ماسينيسا : الملك الأمازيغي الذي حارب الجميع


قد لا يحصل الملوك والمملكات الثانويَّة على نصيبٍ كبير في المجد التاريخي، وذلك لكونهم ثانويين أساسًا، لكن لدينا هذا الملك الثانوي الذي حارب ضد الرومان والقرطاجيين، كما خُلع أثناء الحرب الأهليَّة وكانت حكايته تراجيديَّةً بشكلٍ كبير جعلته يدخل التاريخ.

وحتَّى في أسوأ فترات حياته، كان للملك فخرٌ كبير بأرضه وشعبه، وكافح بكل ثقة من أجل حقه في الحكم، حيث لم يتوقف عن القتال عندما استعاد مملكته، وبعدما قام بإسقاط إحدى أقدم الإمبراطوريات في حوض البحر المتوسط.

إنه الملك ماسينيسا، ويسمى كذلك: ( ماسنسن، ماسينا)، كان مجرَّد أميرٍ قبل اندلاع الحرب البونيقيَّة الثانية، حيث قاد ماسينيسا قبائل نوميديا الشرقيَّة للخضوع إلى حكم قبيلة (ماسيلي-Massylii).

وقد قام النوميديون الشرقيُّون الأوفياء لقرطاج في ذلك الوقت، بعزل الملك نوميديا الغربيَّة العنيف صيفاقس (Syphax)، حيث قاد ماسينسا حملات ضد صيفاقس وهو في سن السابعة عشر، وفاز على الأقل بمعركة واحدةٍ عظيمة، سمح هذا بتأمين المنطقة النوميديَّة (الجزائر وأجزاء من تونس وليبيا اليوم)، حيث تمكنَّ ماسينيسا والأعداد الكبيرة من الفرسان النوميديين من المشاركة في الحرب البونيقيَّة الجديدة بإسبانيا.

(لوحة تصور صوفونسيبا وهي تطلب مساعدة ماسينيسا)

لقد كان النوميديون رغم حصولهم على قصورٍ ملكيَّة في المدن، كانوا في معظمهم فرسانًا، يمتطون الخيل ويقاتلون منذ سنٍ متقدمة جدًا، كان أمازيغ نوميديا يركبون الخيل دون سرج، ويستخدمون حبلًا طويلًا حول ركبة الخيل لتوجيهها حيثما يريدون، لم يكونوا مسلَّحين بشكلٍ كبير إلَّا أنهم تميزوا بمهارات عالية بالرُّمح، وكانت لديهم سرعة هائلة تسمح لهم بتدمير كتائب أثقل حجمًا بسهولة، ولقد كان لحنبعل (Hannibal) مجموعته الخاصة من الفرسان النوميديين، الذين يعود إليهم فضلٌ كبير في الإبقاء على جيشه آمنًا غذائيًا، وفي فوزه بمعركة كاناي التاريخيَّة، حيث تغلَّب على الكتائب الرومانيَّة وأكمل الحصار.

لم يسافر ماسينيسا إلى إيطاليا أبدًا، إلَّا أنه قاد مجموعته نحو إسبانيا للقتال ضد شقيق الإخوة سكيبيو (Scipio) الأكبر سنًا، خلال تلك المعركة، قاد ماسينيسا رجاله من المقدمة، وحارب النوميديون بكفاءةٍ كبيرة ملحق إياهم خسائر معتبرة بالعدو، بينما هم يخوضون معركةً طاحنة، تمكن القرطاجيُّون أخيرًا من تفرقة الإخوة سيبيبو، وكان ماسينيسا مفتاح قوَّة أساسي في هزم جيوش روما بإسبانيا.

وبعد سنواتٍ قليلة من ذلك، وصل الأخ الأصغر لسكيبيو إلى إسبانيا لخلافة أبيه وعمه المتوفيين في الحكم، وهنا كان الرومان قلقين جدا من ماسينيسا وتكتيكاته الحربيَّة، لكنه سيصل في النهاية إلى تعديل الكفَّة مع سكيبيو، وبينما يقوم سكيبيو بتحضير مخيَّمه في فجر المعركة، قام كل من ماجو (Mago) وماسينيسا بتحضير الفرسان لشن هجمةٍ ضد الرومان غير المستعدين، آملين في تشويش تشكيلاتهم وإلحاق أكبر الأضرار الممكنة بهم، لكن سكيبيو كان أكثرإستعدادا لتلك الاحتماليَّة، حيث قام بإخفاء مجموعة من الفرسان المدربين جيدًا خلف منحنى التلَّة تمامًا، وقد حدث ذلك قبل معركة إيلبا الطاحنة بوقتٍ قصير، حيث حقق سكيبيو فوزًا ساحقًا ضد القرطاجيين وماسينيسا وأنهى قبضتهم على إسبانيا، وقد ألقى فرسان سكيبيو -في معركةٍ سابقة- القبض على ابن أخ ماسينسا الشاب: ماسيفا (Massiva)، الذي التحق بالمعركة سرًّا ضد أوامر عمه.

وأمر سكيبيو بعرض جميع الأفارقة (هكذا كان يطلق على سكان شمال إفريقيا) للبيع في سوق العبيد، لكنّه سمع بأمر ماسيفا وأعترف بانتماء أسيره للسلالة الملكيَّة، منح سكيبيو الشاب ماسيفا ثيابًا لائقة وحصانًا قويًا، كما رافقه الحرس في طريقه نحو عمّه حيث تمَّ إخلاء سبيله، وكان هذا الأمر أكثر من أي شيءٍ آخر، ما جعل ماسينيسا يطمح للقاءٍ مع سكيبيو.

(سكيبيو وهو يخلي سبيل أسيره الملكيّ ماسيفا)

بعد هذا اللقاء السري، كان ماسينسا مندهش جدا من ثقة سكيبيو الكبيرة وسلوكه، ومن القوة الكبيرة للرومان، حيث تسبَّب ذلك في تغيير ماسينيسا لولائه من قرطاجة إلى روما، و لقد منح ملك نوميديا دعمه الكامل لسكيبيو، مع إمكانية توفير آلاف المقاتلين للرومان إذا ما تقرَّر غزو إفريقيا.

لسوء الحظ بالنسبة لماسينيسا، توفي أبوه، الملك جايا (Gaia)، تاركًا وراءه نوميديا الشرقيَّة عرضةً لهجمات صيفاقس، في ذلك الوقت، كانت العلاقات الدوليَّة ضبابيَّةً بشكلٍ كبير، حيث قام لصيفاقس بالتحالف مع الرُّومان من قبل، وفي نفس الوقت، كانت له خطيبة من الطبقة النبيلة القرطاجيَّة، صوفونسيبا (Sophonsiba)، ليتحالف مع قرطاجة فيما تبقَّى من الحرب، وعندما عاد ماسينيسا وجد مملكته في دمار شامل.

ولقد حاول ماسينسا مقاومة صيفاقس، الذي ألحق به هزيمةً منذ سنواتٍ مضت، لكن لم يكن ذلك ممكنًا هذه المرَّة، فقد فاز صيفاقس فوزًا كبيرًا ونجى ماسينيسا بحياته بصعوبةٍ مع عددٍ من الفرسان.

وبدأ ماسينيسا بعد ذلك حياة قطاع الطرق في المناطق المتنازع عليها بين قرطاجة ونوميديا الغربيَّة،و لقد أغار على القوافل وكانت له موانىء سريَّة يستخدمها لبيع الأشياء التي سطَى عليها من أجل العيش، مع العلم أنَّ الرومان كان بإمكانهم إرسال عددٍ كافٍ من الرجال لإعادته إلى عرشه، حيث قام بالترجي عند سكيبيو لغزو إفريقيا، لكن كان هذا الأخير يحتاج إلى إذنٍ من الرومان الذين أضجرتهم الحروب في ذلك الوقت.

(خريطة توضح روما وقرطاجة وبداية الحرب البونيقيَّة الثانية ومسرح الحروب البونيقيَّة)

وكان السبب الوحيد لبقاء ماسينيسا حيًّا طيلة ذلك الوقت، هي نظرة صيفاقس الذي رأى فيه مجرمًا دونيًّا، لا يستحق إرسال حملةٍ ضده، رغم طلبات القرطاجيين المتكررة لصيفاقس بإنهاء حياة الملك المعزول.

ولقد عاش ماسينيسا تلك الحياة الصعبة لعامين من الزمن قبل أن يقرر سكيبيو غزو شمال إفريقيا، وكما وعد من قبل، أحضر ماسينيسا جيشًا نوميديًّا لدعم سكيبيو، وكان عدد الفرسان الذين جلبهم 200 رجلا،  فصُدمَ سكيبيو من الحالة التي آلت إليها مملكة ماسينيسا، والتي تكونت أساسًا من عربات المؤن وعائلته التي أحضرها معه.

ومع ذلك، قدَّم ماسينيسا مساهمةً في المناوشات الصغيرة والفعَّالة ضد العدُّو، قبل الفور بمعركةٍ كبيرة ضد القوى المتحالفة لكلٍ من هاسدروبال (Hasdrubal) القرطاجيّ وصيفاقس،مما دفعت تلك الهزيمة صيفاقس بالتراجع نحو الغرب لحماية إمبراطوريَّته.

ثم تمكَّن صيفاقس من جمع قوة كبيرة ضد مطارديه، ماسينيسا ولاييليوس (Laelius) وهو الرجل الثاني بعد سكيبيو، و كانت المعركة قرب سيرتا (قسنطينة حاليًا) طاحنةً للغاية، لكن الرومان تفوقوا في الأخير،ثم قام صيفاقس بعد ذلك بمحاولةٍ جريئة ضد الخطوط الرومانيَّة بعد جمع رجاله، لكن قاده ذلك إلى الأسر، وتمكَّن ماسينيسا من السير في نوميديا حيث بات الملك السابق مكبلًا بالأغلال، وبسط سيطرته بسهولة على مملكته الجديدة نوميديا.

وأخذ ماسينيسا زوجة صيفاقس، صوفونسيبا، لنفسه في زواجٍ لم يكتب له من العمر طويلًا. ولم يثق سكيبيو بتلك المرأة وطالب بظهورها في موكب احتفاليّ بروما، وكان ذلك أمرًا مهينًا للغاية بالنسبة لإمرأة نبيلة، بدل القبول أو الرفض، فأرسل ماسينيسا قنينة سمّ لصوفونسيبا، و قامت بشربها، آثرةً لنفسها الموت على تعرُّضها لإهانة روما، و كان ذلك فصلًا تراجيديًا للتحالف السلس، لكنه أثبت رغم ذلك ولاء ماسينيسا لروما.

(لوحة تصور موت صوفونسيبا التراجيدي خلال الحملة الإفريقيَّة)

وبعد كل ذلك، كان سكيبيو بحاجة شديدة لماسينيسا في معركته القادمة ضد حنبعل الذي عاد إلى إفريقيا، و جلب ماسينيسا عددًا لابأس به من الفرسان لسكيبيو قبل أيامٍ قليلة من المعركة وحارب ندًا للند أمام حنبعل (سيءُ السمعة) وفيلته،و لقد جابه ماسينيسا وفرسانه النوميديُّون الفيلة ونقلوا المعركة إلى فرسان حنبعل.

وطارد فرسان ماسينيسا خصومهم بشكلٍ سريع على ساحة المعركة، وفي عرضٍ لحنكته التكتيكية والتنظيميَّة الكبيرة، حافظ ماسينيسا على جنوده من هجمات القرطاجيين وأحاط بالعدو لضرب مشاة حنبعل من كل جانب، فأصبحت المعركة في هذه النقطة مسدودة، وسمحت هذه الحركة باختراق جنود حنبعل المحنَّكين الذين خاضوا حملة إيطاليا، وقاد  ذلك إلى فوزٍ ملحميّ لروما.

ومُنح ماسينيسا بعد ذلك ضمانٌ بالحكم على كل الأراضي النوميديَّة من طرف الرومان، وقضى فترة حكمٍ طويلة امتدت لأكثر من 50 سنة، وفي أثناء حكمه أسَّس ورفع من اقتصاد نوميديا، وشجَّع على الزارعة، حتَّى أنه قام بزراعة مؤنٍ كافية لتزويد الجزيرة اليونانيَّة ديلوس (Delos) المضطربة في ذلك الوقت، ليصبح المتبرع الرئيس للجزيرة، مما منح نوميديا درجةً من الاحترام في حوض البحر المتوسط المتحضر.

 

قضى ماسينيسا معظم فترة حكمه وهو يحاول الحصول على أجزاءٍ من الحدود القرطاجيَّة، حيث بقيت قرطاجة دون حراك اتجاه ذلك نظرًا لشروط السلم الرومانيَّة، لكن في نهاية الأمر، اكتفى القرطاجيُّون من تلك الغارات وذهبوا في حربٍ ضد نوميديا، فقاد ماسينيسا  -وهو في سن الثمانين- رجاله في معركةٍ ظفروا بها، مما سمح للرومان بعد ذلك بالقدوم واحتلال المدينة لأوَّل مرَّة، ونهائيًا خلال الحرب البونيقيَّة الثالثة.

(سكيبيوإيميليانوس وهو يشهد موت الملك ماسينيسا الذي قام بتأسيس دولته قبل وقتٍ طويل من ولادة سكيبيو الإبن، واستمر بحكمِ شعبه بفخر حتى الموت)

كان لماسينيسا علاقة قريبة مع سكيبيو الإفريقي (Scipio Africanus) خلال الحرب وبعدها.، وخلال حصار قرطاجة قابل الملك الابن المتبني لسكيبيو، وهو سكيبيو إيميليانوس (Scipio Aemilianus)، وقد يكون هذا الأخير حاضرًا عند مفارقة الملك الأمازيغي العظيم الحياة بسلامٍ في سنة 148 قبل الميلاد وهو يبلغ سن الـ 90 أو 92 (تاريخ ميلاده غير مُحدَّد).

كان ماسينيسا نوميديًّا فخورًا، حيث قام بأمورٍ أكبر من ما فعله معظم الملوك، بتوحيد وتطوير شعبه، ومجابهة الظروف الصعبة والغير أكيدة من أجل الوصول إلى تلك الغاية. ولقد حصد الجوائز عن مجهوداته دون شك، ببناءِ دولة قويَّة وحتَّى الحصول على أبناءٍ وهو في سن الثمانين. بالنسبة لشخصٍ يعتبر لملكٍ ثانوي في صفحات التاريخ، حياة ماسينيسا لم تكن ثانويّةً أبدًا.


  • إعداد : وليد سايس.
  • تدقيق: إبتهال القدار.
  • تحرير: زيد أبو الرب.

المصدر