البرهان حجة منطقية تثبت، بدون أدنى شك، صحة شيءٍ ما. كيف لنا أن نبني هكذا حجة؟ ولماذا يُولع الرياضيون دائمًا بالبراهين؟

أي طريق نسلك؟

في حياتنا اليومية، وحين لا نتصرف بشكل غير عقلاني بالكامل، فإننا عادة نعتمد على نوعين من المنطق. يُسمى أحدهما بالاستقراء، ويتمثل في استنتاج أمر بناءً على تعميم ملاحظة نراها حولنا. فمثلًا إن كان لون كل الخراف التي شاهدتها من قبل أبيض، فإنك قد تستنتج أن كل الخراف بيضاء.

هذه الصورة من التفكير مفيدة جدًا، فالعلماء يبنون نظرياتهم بناءً على ملاحظات يشاهدونها بصورة مماثلة، لكنها ليست طريقة مضمونة بالكامل.

نظرًا لأنك لن تتأكد أبدًا من أنك قد أحصيت كل الخراف في العالم، لا يمكنك التأكد أبدًا من عدم وجود خروف أسود اللون مختبئ في مكانٍ ما، فإذًا لا يمكنك التأكد من أن استنتاجك صحيح.

إذا اعتمدت على الاستقراء فعليك أن تكون منفتحًا لمراجعة استنتاجك كلما ظهرت أدلة جديدة، وهو ما يفعله العلماء عادة.

يسمى النوع الآخر من التفكير المنطقي بالاستنباط. ونسلك فيه طريقًا معاكسًا.

نبدأ بحالة عامة نعرف أنها بالضرورة صحيحة، ثم نبني استنتاجاتنا للحالات الخاصة.

فعلى سبيل المثال، إن كنت تعلم يقينًا أن كل الخراف تحب أكل العشب، وتعلم أن ما يقف أمامك الآن خروف، فإنك تعلم بدون شك أنه يحب أكل العشب.

هذا النوع من التفكير المنطقي مضمون بالكامل. قد تُخطىء فقط في حالة خطأ المُعطى الأساسي، أي إذا كنت مخطئًا بشأن حب كل الخراف لأكل العشب، أو أن ملاحظتك خاطئة، أي أن ما يقف أمامك الآن ليس خروفًا.

لكن إن كان هذان الأمران صحيحين فإن استنتاجك يتبع حتمًا المعطى، وهو صحيح في كل مكان دائمًا وأبدًا.

يرجع الأمر إلى المسلّمات

تهتم الرياضيات بإثبات أن بيانًا ما، كنظرية فيثاغورث، هو صحيح في كل مكان دائمًا وأبدًا. لذلك فإن الرياضيات مبنية على منطق الاستنباط.

البرهان الرياضي هو حجة تستنبط البيان المطلوب إثباته من عدة معطيات صحتها معلومة يقينًا.

فمثلًا إذا أُعطيت قياس زاويتين لمثلث، فإنك تستطيع استنباط قياس الزاوية الثالثة من حقيقة أن مجموع قياس الزوايا الداخلية لكل المثلثات المرسومة في مستوى يساوي دائمًا 180 درجة.

عُرفت أهمية الاستنباط في الرياضيات من أيام الإغريق.

فقد حدد “إقليدس”، والمعروف بأبي الهندسة، مجموعة من المسلمات، وهي بيانات رأى أنها صحيحة بشكل بديهي، ولا تحتاج إلى أي تبرير.

ومن تلك المسلمات (ولكن مصوغة بطريقة مختلفة) أن مجموع الزوايا الداخلية لمثلث يساوي 180 درجة.

أي بيان آخر بشأن الهندسة، كنظرية فيثاغورث على سبيل المثال، يجب استنتاجه من تلك المسلمات بالاستنباط. اتبع إقليدس ذلك النهج في كتابه الشهير “الأصول”.

وهو يعد أحد أنجح الكتب في التاريخ، ويزعم البعض أنه نسخ أكثر من الكتاب المقدس.

لكن بالطبع عليك أن تكون شديد الحذر مع المنطق الاستنباطي، فمن السهل عمل خطأ منطقى. لتتيقن من صحة استنتاجك عليك أن تتأكد من صحة افتراضاتك ومن أنك استخدمتها بشكل صحيح.

فمثلًا يعتمد الإثبات أدناه فقط على بعض الافتراضات البسيطة في التعامل مع المعادلات، لكنه يتوصل إلى نتيجة أن 1=2. هل يمكنك تحديد الخطأ؟

برهان به خطأ:

بفرض س = ص

إذًا:

س2 = س ص

س2 + س2 = س2 + س ص

2 س2 = س2 + س ص

2 س2 – 2 س ص = س2 + س ص – 2 س ص

2 س2 – 2 س ص = س2 – س ص

2 (س2 – س ص) = 1 (س2 – س ص)

وبقسمة الطرفين على (س2 – س ص)

2 = 1

هل نحن بحاجة للبراهين؟

لماذا يصر الرياضيون على برهنة كل شيء؟ في الحياة العادية لا ندقق لهذا الحد.

وحين تشير كل الأدلة في قضية قتل بأصابع الاتهام لشخصٍ ما، فإننا ندينه بسهولة ونحكم بأن إدانته قد أُثبتت بدون أدنى شك. لكن في الواقع لا يمكننا أن نتأكد من ذلك بالكامل.

فكما سيخبرك أي بريء اتُهم ظلمًا، فإن هنالك دائمًا احتمال أنه لم يرتكب الجريمة.

قد تكون الرياضيات هي المجال الوحيد الذي يكون فيه اليقين التام ممكنًا، ولهذا تتمتع البراهين بمكانة مقربة من قلوب الرياضيين.

أيضًا إذا لم نُصر على وجود البراهين فمن السهل ارتكاب أخطاء يصعب إيجادها بغير البراهين.

من الأمثلة الشهيرة مثال المثلث المذكور آنفًا. من مسلمات إقليدس ما يكافئ معناه أن مجموع قياسات الزوايا الداخلية لأي مثلث يساوي 180 درجة. لقد رأى إقليدس أن هذا الأمر بديهي جدًا بحيث علينا تقبله فحسب.

لكن رأى الرياضيون الذين أتوا من بعده أن بإمكانهم فعل ما هو أفضل من ذلك. حاولوا استنتاج تلك الحقيقة بالاعتماد على مسلمات إقليدس الأخرى.

وبذلك، لم يعد يتحتم علينا أن نصدقها كحقيقة مسلم بها، بل يمكن اعتبارها مثبتة بالبرهان (بفرض أن باقي المسلمات صحيح).

عانى الرياضيون للتوصل لذلك البرهان لمئات السنين. وخلال القرن التاسع عشر، وصل الأمر حتى إلى مرحلة الهوس، لدرجة أن الرياضي المجري “فوركش بولياي” Farkas Bolyai حذر ابنه “جانوس” بالبعد عن المحاولة قائلًا:

“بالله عليك، أتوسل إليك، تخل عن المحاولة. خف منها كما تخاف من الهوس بالشهوات الجسدية، فبإمكانها كذلك تضييع وقتك كله، وسلب صحتك وراحة بالك وسعادتك منك”.

لكن “جانوس بولياي” ثابر ولم ييأس، وفي النهاية فشل هو والجميع في إثبات أن مجموع الزوايا الداخلية للمثلث يساوي 180 درجة. ذلك لأن ذلك البيان ليس صحيحًا في جميع الأحوال، فهو فقط صحيح في حالة رسم المثلث على مستوى مسطح.

إذا رسمت المثلث على شكل كروي، وليكن برتقالة، فإن مجموع قياس الزوايا الداخلية يزيد على 180 درجة.

وفي محاولتهم لإثبات نتيجة الـ 180 درجة، تعثر الرياضيون (ومنهم بولياي) في سطح شديد الغرابة، يسمى بالمستوى القطع زائدي (hyperbolic plane)، وفيه يكون مجموع زوايا المثلث أقل من 180 درجة.

من الصعب تصور المستوى القطع زائدي، لكنه شبيه بورقة كرنب تزداد تجعدًا كلما اقتربنا من طرفها.

على الرغم من أننا لا نقابل ذلك السطح الغريب في حياتنا اليومية، إلا أنه شديد الأهمية؛ نظرية أينشتاين للنسبية الخاصة كُونت باستخدام الهندسة القطع زائدية.

ومن النسبية الخاصة وُلدت النظرية العامة للنسبية، وبدونها لم يكن بإمكان لأنظمة الملاحة بالقمر الصناعي وأنظمة تحديد المواقع GPS أن تعمل.

هل نحتاج إلى الناس؟

كثيرًا ما يتفاخر الرياضيون بأن كل ما يحتاجونه ليؤدوا عملهم هو دماغهم وقلم وورقة. لكن بدأ ذلك يتغير في العقود الأخيرة: دخلت الحواسيب إلى عالم الرياضيات وأدت إلى إلى جدل كبير.

إن الجدل ليس حول استخدام الآلة الحاسبة أو الحاسوب لإجراء العمليات الحسابية المعقدة، فالرياضيون يفعلون ذلك طوال الوقت لتسهيل حياتهم، شأنهم شأن أي شخص آخر. لكن منبع الجدل كان حول بناء براهين كاملة اعتمادًا على الحاسوب.

ثمة طريقتين لفعل ذلك في البراهين بمساعدة الحاسوب. يستخدم الحاسوب لإتمام مجموعة كبيرة من الخطوات التي يستحيل على أي شخص إتمامها في وقت مناسب.

لكن منطق الإثبات ذاته لا يزال مصدره الإنسان، لكن إذا لم يكن من الممكن لأي شخص التحقق من كل العمليات التي أداها الحاسوب، فإننا لا يمكننا التيقن بالكامل من أن ذلك البرهان لا يحتوى على خطأ، لذلك لا يعتد البعض بتلك البراهين.

في السنوات الأخيرة طور علماء الحاسب أيضًا برمجيات الإثبات المميكنة – ATPs، وهي برامج حاسوب بإمكانها التوصل إلى نتيجة بناء على بعض المعطيات البسيطة باستخدام قواعد المنطق وبالتالي إثباتها.

لا زالت تلك البرامج حتى الآن بحاجة إلى الكثير من المدخلات البشرية لتعمل بشكل جيد، لكن من السهل تخيل أنها ستصبح أكثر كفاءة في المستقبل.

ما إن كانت ستستطيع استبدال البشر في المستقبل غير معروف بعد، وهو أمر يقع محل جدل كبير. اقرأ هنا4 للمزيد من المعلومات.

حدود الرياضيات:

هل فعلًا تحقق الرياضيات الزعم بأن كل بيان رياضي يمكن إثبات صحته أو خطئه دون أدنى شك؟ للأسف ليس بالكامل.

ففي بداية القرن العشرين، دأب الناس على وضع كل الرياضيات، وليس فقط بعض أجزائها كهندسة المستويات، على أساس قوي وثابت، محاولين التأكد من أن كل بيان صحيح يمكن استنتاجه من بعض المسلمات البسيطة. لم تكن تلك مهمة سهلة.

من المحاولات الشهيرة محاولة برتراند راسل – Bertrand Russell وألفريد نورث وابتهيد – Alfred North Whitehead، والتي جعلت الرياضيات شديدة الصعوبة، فقد أثبتا أن 1 + 1 = 2 بناء على بعض المسلمات المختارة في بضع مئات من الصفحات! كان لنظامهما أيضًا عيب: لم يكن باستطاعتهما أن يثبتا أنه خال من التناقضات.

بعد ذلك ببضع سنوات، قام الرياضي النمساوي “كيرت جوديل” – Kurt Gödel بتوجيه ضربة قاتلة لحلمهما. هب أنك اخترت مجموعة من المسلمات التي ترى أنها تكمن وراء الرياضيات.

يحتم إذًا على تلك المسلمات أن تسمح لك بتحديد والتوصل إلى استنتاجات بخصوص الأرقام الطبيعية وحسابها وإلا ستكون بلا جدوى.

فلنفترض أيضًا أنه بينما أنت تبني كل قوانين الرياضيات من تلك المسلمات، مثبتًا بيانًا تلو الآخر، فإنك لا تواجه أي تناقضات: أي أن النظام الذي بإمكانك بناؤه من تلك المسلمات سيكون خاليًا من التناقضات.

ما أثبته جوديل هو أن ذلك النظام سيحتوي دائمًا على بيانات رياضية لا يمكنك إثبات صحتها أو خطئها: سيكون هنالك دائمًا بيانات غير مقررة.

هذه النتيجة صادمة، إنها تعني أنه بغض النظر عن مجموعة المسلمات التي ستختارها، فإن قوانين الرياضيات التي تستطيع بناءها ستكون دائمًا غير كاملة.

لذلك فإن نتيجتي جوديل تدعيان ب “مبرهنتي عدم الاكتمال ” . لدى الرياضيون أمثلة محددة لبيانات لا يمكن إثباتها باستخدام مسلمات الرياضيات المتفق عليها.

حين يقابلك بيان غير مقرر كهذا فإن عليك أن تقرر بنفسك ما إن كنت تصدقه أم لا. (اقرأ هنا5 للمزيد حول مبرهنتي عدم الاكتمال).

لكن لسوء الحظ فإنه لا يمكنك استخدام نتائج جوديل كعذر لتمزيق فواتير الضرائب بحجة أنك لا تصدقها.

إن ذلك النوع من الرياضيات الذي يستخدمه الناس في حياتهم اليومية، سواء لحساب الضرائب أو بناء الطائرات غير مطروح للشك. إن البيانات غير المقررة التي وجدها الرياضيون حتى الآن لا تدخل في تلك المجالات.

لكن إذا تداخلت تلك البيانات المقررة يومًا ما مع حساباتنا وتقنياتنا، فحينها سيتوجب على الرياضيين اعتماد طريق العلماء وبناء آرائهم حول ما هو صحيح وما هو خطأ بناءً على ملاحظاتهم لما يحدث حولهم.


  • ترجمة: أحمد اليماني
  • تدقيق: حسام التهامي
  • تحرير: رؤى درخباني

المصدر