عندما نقرأ تاريخ الحضارات، نجد أننا نطالع تاريخ علم الكيمياء أيضًا، الذي يمكن تعريفه بأنه المجال الذي يدرس المادة وخصائصها. لطالما سعى البشر لتعريف المواد الموجودة في بيئتنا واستخدامها وتغييرها، إذ نجد أن الخزّافين القدماء قد اكتشفوا الطلاء الزجاجي أو الخزف الجميل واستخدموه لتزيين منتجاتهم وحفظها، أما رعاة الماشية وصانعو الخمر والنبيذ فقد استغلوا تقنية التخمير لصنع الجبن والبيرة والخمر، في حين عملت ربات البيوت على تنقية بقايا الخشب المحترقة ليخرجن بالمحاليل القلوية التي يصنعن الصابون منها، وتعلم الحدادون دمج النحاس والقصدير ليخرجوا بمعدن جديد: البرونز، وتعلم الحرفيون أيضًا صناعة الزجاج والمشغولات الجلدية والجلود المدبوغة.

في القرن الثامن بعد الميلاد كان جابر بن حيان -فلكي وفيلسوف وعالم مسلم- أول من استفاد من الطرائق العلمية لدراسة المواد. عُرِف ابن حيان باسمه اللاتيني «Geber» واشتُهِر بلقب «أبي الكيمياء» ويُعتقَد أنه مؤلف 22 صحيفةً يشرح فيها كيفية إجراء عمليات التقطير والبلورة والتسامي -تحوُّل المادة من حالة صلبة إلى غازية دون المرور بالمرحلة السائلة- والتبخير. اخترع ابن حيان الإنبيق، وهو جهاز قديم استخدمه لتكرير الأحماض ودراستها. طوّر ابن حيان أيضًا نظام تصنيف كيميائي مستخدمًا خصائص المواد التي درسها، ويندرج هذا النظام في ثلاث فئات هي:

  1.  المواد الروحية: أي التي تتبخر عندما تُسخَّن.
  2.  المعادن: التي تشمل الحديد والقصدير والنحاس والرصاص.
  3.  المواد غير القابلة للطرق: أي تلك التي تُحوَّل إلى مسحوق مثل الحجر.

يشبه ذلك التسميات المعاصرة: الكيماويات المتطايرة، والفلزات واللافلزات.

الكيمياء التقليدية:

في أوروبا، كانت الكيمياء التي عمل عليها الخيميائيون تهدف إلى تحويل المعادن الشائعة إلى معدني الذهب أو الفضة، واختراع إكسير من شأنه أن يطيل الحياة. مع أن هذه المحاولات لم تصل قط إلى مبتغاها، وُجدت بعض الاكتشافات المهمة في خضم تلك المحاولات.

نستعرض الآن أبرز من ترك إسهامات مميزة في علم الكيمياء:

روبرت بويل (1627-1691):

درس سلوك الغازات، واكتشف العلاقة العكسية بين حجم الغاز وضغطه، قال: «نستطيع أن نفسر الواقع والتغيُّر في العناصر الأساسية وحركتها». يُعد هذا التصريح فهمًا أوليًا للنظرية الذرية. سنة 1661 كتب بويل كتابه الأول في الكيمياء «الكيميائي المتشكك»، الذي قطع فيه الصلة الغامضة بين دراسة المواد والخيمياء، ووضعه على مسار التحقق والبحث العلمي.

وبحلول القرن الثامن عشر، كان عصر التنوير قد ضرب جذوره عميقًا في جميع أنحاء أوروبا.

جوزيف بريستلي (1733-1804):

فنَّد الفكرة القائلة إن الهواء عنصر غير قابل للتجزئة، وأثبت أنه مزيج من الغازات، عندما عزل الأكسجين واستمر بتجربته حتى اكتشافه سبعة غازات أخرى غير معروفة.

تابع جاك تشارلز أعمال بويل في الكيمياء وعُرف بإيجاده العلاقة المباشرة بين درجة الحرارة وضغط الغازات. سنة 1794 درس جوزيف بروست العناصر الكيميائية النقية، وصاغ قانون النسب الثابتة الذي يبين أن لكل مركب كيميائي نسبة محددة خاصة به من المكونات الأولية. مثلًا يتكون الماء من نسبة ثابتة من الأكسجين والهيدروجين: ذرتي هيدروجين لكل ذرة أكسجين.

أنتونيو لافوازييه (1743-1794):

كيميائي فرنسي له إسهامات مميزة في العلوم. ساهم لافوازييه في أثناء عمله بوصفه محصل ضرائب بتطوير النظام المتري، لجعل الأوزان والمقاييس موثوقة أكثر.

قُبِل لافوازييه في الأكاديمية الفرنسية للعلوم عام 1768 وبعد سنتين تزوج ابنة أحد زملائه، وكانت تبلغ 13 سنة، أما هو فكان يبلغ 28 عامًا.

عُرِفت ماري آن لافوازييه بمساعدتها لزوجها في أبحاثه العلمية بترجمتها المقالات الإنجليزية، وتوضيح تجاربه برسم عدد كبير منها.

كان لاهتمام لافوازييه الشديد بالقياس الدقيق دورًا في اكتشافه قانون بقاء الكتلة. عام 1787 نشر لافوازييه كتابه «قواعد في التسمية الكيميائية» الذي يشمل قواعد تسمية المركبات الكيميائية التي لا نزال نستخدمها حتى اليوم. وكان كتابه «رسالة علمية أولية في الكيمياء» أول كتاب كيميائي حديث نُشِر عام 1789، الذي عرَّف فيه العنصر الكيميائي تعريفًا واضحًا بأنه مادة لا يمكن تقليل وزنها بواسطة تفاعل كيميائي، وأحصى الأكسجين والحديد والكربون والكبريت وثلاثين عنصرًا آخر من العناصر المعروفة آنذاك. لم يخلُ الكتاب من أخطاء، إذ عدّ الضوء والحرارة من العناصر.

إيميديو أفوغادرو (1776-1856):

محامٍ إيطالي بدأ بدراسة العلوم والرياضيات عام 1800. درس أفوغادرو أبحاث بويل وتشارلز، وتوسع فيها بتوضيحه الاختلاف بين الذرات والجزيئات، وتابع عمله ليبين أن للأحجام المتساوية من الغاز التي تتماثل في درجة الحرارة والضغط العدد ذاته من الجزيئات. وقد أُطلِق على عدد الجزيئات في عينة وزن جزيئي 1 غرام (1 مول) من المادة النقية: ثابت أفوغادرو، تكريمًا له. تحدد ثابت أفوغادرو تجريبيًا ليكون 6.023 × 10 23جزيء، وهذا عامل تحول مهم لتحديد كتلة المواد المتفاعلة والنواتج في التفاعلات الكيميائية.

سنة 1803 كان عالم الأرصاد الجوية جون دالتون (1766-1844) يتأمل ظاهرة بخار الماء. أدرك أن بخار الماء جزء من الغلاف الجوي، لكن التجارب بينت أن بخار الماء لا يتشكل في غازات معينة أخرى. افترض دالتون أنه ربما لهذا علاقة بعدد الجسيمات الموجودة في تلك الغازات. فربما لا يوجد مجال في تلك الغازات لنفاد جزيئات بخار الماء. فإما أن هذه الغازات الأثقل تحوي جزيئات أكثر، وإما أن تلك الجزيئات أكبر. باستخدام معلوماته الخاصة وقانون النسب الثابتة، حدد دالتون الكتل النسبية لجزيئات ستة عناصر معروفة وهي الهيدروجين (العنصر الأخف، كتلته= 1)، والأكسجين، والنيتروجين، والكربون، والكبريت، والفسفور. فسّر دالتون النتائج التي توصل إليها بوضعه مبادئ أول نظرية ذرية للمادة، وهي:

تتألف العناصر من جزيئات شديدة الصغر تُسمَى ذرات.

  1.  تتطابق جزيئات ذات العنصر في الحجم والكتلة والخصائص الأخرى، في حين تختلف ذرات العناصر المختلفة في ذلك.
  2.  لا نستطيع خلق الذرات أو تقسيمها أو تدميرها.
  3.  تتّحد ذرات العناصر المختلفة في نسب بسيطة من أعداد صحيحة لتشكِّل المركبات الكيميائية.
  4.  في التفاعلات الكيميائية، تخضع الذرات للتركيب والفصل وإعادة الترتيب لتشكيل مركبات جديدة.

ديمتري مندليف (1834-1907):

كيميائي روسي مشهور بوضعه أول جدول دوري للعناصر الكيميائية. أدرج مندليف 63 عنصرًا معروفًا، مُرفِقًا خصائص كل عنصر على بطاقات. بترتيب العناصر بالتوافق مع الكتلة الذرية المتزايدة، استطاع جمع عناصر بخصائص متشابهة. ومع وجود استثناءات بسيطة، فإن كل عنصر سابع يملك خصائص متشابهة (لم تكن المجموعة الكيميائية الثامنة أي مجموعة الغازات النبيلة قد اكتُشفَت بعد). لاحظ مندليف أنه إذا أخلى مساحة لعناصر غير معروفة بعد وكانت تتلاءم مع النمط، فإن الجدول الدوري سيكون أدق. وباستخدام المساحات الفارغة في جدوله، استطاع مندليف توقع خصائص العناصر التي لم تُكتشف بعد. حُدِّث الجدول الدوري الذي وضعه مينديليف وشمل بعد التحديث 92 عنصرًا موجودين في الطبيعة، و26 عنصرًا مُصنعًا.

وصف الذرة:

سنة 1896، اكتشف هنري بيكريل الإشعاع، وبالتعاون مع بيير وماري كوري، بيَّن بيكريل أن عناصر معينة تصدر طاقة بمعدلات ثابتة. سنة 1903 تشارك بيكريل جائزة نوبل في الفيزياء مع الزوجين كوري لاكتشافه النشاط الإشعاعي (حصلت كوري لاحقًا على نوبل في الكيمياء لنجاحها في فصل عنصر الراديوم). سنة 1900 اكتشف ماكس بلانك أن الطاقة تصدر في وحدات غامضة أطلق عليها الكوانتا -سُميت الفوتونات لاحقًا- وليس في موجات مستمرة، وتبين أن الذرات تتألف من جزيئات أصغر حجمًا بعضها يمكنه أن يتحرك بعيدًا.

سنة 1911، برهن إرنست رذرفورد أن الذرات تتكون من منطقة كثيفة ذات شحنة موجبة، يحيط بها فراغ كبير نسبيًا تتحرك فيه جزيئات أصغر سالبة الشحنة (الإلكترونات). افترض رذرفورد أن الإلكترونات تحوم حول النواة في مدارات منفصلة مرتبة مثلما تدور الكواكب حول الشمس. ولأن النواة أكبر وأكثف من الإلكترونات، عجز رذرفورد عن تفسير لم لا تجذب النواة الإلكترونات وتبتلعها مسببةً فناء الذرة.

حلَّت صيغة نيلز بور الذرية هذه المعضلة باستخدام معلومات بلانك، إذ تنبعث الفوتونات فقط عند تحفيز الذرة كهربائيًا بترددات معينة. افترض بور أن الإلكترونات تستوطن مستويات طاقة مميزة، وأن الضوء ينبعث فقط عندما يُدفَع الإلكترون المثار كهربائيًا لتغيير مستويات الطاقة.

تمتلك الإلكترونات الموجودة في مستوى الطاقة الأول والأقرب إلى النواة طاقة منخفضة نسبيًا. وكلما ابتعدت الإلكترونات عن النواة امتلكت طاقة متزايدة، ولذلك تكون الإلكترونات الموجودة في المستوى الأبعد عن الذرة غير مرتبطة بإحكام ولها اليد الطولى عندما تترابط الذرات لتشكيل المركبات. الطبيعة الدورية لخصائص العناصر هي نتيجة عدد الإلكترونات في مستوى الطاقة الخارجي، التي يمكن أن تكون جزءًا في الروابط الكيميائية. مع أن صيغ ذرية أدق قد حلت مكان صيغة بور، فإن المبادئ الأساسية لصيغته صحيحة، ولا تزال تُستخدَم بوصفها مخططات مبسطة لإظهار الترابط الكيميائي.

يستمر فهمنا للذرة بالتحسن تدريجيًا. سنة 1935 مُنِح جيمس تشادويك جائزة نوبل لاكتشافه وجود عدد مساوٍ من الجسيمات متعادلة الشحنة الكهربائية في نواة الذرة. ولما كانت النيوترونات متعادلة الشحنة، فإنها لا تصطدم مع الإلكترونات أو البروتونات. تمتلك النيوترونات كتلة أكبر من البروتونات، ولهذا تستطيع النيوترونات اختراق الذرات وتحطيم أنويتها ما يطلق كميات هائلة من الطاقة.

في السنوات الأخيرة كان من الواضح جدًا أن البروتونات والإلكترونات والنيوترونات في الكيمياء التقليدية تتكون من جزيئات دون ذرية. ومع تقدم الزمن تقاطعت طرق علمي الفيزياء والكيمياء وتداخلت النظريات وتصادمت، مع استمرارنا في سبر أغوار المادة التي خُلِق منها كوننا.

اقرأ أيضًا:

أقوال ماري كوري: أهم اقتباسات عالمة الفيزياء والكيمياء العظيمة

ما هي الذرة ؟ نموذج دالتون

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: عبد الرحمن داده

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر