كيف يعمل مرصد جيمس ويب؟

إن معرفتنا عن الكون محدودة بالتكنولوجيا التي نمتلكها، ولكن لا حدود للخيال. عند جلوسنا أمام النار المشتعلة، لا نتمكن من رؤية الأشياء الموجودة خلفها بسبب قوة سطوع هذه النيران، ولكن عند ابتعادنا عن النيران، نرى بوضوح.

للنظر بعمق والتعرف على أسرار الكون، لا يكفي فقط أن نبتعد عن أضواء المدن التي تحجب الرؤية عن السماء بسبب التلوث الضوئي، إذ يحتاج الأمر إلى أدوات نستعملها للاطلاع بنحو أفضل على حقيقة هذا الكون. إن العلوم الفلكية بحاجة دائمة إلى هذه الأدوات لتتمكن من التطور والتوسع.

منذ 400 عام، استطلعنا الأقمار الموجودة حولنا باستعمال أول تلسكوب، وبعد الأقمار، استطلعنا العديد من الأجرام السماوية التي تتخطى الخيال كالسديم، والنجوم النيوترونية وغيرها.

أما القرن العشرين، فقد كان مركز اهتمامٍ علمي كبير، إذ تمكن الباحثون من تطوير المقراب الراديوي (radio telescope)، وتمكنت هذه التكنولوجيا من إثبات التحرك الدائم للمجرات.

ومع مرور السنين، تطورت التكنولوجيا، وأرسلنا التلسكوبات إلى الفضاء، كتلسكوب هابل وكيبلر، وقد أثبت الأخير وجود العديد من الكواكب الخارجية في مجرتنا وفي الكون، بعكس ما كان متعارفًا عليه عن ندرة تلك الأجرام.

أما الآن، فقد حان دور مرصد جيمس ويب، الذي يشكل نهضة علمية فلكية، إذ أرسل بعيدًا إلى ما يقارب 1.5 مليون كيلومتر عن الأرض، ليدور بعيدًا محاولًا إيجاد وكشف الأسرار الكونية.

مرصد ويب، الذي أُطلق في 25 من ديسمبر 2021، بُني بالاشتراك بين وكالة ناسا، والوكالة الفضائية الأوروبية، والوكالة الكندية الفضائية.

ويهدف الباحثون عبر هذا التيليسكوب إلى النظر بعيدًا وبعمق في الزمن وعبر الكون، ليتمكنوا من الإجابة عن العديد من التساؤلات المتعلقة بالنجوم والمجرات التي كانت في بداية الكون.

مهمة التيليسكوب:

إن مهمة مرصد جيمس ويب هي دراسة البيانات الخاصة بأربعة مراصد لوكالة ناسا، وتوسيع آفاق هذه البيانات.

تمكنت هذه المراصد سابقًا من تحصيل بيانات لكافة الأجرام الفضائية في إشعاعاتٍ متعددة، كالسينية والجاما وغيرها.

إن تلسكوب هابل، الذي انطلق في عام 1990، الذي سُمي خلفًا للفلكي الشهير إدوين هابل، تمكن من تحصيل بيانات وصور بالأشعة فوق البنفسجية وتحت الحمراء، وكان أحد أهم المراصد تاريخيًا، إذ ساعد على التعرف على العديد من الأسرار الكونية (مثل عملية ولادة وموت النجوم).
مر
مع انطلاق مرصد جيمس ويب، سيكمل هابل مهمته وسيكون يد مساعدة للتلسكوب الحديث في أثناء فترة عمله المتبقية.

إضافةً إلى هابل، هنالك مرصد كومبتون لأشعة جاما، ومرصد تشاندرا الفضائي للأشعة السينية، إضافةً إلى تلسكوب سبيتزير الفضائي.

إن مهمة تلسكوب تشاندرا الذي أُطلق في عام 1999 -ومداره على علو 139000 كيلومتر- هي مراقبة الثقوب السوداء والغازات ذات الحرارة العالية، التي تقع في الطيف السيني (طول موجة الأشعة السينية)، إضافةً إلى كونه يرصد ويجمع بيانات عن بداية الكون.

من جهةٍ أخرى، فإن تلسكوب سبيتزر أُطلق في عام 2003، ومهمته كانت رصد ولادة النجوم، والمراكز المجرية، إضافةً إلى رصد الجزيئات المختلفة في الفضاء.

يذكر أن فترة عمل بيتزر كانت مقدرة بعامين ونصف، ولكنه استمر حتى بدايات عام 2020.

أما مرصد كومبتون، فقد أُطلق عام 1991، وقد اهتم برصد انفجارات ظواهر ذات طاقة عالية، بين 30 كيلو إلكترون فولت، و30 جيجا إلكترون فولت.

إن ما يميز تلسكوب جيمس ويب هو الأدوات والتكنولوجيا التي يمتلكها، وتمكنه من النظر في طيف الأشعة ما دون الحمراء.

ولكن ما أهمية الأشعة ما دون الحمراء؟ إن النجوم والكواكب تتكون وتتشكل خلف الغبار الموجود في الفضاء، ما يصعب رؤيتها. ولكن تستطيع الأشعة ما دون الحمراء المرور عبر هذا الغبار وكشف ما يوجد خلفه.

يأمل الباحثون من التمكن من النظر بعمق والتعرف على أول المجرات التي تكونت، إضافةً إلى مراقبة ورصد الأنظمة الشمسية المختلفة التي قد تحمل في داخلها مكونات الحياة.

إن النجوم البدائية التي وجدت في بدايات الكون تحمل في داخلها الإجابات عن العديد من الأسئلة الفيزيائية، لعل أهمها هو أصل وجود المادة المظلمة، الأخيرة هي مادة لا نتمكن من رصدها، ولكننا نرصد التأثيرات الجاذبية التي تسببها، ويتوقع الباحثون أنها أثرت في تشكل أول المجرات.

إضافةً إلى ذلك، يتوقع الباحثون بأن النجوم الضخمة التي وجدت في بداية الكون، قد انفجرت وتحولت إلى ثقوبٍ سوداء، لتصطدم لاحقًا وتشكل ثقوبًا سوداء ضخمة، وتصبح مركزًا للمجرات، كما هو الحال في مجرتنا.

مم يتألف مرصد جيمس ويب؟

قد يبدو مرصد جيمس ويب كأنه يمتلك شكلًا ألماسيًا، وكأنه صُنع بوساطة النحل، كما تظهر تلك التقسيمات الموجودة على سطحه، إضافةً إلى لونه الذهبي.

إن إحدى أهم مهام مرصد جيمس ويب هو أن يصنع درعًا ضد أشعة الشمس ،(sunshield) ومهمة هذا الدرع هي حماية كل أجزاء المرصد.

أما مكونات الدرع مصنوعة من الكابتون (kapton) الذي يمكنه تحمل حرارة منخفضة جدًا، إضافةً إلى معدنٍ عاكس للأشعة .

عند الإقلاع، يكون الدرع الشمسي موجودًا عند هيكلٍ داعم لهذا الدرع، لتسهيل العملية. أما في المركز، توجد المركبة الأساسية، التي توجد فيها كل الأنظمة الكهربائية والتكنولوجية المجهزة والمبرمجة، كالنظام الحراري وأنظمة متنوعة أخرى.

أما على السطح الخارجي لمرصد جيمس ويب، يوجد سلك هوائي إضافةً إلى مستشعر.

أما على الجهة الأخرى من الدرع الشمسي، توجد أداة تصد الضغط الذي تسببه الفوتونات المصطدمة بالمرصد.

أما مرايا المرصد الموجودة فوق الدرع الشمسي، يصل طولها إلى 6.5 متر، مقارنةً بمرايا هابل التي كان طولها لا يتعدى 2.4 متر.

تتألف مرايا جيمس ويب من 18 جزءًا سداسي الشكل، يتكون كل منها من البريليوم.

إن الشكل السداسي لهذه الأجزاء يساهم في جعل الشكل دائريًا إلى حدٍ ما، دون وجود أي فراغات بينها، ما يحسن من التصميم.

النظرة الثاقبة لمرصد جيمس ويب:

إن مرصد جيمس ويب أساسًا هو مرصد للأشعة تحت الحمراء.

العدسة الأساسية ترصد الأشعة القريبة من الأشعة تحت الحمراء (طول موجي بين 800 و2500 نانومتر)، ما يعني قدرتها على رصد الضوء المنبعث من أول النجوم والمجرات التي تكونت.

إضافة إلى ذلك، ستساهم في توسيع معرفتنا عن حزام كايبر، ورصد المجرات القريبة.

إضافةً إلى ذلك، سيوجد جهاز لمراقبة طفو النجوم(coronagraph) ، الذي سيسهل عمل العدسة عند رصد النجوم الساطعة جدًا، ما سيساهم في رصد الكواكب الخارجية بنحوٍ أفضل.

المصور أو المرصد الطيفي الذي يمتلكه مرصد جيمس ويب يعمل على الأشعة القريبة من الأشعة تحت الحمراء أيضًا.

أما قدرته فتكمن في تحويل الضوء المنبعث من النجوم إلى طيفٍ ضوئي، ليتمكن من تحديد خاصيات النجم كمكوناته الكيميائية.

إن مهمة المرصد الطيفي هي رصد مئات المجرات البدائية التي تكونت في بدايات الكون. إن هذه المهمة تُعد صعبة بسبب ضعف الضوء الساطع من هذه المجرات، لذلك، سيلجأ الباحثون إلى استعمال المرآة الأساسية لتساعد على تحسين الضوء القادم وتركيزه لرصده بأعلى دقة وتكوين الطيف الضوئي.

يمتلك الراصد الطيفي ما يقارب 62000 مصراعًا، للمساعدة على حجب الضوء القادم من نجوم أخرى.

مع هذه التقنيات، سيكون المرصد الطيفي الذي يمتلكه مرصد جيمس ويب هو الأول من نوعه الذي سيتمكن من رصد ما يقارب مئة نجمٍ في آنٍ واحد.

أما مستشعر التوجيه الدقيق وراصد الأشعة القريبة من الأشعة تحت الحمراء والراصد الطيفي (FGS-NIRISS)، وهما مستشعرين سيساعدان على رصد الكواكب الخارجية ودراسة الطيف الضوئي لهذه الأجرام. إضافةً إلى ذلك، ستساعد هذه الأداة على تغيير اتجاه المرصد.

أما عدسة الأشعة التي تقع في منتصف ما دون الحمراء، ستساهم في رصد الكواكب والأجرام الصغيرة كالكويكبات والمذنبات.

تمتلك العدسة راصدًا طيفيًا وأداة تصوير، إضافةً إلى كونها تمتلك أوسع نطاق طول موجي (من 5000 نانومتر إلى 28000 نانومتر)، ما سيساهم في إعطاء بيانات مشابهة لتلك التي يتحصل عليها هابل.

مع توسع الكون وابتعاد المجرات عن بعضها بعضًا، يصبح الضوء ميالًا إلى الموجات ذات الطول الأكبر، كالموجات ما دون الأشعة الحمراء.

مع ابتعاد المجرات أكثر، تصبح أهمية مرصد جيمس ويب واضحة، ووجوده أساسيًا ليساهم في رصدنا لتلك المجرات.

إضافةً إلى ذلك، تساهم الأشعة تحت الحمراء في التعرف على مناخ الكواكب الخارجية بنحو أفضل.

إن ما يميز المكونات الكيميائية هو الطيف الضوئي الذي تمتصه.

سيحاول الباحثون القيام بذلك باستعمال ويب، للتعرف على مناخات الكواكب الخارجية بنحو أفضل، وربما المساهمة في رصد حياة خارجية.

الأسئلة التي سيجيب عنها مرصد جيمس ويب:

ستساهم البيانات التي سيتحصل عليها مرصد جايمس ويب في تغيير فهمنا للكون وكشف كل أسراره الحالية، إذ إنه أكبر وأقوى مرصد بُني حتى الآن.

من المتوقع أن تستمر مهمته ما بين 5 و10 سنين، وسيعمل في أثنائها على رصد وعكس جميع البيانات من تاريخ الكون.

سيتمكن مرصد جيمس ويب من النظر إلى ما يقارب 250 مليون عام بعد الانفجار الكوني العظيم، في فترة تكوّن النجوم والكواكب.

لدينا حاليًا دليل على حدوث الانفجار الكوني وهو الإشعاع الخلفي الحراري للكون الميكروي، ولكننا لا نعلم شيئًا عن تلك الفترة وكيفية تكون الأجرام فيها.

من أهم الأسئلة التي سيجيب عنها مرصد جيمس ويب هي كيفية حدوث التأين في الفترات الأولى للكون، إضافةً إلى تحديد الفترة التي حدثت فيها هذه الظاهرة.

إن رصد جيمس ويب للمجرات البدائية سيساهم في كشف أسرار وجود هذه المجرات القديمة وكيفية تشكلها، وكيف تطورت مع مرور ملايين السنين، إضافةً إلى تفسير وجود الثقوب السوداء وعلاقتها بالمجرات والإجابة عن العديد من التساؤلات التي تطرأ حول المكونات الكيميائية للمجرات.

سيجيب مرصد جيمس ويب أيضًا عن كيفية تكون النجوم، إذ كما ذُكر، سيتمكن المرصد من رؤية الأشعة تحت الحمراء، ما سيمكنه من الرؤية عبر الغبار الكوني، ورصد النجوم المتكونة والمجرات وغيرها من الأجرام، ما سيساهم في تفسير كيفية ولادة هذه الأجرام.

إضافةً إلى ذلك، سيجيب مرصد جيمس ويب عن العديد من الأسئلة حول منظوتنا الشمسية، كدوران الكواكب، وحزام كايبر، ما سيساعدنا على التعرف بعمقٍ أكثر على منظومتنا وفهمها بنحو أفضل.

انطلق مرصد جايمس ويب في الخامس والعشرين من ديسمبر من عام 2021، وتطلّب الأمر شهرًا ليصل إلى مركز دورانه، وعند ذلك، بدأت حقبة جديدة من الاكتشاف الفلكي.

اقرأ أيضًا:

تلسكوب ناسا الجديد سيشكل ثورة في رحلة البحث عن كواكب شبيهة بالأرض

«المرصد العظيم»: تلسكوب بقيمة 11 مليار دولار، أقوى من مرصد هابل الفضائي

ترجمة: محمد علي مسلماني

تدقيق: وسام عمارة

مراجعة: حسين جرود

المصدر