هل يوجد حقا فرق بين البشر و الروبوتات؟

قد يبدو السؤال غريبًا أو تافهًا، ولو سألت أحدًا من العامة سؤالًا كهذا لربما نظر إليك بازدراء ولسان حاله يقول: هل سوّلت لك نفسك حقًا أن تقارن الإنسان الذكي بروبوتٍ لا يفكر ولا يستطيع التصرف من تلقاء ذاته، بل كيف تجرؤ على المقارنة بين الروبوت المصنوع وصانعه الإنسان؟

ولكن الحقيقة مختلفة تمامًا، عن ذلك، وللإجابة عن هذا السؤال يجب على القارئ أن يمتلك مهارات علمية ذات علاقة بالعلم الحديث مثل علم الأعصاب “Neuroscience” والذكاء الاصطناعي “Artificial Intelligence” وعلم الروبوتات التطوري “Evolutionary Robotics” والإدراكي “Cognitive Robotics” والنمائي “Developmental Robotics”، وأن يكون ملمًّا بآخر المستجدات والتطورات التكنولوجية في العالم، بل ويشترط أيضًا أن يكون للقارئ مهارات فكرية كالمنطق والنقد العلمي “Critical Thinking” واستقراء المستقبل “Scientific Hypothesis and Prediction”.

وفي الأسطر التالية، سنعرض بعض البحوث والمفاهيم العلمية لمساعدة القارئ على إيجاد الإجابة الصحيحة للسؤال المطروح.

⦁ ماهية الإنسان والروبوت حسب العلم الحديث

إن ضعف فيزيولوجية الإنسان في مواجهة الظروف القاسية للحياة وتدهور صحته مع مرور الزمن ونقص مردود عمل أعضائه الحيوية بسبب الأمراض والحوادث أو حتى بسبب الشيخوخة وعوامل أخرى قد تكون نفسيةً أحيانًا وطبيعيةً أحيانًا أخرى، كلّ هذه الأسباب ألهمت الباحثين حول العالم للسعي نحو إيجاد الحلول العملية والبديلة لبلوغ الإنسان المثالي الذي لا يتعب ولا يمرض، بل إنّ أغلبهم لا يزال يؤمن -إيمانًا مبنيًا على نظريات علمية- باحتمالية الخلود في المستقبل البعيد أو على الأقل العيش لمدة أطول بكثير من متوسط عمر الإنسان اليوم، وذلك باستبدال جسد الإنسان الحالي بجسد أكثر قوة وصلابة، تكون مكونات هذا الجسد البديل ذات مدة صلاحية أطول بكثير مما هو عليه جسم الكائنات الحية في يومنا هذا، وقد ذهب العديد من العلماء إلى النظر نحو تقنية النانو “Nano Tech” بصفتها التقنية التي قد تتيح للبشر أن تحوي أجسامهم مستشفيات وأطباء آليين في منتهى الصغر لإصاح أي عطل تقني أو خلل فني داخل جسم الإنسان الجديد على مدار الساعة لتحاكي آلة الحمض النووي أو اللآلات الجزيئية “Molecular Machines or Nanomachines”.

ومن هذه النظرة المستقبلية -التي جنّد لها علماء من مختلف التخصصات والجنسيات- سنتطرق في غضون أسطر معدودات إلى مفهوم الإنسان وعلاقته بالروبوتات ومدى تأثيرها على حياتنا اليومية.

إنّ أهم سؤال يمكن للشخص أن يطرحه على نفسه هو: ما هو الإنسان؟ هذا السؤال الذي حيّر حتى الفلاسفة على مرّ العصور، فهل هو جسد ودماغ كما يراه العلم، أم هو مزيج من الجسد والروح كما تراه غالبية الديانات؟ ولتبسيط السؤال، سنضرب للقارئ مثالين وعليه أن يحكم بنفسه.

المثال الأول : كيف يعرف إنسان التقى بآخرَ أنّ من التقاه هو حقًا إنسانٌ مثله رغم أنّه لم يتفقد أو يتحقق من ذلك؟ في الحقيقة، لا يكفي أن تحكم على بشريّة كائنٍ ما فقط من مشابهة شكله الخارجي بشكل الإنسان، فقد يكون روبوتًا بشكل إنسان، وأنا اليوم أعمل في مشروع علمي كبير يحمل اسم (إمباكت) “ImPACT” وهي اختصار لجملة “Impulsing Paradigm Change through Disruptive Technologies Program” تحت إشراف البروفيسور الياباني هيروشي إيشيغورو “Prof. Hiroshi Ishiguro” وأحد أهداف هذا المشروع هو التحكم في الروبوت “Humanoid” عن طريق إشارات الدماغ لدراسة عملية تعدد المهام “Multitasking Process” عند الإنسان.

وفي هذا المشروع، صنع البروفيسور إيشيغورو روبوتات يابانية تكاد تطابق البشر شكلًا ونطقًا، وتمتاز الروبوتات الجديدة هذه بتصميمها الذي يقارب إلى حدٍ هائل شكل البشر، بالإضافة إلى التقنيات المتطورة التي زُوّدت بها هذه الروبوتات لتتمكن من محاكاة النطق البشري بالصوت وأسلوب التعبير، كما تؤدّي الروبوتات أثناء تواصلها مع البشر حركاتٍ طفيفةً في الوجه واليدين تحاكي التعابير البشريّة الطبيعيّة [1].

ومن جهتي، أرى أنّ من الصعب لشخص لم يسمع بهذا النّوع من الروبوتات المشابهة للبشر “Humanlike Robot” من قبل أن يشكّ في اللحظات الأولى أنّها ليست بشرًا مثلنا، وعلى القارئ أن يتصور كيف ستكون ردّة فعل بعض القبائل الإفريقية التي لم تصلها التكنولوجيا الحديثة حتى يومنا هذا حين تشاهد هذا النوع من الرّوبوتات.

ومن هنا يمكننا تخيّل العالم بعد مئة عام من اليوم الذي سيصبح فيه امتلاك هذا النوع من الربوت مثل امتلاك هاتف محمول، فقد يمتلك المرء ربوتًا أو أكثر يشبهه في كلّ شيء مما يمكّنه من التواجد “Physical Presence” في عدّة أماكن والقيام بأعمال مختلفة في الوقت ذاته.

صورة لي مع البروفيسور الياباني هيروشي إيشيغورو والروبوت "The Geminoid F" – التقطت الصورة في مختتبر البروفيسور إيشيغورو ماي 2015

صورة لي مع البروفيسور الياباني هيروشي إيشيغورو والروبوت “The Geminoid F” – التقطت الصورة في مختتبر البروفيسور إيشيغورو ماي 2015

المثال الثاني : هل فقدان إنسان لعضو أو أكثر من جسده واستبدالهم بأطراف وأعضاء اصطناعية يفقد الإنسان ماهيته بصفته إنسانًا؟ بالطبع تؤمن الغالبية الساحقة من البشر أنّ ذلك لا ينقص مَن يمتلكون أطرافًا أو أعضاء اصطناعية من كونهم بشرًا مثلنا، بل يرى الكلّ أنّ ذلك من أجمل ما قدمه العلم لمساعدة المعاقين حركيًا ومن بُتر أحدُ أطرافهم، وأنّ العلم الحديث تمكن من زراعة أعضاء بشرية واصطناعية حساسة جدًا كالقلب مثلًا، حتى أصبحت زراعة الأعضاء البشرية من أشخاص آخرين أشبه بارتداء ساعة يد من ناحية الوظيفة لا من حيث الصعوبة، ومن هنا فهم حتّى عامّة الناس أن زراعة عضو بشري أو اصطناعي لا يُفقد الشخص المستفيد من الزراعة هويته إطلاقًا، ولا ينقص من كونه إنسانًا أبًدا.

إذن لا القلب وحده ولا الدماغ ولا الجسد أيضًا ما يحدد ماهية الإنسان، وإنّما القلب والدماغ والجسد معًا هي ما يخلق الإنسان، هذا الكيان المبدع المفكر الذي حيّر الإنسان نفسه، فحتى يومنا هذا ما زال الإنسان عاجزًا عن فهم نفسه فما بالك بما يحويه الكون؟ ورغم هذا فالعلماء لا يقفون أبدًا مكتوفي الأيدي، وإنّما يحاولون وضع لبنة لمن يأتون بعدهم من العلماء وهكذا، فالعلم تراكميٌّ ودالةٌ مستمرّة في الزمن.

إذًا وانطلاقًا من هذين المثالين يمكن للمرء الآن تصوّر إمكانية تغيير أكثر من 80% من الأعضاء الحيوية واستبدالها بأعضاء اصطناعية، وذلك ما قد يولد جيلًا جديدًا من البشر “Cyborg” أكثر قوة وذكاء ممن سبقوه جميعًا، بل قد يتمكن العلماء يومًا ما من تحميل بعض المهارات والمعارف للدّماغ مباشرة [2]، أو على الأقل التحسين من القدرات الذهنية والمعرفية بشكل مستمر وسريع كما هو الحال اليوم، وذلك باستعمال تقنية الارتجاع العصبي “Neurofeedback” لتدريب الدماغ والتطوير من إمكانياته.

ولتبسيط الأمور دعونا نتكلم عمّا توصل إليه العلم اليوم، ليتمكّن القارئ بعد ذلك من استقراء المستقبل وحده.

إن علماء العلم الحديث وخاصة علماء الأعصاب “Neuroscientists” يرون أنّ الإنسان هو مجرد جسد يتحكم فيه الدّماغ وذلك بإرسال إشارات كهربائية ومواد كيميائية من خلال الخلايا العصبية إلى كامل أنحاء الجسم [3, 4, 5, 6, 7, 8, 9].

وينقسم الدماغ إلى ثلاثة أجزاء: الدماغ الأمامي “Forebrain” والدماغ المتوسط والدّماغ الخلفي، حيت يتضمن الدّماغ الأمامي عدة فصوص من القشرة المخّية التي تتحكم في الوظائف المعقدة، في حين يتدخل الدّماغ المتوسط والخلفي في الوظائف التلقائية أو اللاشعورية.

ونحن نعرف أنّ الدماغ الأمامي هو الذي يجعلنا بشرًا، ويفرق بيننا وبين الحيوانات جميعًا، وبواسطته يمكن للإنسان التمييز والإحساس مثل الرؤية والشم والسمع والتذوق والتفكير، وإعطاء الناس القدرة على الإبداع الفني، واللغة، والكلام وتكوين جمل، والأحكام الأخلاقية، والتفكير العقلاني.

كما أنّ الدماغ الأمامي مسؤول عن شخصية كل فرد وعن الذكريات والحركات وكيف نشعر بالعالم من حولنا.

وقد كشفت الدراسات والبحوث العلمية أنّ الدماغ هو الذي يحبّ لا القلب، حيث أنّ الدماغ هو المحرك الأساسي لكل المشاعر والمتحكم الأول بنبضات القلب، جاعلًا بذلك العبارة الرومانسية الشهيرة “أحبك من كلّ قلبي” خطأ علميًا شائعًا، وكل ما في الأمر أنّ هناك سلسلة من التفاعلات الكيميائية المسؤولة عن المشاعر التي تأتي عندما يبدأ الإعجاب بالغير، فيوجد نواقل عصبية معينة هي المسؤولة عن الأحاسيس والمشاعر التي يشعر بها الإنسان وهرمون الأدرينالين هو من أبرز هذه التفاعلات الكيميائية.

وأكدت الدراسات أن الدماغ يقوم بإفراز مواد كيميائية تبعث على الشعور بالفرح وتؤثر على مراكز الهرمونات بالجسم وتقوم هذه المراكز بدورها بإفراز هرمونات أخرى مما يسبب احمرار الوجه وتعرّق اليدين وسرعة التنفس وتزايد ضربات القلب والشعور بالسعادة أحيانًا وبالاكتئاب والإحباط أحيانًا أخرى.

ولكي أحيط بالموضوع من كلّ جوانبه العلمية، قد يخطر ببال القارئ سؤالٌ ذو جذور دينية: إن كان الدماغ يتحكم بالجسد كله فمن يتحكم بالدّماغ، أليست الروح؟ إنّ الإجابة العلمية المعتمدة حاليًا في أكبر الجامعات العالمية هي إجابة شافية ومفهومة لدى جميع أطباء العالم المتخصصين في جراحة الدماغ وعلاجه، ولتبسيط الأمر للقارئ فإنّ الدماغ لا يحتاج حقيقة لمن يشغله ليشرع في عمله أو لمن يتحكم فيه إطلاقًا ليؤدي عمله بإتقان، بل يبدأ عمله من لحظة ولادته وتشكله في رحم الأم تلقائيًا وبطريقة عشوائية غير منظمة، فهو يستقبل التنبيهات من المستقبلات الخارجية والداخلية إمّا بواسطة إشارات كهربائية أو عن طريق التفاعلات الكيماوية ويستمر الدّماغ في التعلم من أخطائه والتطوير من أدائه إلى يوم وفاة صاحبه، وهذا ما حفز العلماء اليوم للسعي وراء صناعة دماغ اصطناعي يحاكي دماغ الإنسان، ولكنهم ما زالوا في بداية الطريق، نظرًا لأنّ الدماغ هو العضو الأكثر تعقيدًا في جسم الإنسان، وحتى يومنا هذا، ما زلنا نواجه آلاف الألغاز التي لم تحل بعد فيما يخص وظائف الدّماغ والإدراك لدينا.

وعمل الدماغ هو ما يطلق عليه تسمية العقل، إذًا ليس العقل في الحقيقة سوى السلوك والتصرف الناجم عمّا يقوم به الدماغ من عمل منسق ومحكم تعجز عن فعله كلّ الكائنات الأخرى، فهو شيء معنوي ولا مادي، طبقًا لما قاله البروفيسور مارفن مينسكي ” The mind is what the brain does. Said by Marvin Minsky”، ولنعود إلى السؤال الذي يخطر ببال المتدينين: أين الروح من كل هذا إذًا؟ فلا يسعني إلا ذكر الآية التي تقول «ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا».

وبهذا فعالم الأعصاب يرى أن الإنسان عبارة عن مجرد آلة بيولوجية “Biological Machine” محكمة ومعقدة لا أقل ولا أكثر، ولا يفرق بين البشر والروبوتات المطابقة لهم إلا من ناحية مادة الصنع وطريقة التحكم، ولكن تبقى مسألة الوعي “Consciousness” والإرادة الحرّة “Free Will” عبارة عن أسئلة مفتوحة [10, 11, 12].

ويبقى حتى المعنى الفلسفي أو اللغوي لكلمة آلة غير متفق عليه حتى الآن، فيمكن مثلًا أن يكون الإنسان عبارة عن مجرد آلة بيولوجية وبداخله الروح التي تجعل مما يفعله ويقوله شيء له معنى وغاية.

وهكذا يبقى الدماغ اللغز الأكبر حتى يومنا هذا، فرغم محاكات الروبوتات للبشر من ناحية الشكل الخارجي، لم يتمكن العلماء حتى الآن من صنع دماغ اصطناعي يحاكي الدماغ البشري نظرًا لصعوبة فهم عمل الدّماغ.

ونظرًا لاحتكاكي بالبروفيسور إيشيغورو من خلال عملي معه؛ فقد سألته عن هدفه من صنع الروبوتات المطابقة للبشر وكانت إجابة البروفيسور: “واحدة من الأهداف الرئيسة لمشاريعي هو فهم ما هو الإنسان بصفة عامة وكيف يتعرف دماغ البشر على البشر بصفة خاصة، وهذا ما لا يزال غير واضح إلى حد ما، و لاستكشاف هذا، قمنا بدراسة التفاعل بين الإنسان والروبوت من خلال نهجين اثنين يكمل أحدهما الآخر، وهما: تطوير روبوت مماثل للبشر بنسبة 100% (على سبيل المثال Geminoid) وتطوير روبوت آخر ذي حد أدنى من الميزات التي تجعله يبدو كبشريّ (مثل Telenoid)، وفرضيتنا هي أن أفضل واجهة يمكن للعلماء صناعتها بين الإنسان والروبوت تكمن عندما يحدث مثل هذا الاتصال بين الإنسان والروبوت المطابق له في كل شيء”.

⦁ واجهة بين الدماغ والآلة

إذا كان الجسد، هذا العائق الطبيعي الذي يقف أمام طموحاتنا ويحدّ من قدراتنا، مجرد آلة بيولوجية لا أقل ولا أكثر، فلماذا لا نصنع جسدًا آليّا يكون أكثر قوة وفعالية لنتخطى بذلك الحدود الطبيعية للإنسان ونتمكن من الطيران بل حتى التحليق في الفضاء الخارجي والعيش في أعماق البحار؟

ومن هذه الفرضية العلمية، انطلق العلماء في صناعة واجهة تمكن الدماغ من التحكم بالآلة. فأنا كذلك على سبيل المثال أعمل باحثًا في مجال التحكم بالآلة عن طريق استعمال الإشارات الكهربائية للدماغ وذلك لتمكين العديد من المعاقين في التحكم بما حولهم بمجرد التفكير في ذلك.

يسمى هذا المجال العلمي بـــواجهة بين الدماغ والحاسوب أو واجهة بين الدماغ و الآلة “Brain-Machine Interface (BMI)”، والذي لم يعد فكرة من أفلام الخيال العلمي، بل تطور كثيرًا لدرجة أن أصبحت العديد من ألعاب الفيديو الحالية والتي نجدها في الأسواق العالمية تُمارس من خلال إشارات الدماغ وحركات العين فقط.

وبالنسبة لغير المعاقين مثل كبار السنّ، فيجري مثلا استعمال إشارات العضلات إضافة إلى إشارات الدماغ وحركات العين، وهذه الإشارات تمكنهم على سبيل المثال من حمل الأشياء الثقيلة وصعود الدرج بكل سهولة وذلك بإرسال هذه الإشارات الكهربائية إلى هيكل آلي خارجي “Exoskeleton”، ولا يقتصر الأمر بالطبع على مجرد التفكير في الشيء لنتمكن من التحكم فيه كما تصور أفلام الخيال العلمي للعامّة من الناس، ولكنه يعتمد على إشارات الدماغ التي تنتج عن هذا التفكير ويحوّلها الحاسوب إلى أوامر للتحكم في الأشياء، وتجري مثل هذه الأبحاث في أكثر من دولة في جميع أنحاء العالم منذ فترة ليست قصيرة [13, 14, 15].

وقد أتيح لي شرف زيارة مختبر البروفيسور جوناثان ولباو “Prof. Jonathan R. Wolpaw” في الولايات المتحدة، والذي يعتبر منشأ هذا المجال العلمي الجديد، وهو أول من مكّن معاقًا حركيًا من الكتابة بواسطة دماغه فقط.

ولقد نجح العلماء بعده بالفعل في إحراز تقدم ملحوظ عن طريق “BMI” هذا النظام الرقمي الذي أنشئ خصيصًا للربط بين الدماغ والحاسوب، وتحويل إشارات الدّماغ التي تنتقل عن طريق الاقطاب “Electrodes” سواء المزروعة فيه “Invasive” أو الموزعة عليه من الخارج “Non-invasive” إلى أوامر تشغيل يفهمها الحاسوب، الأمر الذي مثل بالفعل نقلةً نوعيةً في علم التقنيات العصبية الحديث.

ويعتمد هذا النظام بالأساس على الرسم التخطيطي للنشاط الكهربائي للدّماغ “EEG”، والذي يجري قياسه في الأحوال العادية إما عن طريق الأقطاب المثبتة على الرأس أو في أفضل الأحوال عن طريق خوذة محملة بتلك الأقطاب، تُحكمُ حول الرأس بطريقةٍ تتمكن فيها من قياس نشاط الدماغ. ورغم كل هذا التطور، م ازالت كلتا الحالتين تعدّان غير ملائمتين للمريض أو متناسبتين مع التطبيقات اليومية، فضلًا عن الحالات التي تحتاج إلى زراعة تلك الأقطاب داخل الدّماغ نفسه. وقد مكنت هذه التقنية الجديدة العديد من المعاقين حركيًا وغير المعاقين من إرسال رسائل باستعمال أدمغتهم فقط، ومن التحكم في الروبوت والكرسي الكهربائي المتحرك وحتّى لعب بعض ألعاب الفيديو الشهيرة.

وقد تمكنتُ أنا كذلك عندما كنت طالبَ دكتوراه في معهد طوكيو للتكنولوجيا باليابان من نشر بعض البحوث العلمية في هذا المجال [16, 17, 18]، ونجحت في التحكم بلعبة فيديو بواسطة حركة العين الملتقطة من الإشارات الكهربائية EEG وذلك باستعمال فكرة عملية ومبتكرة ملائمة لتطبيقات الحياة اليومية [19].

لكن لم يتوقف العلماء عند التحكم عن بعد بالكومبيوتر والأطراف الاصطناعية باستعمال الإشارات الكهربائية أو الحقول المغناطيسية للدماغ فقط، بل يتعدى الأمر ذلك إلى تحكم الدماغ في دماغ آخر.

فقد تمكن فريق من العلماء من جامعة «Duke University, USA» بولاية نورث كارولينا الأميركية لأول مرة، من توصيل دماغ بآخر، بين فأرين في المختبر أحدهما في ولاية نورث كارولينا والآخر في البرازيل باستخدام أقطاب كهربائية مزروعة في دماغهما، وهو الأمر الذي سمح لأحد الفأرين من تمرير المعلومات إلى الفأر الآخر الموجود في قفص يبعد آلاف الأميال على الرغم من أنه لم يكن واعيًا بذلك [20].

وهذا ما فعله أيضًا مجموعة باحثين عندما تحكم صديقهم بحركة يد زميله في أول اتصال بشري عبر الدماغ. وقد أُعلن مؤخرًا عن تجربة تعتبر الأولى من نوعها كأول تواصل بين الأدمغة البشرية، إذ تمكن باحثان من التواصل عن بعد بإرسال إشارة عبر الإنترنت من دماغ أحدهما والسيطرة على حركة يد زميله.

أجريت التجربة في 12 أغسطس 2013 في الحرم الجامعي لجامعة واشنطن بين الباحثين البروفسور “راجيش راو Rajesh Rao” أستاذ علوم الكمبيوتر والهندسة والأستاذ “أندريا ستاكو Andrea Stucco” الباحث المساعد في علم النفس في معهد علوم الدماغ، وذلك باستخدام تسجيلات الدّماغ الكهربائية وشكلًا من أشكال التحفيز المغناطيسي.

عمل البروفسور راجيش في مختبره على التواصل بين الدّماغ والحاسوب لأكثر من 10 أعوام، وفي عام 2011 صرّح أنّ بالإمكان تحقيق تفاعلٍ بين البشر عبر الدماغ، فبدأ بالمشاركة في العمل مع زميله الأستاذ أندريا.

جلس كلّ منهما في مختبره وجهزا اتصال سكايب للتنسيق بين المختبرين (لم ينظر أيُّ منهما إلى المعلومات الواردة على الشاشة أثناء التجربة)، ارتدى راجيش قبعةً بأقطاب توصيل مع جهاز يعمل على قياس النشاط الكهربائي في الدّماغ، وارتدى أندريا قبعة السباحة مع وضع علامة للفائف التحفيز على موقع التحفيز المغناطيسي للجمجمة، وُضعَ مباشرة على القشرة الحركية على يسار الدّماغ (الموضع الذي يتحكم بحركة اليد اليمنى) [21].

وقد تمكنت العديد من المخابر اليوم من القيام بأعمال مشابهة لذلك، بل تمكن باحثان صينان من التحكم في حركة صرصور الليل “Cockeoach” أيضا باستعمال إشارات دماغ إنسان [22].

والآن، يعكف بعض العلماء على توصيل أدمغة عدة حيوانات في آن واحد، مما يسمح لها بالعمل معًا على حلّ مشكلات أكثر تعقيدًا.

وقال البروفيسور نيكوليلس “Miguel A. L. Nicolelis”: «نحن لا نستطيع التنبؤ بنوعية الخصائص الناشئة التي ستظهر عندما تبدأ الحيوانات في التفاعل مع بعضها كجزء من (شبكة دماغية).

ومن الناحية النظرية، يمكن أن نتخيل أن مجموعة متّحدة من العقول يمكن أن توفر الحلول، التي لا يمكن للعقول الفردية أن تحققها من تلقاء نفسها».

ويضيف «ربما نكون قادرين في المستقبل البعيد على التواصل عبر شبكة في الدماغ (brain-net)» إذ يرى الباحثون أن من المحتمل أن تسهم أبحاثهم في إمكانية الاتصال بين الأدمغة المتعددة ومشاركة المعلومات وتبادلها فيما بينهم.

وذكر د. باتريك ديغنار “Patrick Degenaar”، من جامعة نيوكاسل البريطانية: «قدّ يصبح الجيش يومًا ما قادرًا على نشر حشرات معدلة وراثيًا أو ثدييات صغيرة، تتحكم فيها عن بعد إشارات دماغٍ مشغلٍ بشري».

ويضيف قائلًا «بإمكان هذه الحشرات المعدلة وراثيًا والثدييات الصغيرة، أن تصبح أجهزة ذاتية التشغيل، مثلها مثل الطائرات دون طيار (Drone)، ويمكن استخدامها في عمليات المراقبة والاستطلاع أو في مهمات بغرض القتل والاغتيالات».

وخلاصة الأمر إذًا، قد نحتاج في المستقبل القريب إلى مجرد حشرة طائرة لنجعلها قريبة من رأس شخص ما لاستهدافه أو التجسس عليه.

وهكذا يستمر العلماء في تطوير هذا العلم الجديد من أجل فهم لغز الدماغ وإشباع فضولهم المعرفي من أجل حياة أفضل ومستقبل واعد غير مضمونة عواقبه.

والسؤال الذي مازال مطروحًا بين العلماء اليوم هو: هل سيكتفي البشر بالزواج من الروبوتات قريبًا أم سيندمج كلاهما في شخص واحد؟


إعداد: بلقاسم عبد القادر نصر الدين (باحث في مجال “التحكم في الروبوتات والآلات باستعمال إشارات الدماغ “)
تدقيق:ملك عفونة

⦁ ولمشاهدة كل الفيديوهات والمستجدات العلمية حول واجهة الدماغ والآلة يمكنك الاطلاع على رابط صفحة الفيس بوك التالي:
رابط صفحة الفيسبوك

المراجع:
[1]. http://www.geminoid.jp/en/index.html
[2]. http://www.telegraph.co.uk/technology/2016/03/01/scientists-discover-how-to-download-knowledge-to-your-brain/
[3]. Ray Kurzweil, How to Create a Mind: The Secret of Human Thought Revealed
[4]. Mario Beauregard, Brain Wars: The Scientific Battle Over the Existence of the Mind and the Irrefutable Proof that Will Change the Way We Live Our Lives
[5]. Antoine Robitaille, Le Nouvel Homme nouveau: Voyages dans les utopies de la posthumanité
[6]. Shilling, Charles W., Captain, Medical Corps, U.S. Navy, The Human Machine Biological Science for the Armed Services
[7]. https://www.youtube.com/watch?v=9go59YposaY
[8]. https://www.youtube.com/watch?v=KC_YNv2Hf7w
[9]. http://www.naturalnews.com/032416_Stephen_Hawking_consciousness.html
[10]. http://www.telegraph.co.uk/news/science/8058541/Neuroscience-free-will-and-determinism-Im-just-a-machine.html
[11]. https://www.bigquestionsonline.com/2012/07/31/will-machines-ever-become-human/
[12]. https://www.youtube.com/watch?v=sLywJd5x3AE
[13]. J. R. Wolpaw and E. W. Wolpaw, Brain-Computer Interface: Principles and Practice, Oxford University Press, New York, NY, USA, 1st edition, 2012.
[14]. J. R. Wolpaw, N. Birbaumer, D. J. McFarland, G. Pfurtscheller, and T. M. Vaughan, “Brain–computer interfaces for communication and control,” Clinical Neurophysiology, vol. 113, no. 6, pp. 767–791, 2002.
[15]. D. Marshall, D. Coyle, S. Wilson, and M. Callaghan, “Games, gameplay, and BCI: the state of the art,” IEEE Transactions on Computational Intelligence and AI in Games, vol. 5, no. 2, pp. 82–99, 2013.
[16]. A. N. Belkacem, H. Hirose, N. Yoshimura, D. Shin, and Y. Koike, “Classification of four eye directions from EEG signals for eyemovement-based communication systems,” Journal of Medical and Biological Engineering, vol. 34, no. 6, pp. 581–588, 2014
[17]. A. N. Belkacem, D. Shin, H. Kambara, N. Yoshimura, and Y. Koike, “Online classification algorithm for eye-movementbased communication systems using two temporal EEG sensors,” Biomedical Signal Processing and Control, vol. 16, pp. 40– 47, 2015.
[18]. A. N. Belkacem, S. Saetia, K. Zintus-art, D. Shin, H. Kambara, N. Yoshimura, N. Berrached, Y. Koike. “Real-time Control of a Video Game using Eye Movements and Two Temporal EEG Sensors”., Computational Intelligence and Neuroscience, vol 2015
[19]. https://www.youtube.com/watch?v=eyDQf0_-AR8
[20]. M. Pais-Vieira, M. Lebedev, C. Kunicki, Jing Wang & M. A. L. Nicolelis, A Brain-to-Brain Interface for Real-Time Sharing of Sensorimotor Information, Scientific Reports, doi:10.1038/srep01319.
https://www.youtube.com/watch?v=nNuntbrwXsM
[21]. http://www.washington.edu/news/2013/08/27/researcher-controls-colleagues-motions-in-1st-human-brain-to-brain-interface/
[22]. http://www.sciencealert.com/scientists-have-managed-mind-control-cockroaches