قياسات ضعيفة، آفاق قوية

ميكانيك الكم هي أدق نظرية تتحدث عن الجسيمات، لذا فإنها تشرح بشكل طبيعي القياسات والتفاعلات, في العقود القليلة الماضية، اُستخدمت الحواسب الآلية في مجال ميكانيكا الكم، ما أعاد رسم تصور للنظرية على ضوء المفهوم الشامل للمعلومات, ما تشير إليه القياسات والتفاعلات في ميكانيكا الكم لايزال غريبًا بشكل واضح, حتى ما تتضمنه من معلومات يظل غريبًا أيضًا.

أحد أغرب هذه الاستنتاجات هو نفي حدوث الإتصالات بالشكل المادي الذي جرت عليه العادة, بعض الفيزيائيين يعتقدون إمكانية إجراء الإتصالات من غير نقل جسيمات, في العام 2013 أحد الفيزيائيين المبتدئين، ويدعى حاتم صالح (Hatim Salih) قام بإبداع بروتوكول للإتصالات – تحت إشراف مجموعة من الأساتذة المتخصصين – والذي من خلاله يمكن نقل المعلومات من غير أي انتقال للجسيمات, كما لو كانت المعلومات تم بالتخاطر الروحي, في النهاية، إجراء الإتصال ربما تم بشكل غير مادي.

في إبريل/ نيسان الماضي، نسخة مبكرة عن مقال قصير كتب عن البروتوكول الذي ابتدعه «حاتم صالح» ظهر على الإنترنت في الدورية الأكاديمية الوطنية للعلوم, معظم الكتاب المشاركين في المقال – وكانوا عشرة أفراد – كانوا أعضاءً في جامعة العلوم والتكنولوجيا في الصين، بفرعيها في شنغهاي وخفي, المشارك الأخير في هذا المقال كان (جيان وي بان – Jian-Wei Pan) الفيزيائي البارز الذي طور كوكبة من الأقمار الصناعية للاتصالات من خلال ميكانيكا الكم, وهو في الوقت الحالي يستخدم هذه الشبكة من الاتصالات لنقل الجسيمات المتشابكة لمسافة 1200 كيلومتر.

وقد قام «بان» والمتعاونين معه بنشر أكثر من ورقة بحثية كل شهر, لكن الورقة البحثية التي نُشرت في أبريل/ نيسان، واشترك في كتابتها كل من (يوان كو -Yuan Cao) و(يو هواي لي -Yu-Huai Li) كانت استثنائية, لقد وصفوا تجربةً نقلوا من خلالها صورةً بالأبيض والأسود لعقدة صينية للحاسب الآلي، وذلك بدون إرسال أي جسيمات.

الادعاءات الاستثنائية تتطلب أدلة استثنائية , يُشكك ليف فايدمان (Lev Vaidman) في هذه الأدلة، رغم كون عمله أحد الركائز الأساسية التي استند إليها الفريق في إثبات صحة التجربة, يجادل فايدمان وآخرين في تفسير نتائجهم هذه منذ عشرة أعوام, بينما تجربتهم للاتصالات تغير الطريقة التي نفهم بها ميكانيكا الكم الآن.

يُجهد الفيزيائيون أنفسهم في التعبير عما توحي به ميكانيكا الكم إلينا، وكذلك عما نعرفه عن عالم المادة, لكن يبدو أن النظرية قررت أن تتحدث أخيرًا, الفيزيائيون الآن يشككون في مبدأ الريبة الذي اقترحته نظرية الكم مع ما تكشفه عن القياسات الضعيفة – التي اُعتقد سابقًا أنها غير ممكنة – اعتمادًا على الملاحظات الواضحة للقياسات والتفاعلات، وعلى مبادئ تكنولوجيا المعلومات في المستقبل.

لو أمكننا معالجة البيانات من غير جسيمات، سيكون بإمكاننا أن نصنع حاسب آلي لا نحتاج إلى إطفائه أبدًا وربما أن نتصل به في سرية مطلقة, سيكون شيئًا لا يمكن اعتراضه أو قرصنته, هذه الإمكانية تأتي من المعلومات التي يتضمنها ما يسمى (دالة الموجة -Wave Function) وبالطريقة التي نبرهن بها بالخيال كأنه حقيقي, لذا وقبل أن نحقق الاتصالات من غير نقل أي جسيم لابد أن نفهم كيف تنتقل الأجسام في نظرية الكم.

ليف فادمان، هو باحث غزير الانتاج, 12 من أحدث 25 ورقة بحثية، هي ردود على الفيزيائيين الآخرين أو انتقادات لعملهم, وهو أحيانًا غير سياسي بما فيه الكفاية ليذكر مثلًا أن ورقة شخصٍ ما ينبغي ألا تُنشر، ولكنه يُدرج أيضًا أوراقه المرفوضة على موقعه الإلكتروني, يقول: «المناقشات المفتوحة والخلافات تساعد على تحريك الفيزياء إلى الأمام».

يمكن للفيزيائيين أن يتفقوا على الرياضيات ونتائج التجارب، ولكنهم ما زالوا يعارضون تفسيراتها, ربما من المستغرب – ولكن أيضًا العقلاني – أن يشكك فايدمان في أن الاتصالات تحدث في غياب الجسيمات، كما ذكر صالح وآخرون, وقال فايدمان من أن بروتوكول صالح وآخرين: «يستند إلى نهج كلاسيكي ساذج في ماضي الفوتونات», ووافق على أن «العملية تخضع للظاهرة المتضادة إذا حدثت دون أي جسيم فعلي حقيقي يسافر بين الطرفين», ولكن ما معنى هذا التعريف؟ بالنسبة للجسيم الكمومي، ليس هناك تعريف واضح لمعنى «السفر», حُجة فايدمان ليست مجرد لغة، ولكن هي ما يمكننا قوله عن العالم.
ويصر فايدمان على أن الجسيمات ليس لها ماضي, وبالتالي، فإننا لا نستطيع أن نعرف ما إذا كان أحدهم قريب من أي شيء وتفاعل معه, وعندما نقيس الجسيمات لمعرفة وظيفة الموجة فإنها تنهار, نحن لا نتعلم التاريخ من الجسيمات، بل نفرض التاريخ عليها.

ولكن في عام 1988، تخيل فايدمان وزميلان في جامعة كارولينا الجنوبية نوعًا جديدًا من القياس، كان ضعيفًا لدرجة أنه لم ينهار في الحالة الكمومية, لا يمكن للقياس الضعيف تحرير المعلومات التي نسعى إليها من الفوتونات، ولكن عن طريق اقتران العديد من هذه القياسات أحدهما يقوي الآخر، قد يكون ممكنًا – في الواقع – أن يعطينا القياس الضعيف الذي يليه آخر قوي معلوماتٍ أكثر، مما يجعل لدينا الحق في معرفته, إرسال الإلكترون من خلال حقل مغناطيسي طفيف ثم حقل عمودي قوي – على سبيل المثال – يكشف عن اثنين من الخصائص غير المتوافقة في نفس الوقت, وتكشف القياسات الضعيفة عما اعتبره «هايزنبرغ»غير مؤكد.

وقد حوّل فايدمان وزملاؤه نظريتهم من القياسات الضعيفة إلى نسخة جديدة من ميكانيكا الكم, فهي تجمع بين المعلومات من قياس ضعيف وقياس قوي في دالة موجية واحدة, يتم تعيين الماضي من قِبل القياس ضعيف، ثم يبني فايدمان تراكب بين ماضي الجسيمات ومستقبلها لمعرفة ما حدث بينهما, عندما يطبق فايدمان نظريته على الظواهر المتضادة، يظهر الفوتون دائمٍا على مسار العائق حيث لا ينبغي أن يكون, قليلٌ من فهم نهجه، والعديد من تشكك فيه, والنتائج هي أرقام وهمية تعطي احتمالات سلبية، والتي ينبغي أن تكون مستحيلة.

ولكن في عام 2013 «أرييل دانان» وعدد قليل من الزملاء في تل أبيب – بما في ذلك فايدمان – درسوا قياساتًا خالية من التفاعل في التجارب الضعيفة الفعلية, اهتزت واحدة من المرايا على أحد المسارات في تداخل لتحديد موقع الفوتونات على هذا المسار, وقد ذكروا في بحثهم أن التجربة كانت مماثلةً للسيناريو التالي: «إذا كانت إذاعتنا تعزف مقطوعة (باخ) فإننا نعلم أن الفوتونات تأتي من محطة الموسيقى الكلاسيكية، لكن إذا سمعنا تقرير حركة المرور، فسنعلم أن الفوتونات تأتي من محطة إذاعية محلية», ما سمعوه كان غريبًا المستغرب, حلّقت الفوتونات، حتى في المسارات المحظورة، مسترشدةً بدوال الموجة.

ويشكك العديد من الفيزيائيين في أن الفوتون الذي لا يدخل طريقًا ولا يخرج منه، يمكن أن يكون هناك بطريقةٍ ما, يقول صالح إن فايدمان يستخدم نسخته الخاصة من ميكانيكا الكم، لذلك فهو يعتقد بطبيعة الحال أن التفسيرات الأخرى خاطئة, صالح يعني ضِمنًا أن فايدمان يخبر الفوتونات بما يقوله عندما يستجوبه الفيزيائيون الآخرون.

في نيسان/ أبريل الماضي، كتب «بان» وزملاؤه في ورقتهم: «على الرغم من وجود عدة منشورات متاحة حاليًا فيما يتعلق بالجوانب النظرية لـلاتصالات عن طريق الظواهر المتضادة، إلا أن المظاهر التجريبية الأمينة تظل مفقودة», لقد حان الوقت لتجربة الاتصال, وبدأت المجموعة بتخطيط تجربتها لإنهاء «النقاش الدائر» قبل أن ينشر صالح وآخرون فكرتهم رسميًا.

هناك حاجة إلى عدد لا حصر له من أجهزة قياس التداخل من أجل الاتصال المثالي، وهو ما أقر به «بان» ومجموعته أنه غير عملي, فقد قاموا بتبسيط بروتوكول تداخلات «مايكلسون» وصنعوا منه أربعة، مع بروتوكلين أصغر متداخلين, وضعوا مصدرها من فوتون واحد، ومقسمات الشعاع والمرايا على طاولة صغيرة، يتم التحكم في درجة حرارتها ومعزولة ضد الاهتزازات, على أن تحدث اتصالات الظواهر المتضادة عبر 50 سنتيمترًا, داخل المختبر في شنغهاي، قام مساعدو بان، تساو ولي، بتصميم عدد من الصور الممكنة لإرسالها، وصوتت المجموعة لعقدة صينية, كما أوضح تشنغ تشي بنغ، بأنها: «متماثلة وجميلة».
كتب الفريق برمجيات لتشغيل تجربتهم تلقائيًا، دون أي تدخل بشري, وفي 31 مايو 2013، جلسوا على جهاز كمبيوتر وانتظروا خلال الليل لمعرفة ما إذا كانت الصورة محملة على الشاشة, كانوا يثقون في أجهزتهم، لكنهم كانوا يأملون بهدوء ألا يظهر أي شيء, والنتيجة السلبية تعني ضمنًا أن ميكانيكا الكم خاطئة, لا أحد رصد ذلك.

أكثر من خمس ساعات، 10 كيلوبايت من المعلومات مرت خلال 50 سنتيمترًا فارغة بين المرسل والمستقبِل, وكان يتعين إرسال العديد من البتات عدة مرات قبل تسجيلها، وكان الحاسوب أفضل عند التعرف على 1 أكثر من 0, لكن الصورة النقطية أحادية اللون ظلت ساكنة، على الرغم من أن المجموعة لم ترسل أي جسيمات يمكن تمييزها, عندما رأوا الصورة بعد شروق الشمس، حلوا للنوم قبل أن يحتفلوا, وقد نشروا مقالًا قصيرا بعد عامٍ واحد، ولكنهم لم يقدموا ورقتهم للنشر لأكثر من ثلاث سنوات, كانوا مشغولين جدًا ببناء الأقمار الصناعية للاتصالات، وأرادوا بعض الوقت للتفكير في النتيجة.

يعمل «بان» وزملاؤه الآن على نقل صورة في ظلال رمادية، ويأملون في إرسال معلومات كَمية نقية تستند إلى بروتوكول آخر من قبل صالح, ولضمان عدم مرور الفوتونات عبر قناة الإرسال، يخططون أيضًا لإجراء قياس ضعيف لتحديد أين يذهب الفوتون.

وعلى الرغم من أن «بان» يعمل في مجال الأقمار الصناعية للاتصالات، والظواهر المتضادة، فإن البنوك والمجالس العسكرية قد أبلغت عن تطبيق آخر محتمل لتجربته: «تصوير الفنون القديمة بحيث لا يُسمح بالإضاءة المباشرة الضوء», «كوات» عنى ضمنًا أن المعادلات قد لا تكون مفيدة عن أي شيء آخر, وكتب: «من أجل تحقيق مستوًى عالِ من الظواهر المتضادة، يحتاج المرء إلى سلاسل كثيرة، وهذا يبطئ بشكل كبير من معدل الاتصالات», تتحرك المعلومات من دون جسيمات أبطأ من حالة وجودها (أي الجسيمات).

شكل B4: نقل عقدة صينية: في إبريل/ نيسان الماضي سجّل بان والمتعاونون معه تجربةً باستخدام مصيدة التداخل لنقل لوحة نقطية بحجم 100X100 بالأبيض والأسود لعقدة صينية عبر طاولة في مختبر بشنغهاي دون إرسال أي جسيمات.

يعزو «بان» وزملاؤه سر الاتصالات المتضادة إلى ازدواجية الموجة – الجسيمات, صالح له تفسير آخر, «أعتقد أن هذه التجربة لديها ما تقوله لدعم واقع وظيفة الموجة الكمومية: إذا لم تقم الجسيمات المادية بنقل المعلومات فماذا فعلت؟ قد تكون دالة الموجة الخيالية هي آخر صيحة للحقيقة».

يعمل صالح الآن على إثبات وجود الظواهر المتضادة، باستخدام قياسات ضعيفة للتغلب على منتقديه, عندما سُأل «فايدمان» ما الذي سيقنعه بأنه لم يتم نقل أي جسيمات، أجاب: «إذا تم العثور على شيء بطريقة الظواهر المتضادة، يجب أن يكون هناك أثر صفر بالقرب منه», وقال متعاونون مع «بان» ربما مُزاحًا: «على الرغم من أن تجاربنا لم تحل القضية تمامًا، فنحن نعتقد أن عملنا يسلط بعض الضوء على النقاش».

وقد نجحت ميكانيكا الكم بالبقاء حيةً لما يقرب من 100 سنة، فالنظرية غير التقليدية لا تزال رائعة, التجارب تحقق بشكل روتيني عددًا من التنبؤات، وفشلت النظريات المعيارية التي اُخترعت لإصلاحها, يواصل الفيزيائيون الكشف عن طرق جديدة للتكيف مع أسرارها لخدمة تكنولوجيا المعلومات، وتحقيق عجائبها في العالم, وهم لا يزالون ينتظرون أن توصل النظرية معناها لنا، مع أو بدون جسيمات.


ترجمة : مصطفى العدوي

تدقيق: محمد عبدالحميد ابوقصيصة

المصدر