاجه بطيئًا ومكلفًا. استمر ذلك حتى عام 1856 عندما توصل هنري بيسمر إلى طريقة أكثر فاعلية لإدخال الأكسجين إلى الحديد المنصهر، لتقليل محتوى الكربون، ما يعرف اليوم بطريقة بيسمر.

صمم بيسمر وعاءً على شكل إجاصة، يسمى «المحول»، حيث يمكن تسخين الحديد بينما يُنفخ الأكسجين عبر المعدن المنصهر. عندما يمر الأكسجين عبر المعدن المنصهر فإنه يتفاعل مع الكربون، ويطلق ثاني أكسيد الكربون، فينتج حديد أنقى.

كانت العملية سريعةً ورخيصة، وتزيل الكربون والسيلكون من الحديد خلال دقائق، لكنها كانت «ناجحة أكثر من اللازم»، إذ تُزال كمية كبيرة من الكربون، ويبقى الكثير من الأكسجين في المنتج النهائي. اضطر بيسمر في النهاية لرد الأموال إلى المستثمرين إلى أن يجد طريقة لزيادة محتوى الكربون وإزالة الأكسجين غير المرغوب فيه.

في الوقت ذاته تقريبًا، توصل عالم المعادن البريطاني روبرت موشيه إلى مُركب من الحديد والكربون والمنغنيز، عُرف باسم «سبيجليسين». من المعروف أن المنغنيز يزيل الأكسجين من الحديد المنصهر، وبإضافة الكربون بكميات مناسبة، سيوفر ذلك حلًا لمشكلة بيسمر. بدأ بيسمر بإضافة المركب إلى عملية التحويل الخاصة به، ما أدى إلى نجاح كبير.

بقيت مشكلة واحدة، وهي فشل بيسمر في إيجاد طريقة لإزالة الفوسفور، وهو شائبة ضارة تجعل الفولاذ هشًا. لذلك كان من الممكن استخدام خام الحديد الخالي من الفوسفور، من السويد وويلز فقط.

عام 1876 توصل الويلزي سيدني جيلكريست توماس إلى الحل، بإضافة مذيب كيميائي أساسي (الكلس) إلى عملية بيسمر. يجذب الكلس الفوسفور من الحديد الخام إلى الخبث، ما يسمح بإزالة العنصر غير المرغوب.

جعل هذا الابتكار استخدام الحديد الخام من أي مكان في العالم لتصنيع الفولاذ ممكنًا. وليس غريبًا أن تبدأ تكاليف إنتاج الفولاذ بالانخفاض على نحو كبير، إذ انخفضت أسعار القضبان الفولاذية أكثر من 80% بين عامي 1867 و1884. نتيجةً لتقنيات التصنيع الجديدة، بدأ نمو صناعة الفولاذ العالمية.

عملية الموقد المفتوح:

في ستينيات القرن التاسع عشر، حسَّن المهندس الألماني كارل ويلهام سيمنس عملية إنتاج الفولاذ بنحو أوسع بابتكاره عملية الموقد المفتوح. أنتجت عملية الموقد المفتوح الفولاذ من الحديد الخام في أفران ضحلة.

تعتمد هذه العملية -التي تستخدم درجات حرارة عالية لحرق الكربون الزائد والشوائب الأخرى- على غرف القرميد الساخنة أسفل الموقد. تستخدم الأفران الغاز الناتج للحفاظ على درجات حرارة عالية في غرف القرميد في الأسفل.

سمحت هذه الطريقة بإنتاج كميات أكبر بكثير -إنتاج 50 إلى 100 طن متري للفرن الواحد- وإجراء اختبار دوري للفولاذ المنصهر، إذ يمكن صنعه ليوافق مواصفات معينة، واستخدام خردة الفولاذ مادةً أولية. ومع أنها كانت عملية أبطأ بكثير، فإنه بحلول عام 1900، حلت عملية الموقد المفتوح محل عملية بيسمر لإنتاج الفولاذ.

ولادة صناعة الفولاذ:

اعترف العديد من رجال الأعمال في ذلك الوقت بثورة إنتاج الفولاذ، التي قدمت مادة أرخص وأعلى جودة، بوصفها فرصةً استثمارية. استثمر الرأسماليون في أواخر القرن التاسع عشر، ومنهم أندرو كارنيجي وتشارلز شواب، وجنوا الملايين في صناعة الفولاذ. كانت شركة كارنيجي الأمريكية لصناعة الفولاذ، التي تأسست عام 1901، أول شركة تأسست بقيمة تزيد على مليار دولار.

صناعة الفولاذ باستخدام فرن القوس الكهربائي:

بعد مطلع القرن، حدث تطور آخر كان له تأثير قوي على تطور إنتاج الفولاذ. صُمم فرن القوس الكهربائي، الذي اخترعه بول هيرلوت، لتمرير تيار كهربائي عبر مادة مشحونة، ما يؤدي إلى أكسدة مُطلِقة للحرارة، بدرجات حرارة تصل إلى 1800 درجة مئوية، وهي أكثر من كافية لتسخين الفولاذ المنتج.

استُخدمت الأفران القوسية في البداية لتصنيع الفولاذ الخاص، ثم توسع استخدام الأفران القوسية، وبحلول الحرب العالمية الثانية، استُخدمت في تصنيع سبائك الفولاذ. سمح انخفاض تكلفة إنشاء أفران القوس الكهربائية بمنافسة المنتجين الرئيسيين في الولايات المتحدة، مثل الشركة الأمريكية لصناعة الفولاذ وشركة بيت لحم لصناعة الفولاذ، خاصةً الفولاذ الكربوني والمنتجات الطويلة.

ولما كانت أفران القوس الكهربائية تستطيع إنتاج الفولاذ من الخردة بالكامل، أو من الحديد البارد، فإن العملية تتطلب طاقة أقل لكل وحدة إنتاج. وعلى عكس مواقد الأكسجين الأساسية، يمكن إيقاف العمليات والبدء بها بتكلفة قليلة. لهذا توسع الإنتاج بواسطة أفران القوس الكهربائية باطّراد لأكثر من خمسين سنة، وتمثل 33% من إنتاج الفولاذ العالمي.

صناعة الفولاذ باستخدام الأكسجين:

يُنتَج معظم الفولاذ العالمي (نحو 66%) في منشآت الأكسجين القاعدية. سمح تطوير طريقة لفصل الأكسجين عن النيتروجين على نطاق صناعي في الستينيات بتقدم كبير في تطوير أفران الأكسجين القاعدية.

تنفخ «أفران الأكسجين القاعدية» الأكسجين على كميات كبيرة من الحديد المنصهر والخردة، ويمكنها إكمال الشحنة بسرعة أكبر مقارنةً بطريقة الموقد المفتوح. تستطيع الأوعية الكبيرة -التي تحمل أكثر من 350 طنًا متريًا من الحديد- إتمام عملية التحويل إلى الفولاذ في أقل من ساعة.

كانت عملية صناعة الفولاذ بالأكسجين أكثر كفاءة فيما يتعلق بالتكلفة، ما جعل مصانع الموقد المفتوح غير قادرة على المنافسة، وبدأت بالإغلاق بعد ظهور صناعة الفولاذ بالأكسجين. وأُغلقت آخر منشأة تستخدم طريقة المواقد المفتوحة في الولايات المتحدة عام 1992، وفي الصين عام 2001.

اقرأ أيضًا:

إنسبيرايشن4 تنهي رحلة 3 أيام تاريخية حول مدار الأرض بأمان

في لحظة حرجة من تاريخ العالم، مهندسو المناخ يفوزون بجائزة نوبل في الفيزياء

ترجمة: بديع عيسى

تدقيق: عبد الرحمن داده

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر