في عام 1980، اقترح الفيزيائي آلان جوث مرحلة تمدد غير عادية بالنسبة لنموذج الانفجار العظيم للكون. في ذلك الوقت كان من المعروف أن كوننا يتمدد -يكبر أكثر وأكثر كل يوم- ولكن كان معدل التمدد بسيطًا نسبيًا.

قام افتراض جوث على أنه في أولى لحظات نشأة الكون (تقريبًا في مرحلة زمنية تعادل 10-36 ثانية) خضع لفترة من التمدد المتسارع المفرط جدًا؛ فخلال هذه الفترة، تضخم الكون بمعامل يساوي 1026 في وقت يقدر بـ 10-32 ثانية فقط، وهو ما كان يعتبر عمرًا كاملًا للكون حينها، ولكنه لن يبدو لأعيننا سوى مجرد لمحة عابرة متناهية الصغر.

ويفسر هذا الحدث الجوهري، المعروف باسم التضخم الكوني (cosmic inflation)، بسهولة بعض السمات المحيرة التي تظهر في الأرصاد الفلكية، والتي تشمل التسطيح الكوني الهندسي غريب الشكل على المقاييس الكبيرة جدًا، والعلاقة الواضحة بين زوايا الكون البعيدة وافتقارها المطلق للأقطاب الأحادية الشاذة (وهي جزيئات لها قطب مغناطيسي واحد بدلًا من القطبين المعتادين) والتي كانت يجب أن تتشكل بوفرة سابقًا في اليوم الكوني.

وخلال العقود التي تلت اقتراح جوث المبدئي التجريبي، ظل مفهوم تضخم الكون غامضًا بشكل محبط، ولكنه ما زال يمثل نظرية رائدة لما حدث عندما كان كوننا في مرحلة الشباب المدهشة بالنسبة لنا.

اجعل الأمر أكبر

في مفهومنا الحديث للتضخم الكوني، فإن تلك الفترة من التمدد المتسارع كان وراءها صفة جديدة بجانب القالب الكوني وهو ما يُسمى حقل التضخم، ليس الاسم الأكثر إبداعًا، ولكنه يكفي.

حقل التضخم هو حقل كمّي يتخلل كلًا من المكان والزمان، فهو مثل باقي الحقول الكمّية الأخرى، كحقل المجال الكهرومغناطيسي المسؤول عن الفوتونات، وحقل ديراك المسؤول عن الإلكترونات، وهلم جرا، فحقول الكم هي نظريتنا التي تشرح الهيكل الأساسي لكل من المادة والإشعاع، وهي أمر جلل.

لذا لن يكون من السخيف اقتراح نوع جديد من الحقول الكمّية التي أثرت بشكل كبير على نشأة الكون، ولكنها ليست ملحوظة جدًا اليوم.

كما أن هناك مزيّة أخرى للحقول الكمّية وهي ارتباط كمية معينة من الطاقة بها حتى في الفراغ؛ فإذا أحضرت صندوقًا وفرّغته من جميع الجزيئات والإشعاعات، ما ينتج عنه فراغٌ تامّ، سيظل الصندوق يحتفظ ببعض الطاقة، ويمكن اعتبار هذه الطاقة بمثابة اهتزاز أولي في الحقول الكمّية التي تشكل الواقع.

يملك هذا الجزء أهمية خاصة؛ لأن طاقة الفراغ تملك خاصية غريبة لتسريع تمدد الكون، ولا نستطيع تخمين ما هي الطاقة الفراغية بالتحديد لأي من الحقول الكمّية المفردة؛ فإذا كانت تساوي صفرًا، فلن نلاحظ أي تمدد متسارع على المقاييس الكونية، ولكن إذا كانت قيمتها كبيرة، فحينها ربما سيتضخم الكون.

بالون كوني

في نموذج التضخم الكوني، يكون حقل التضخم حقلًا كمّيًا، والذي يبدأ من خلال كمية كبيرة من الطاقة الفراغية، يُحدِث الكون أزيزًا، ويقوم التضخم بعمله، ولكن بعد ذلك، يتغير حقل التضخم -بطريقة أو بأخرى- ويقلل من طاقة فراغه، ما يؤدي إلى إنهاء فترة التضخم، تتميز الفيزياء بالغموض هنا.

وفي نهاية التضخم، يمتلك هذا الحقل خدعة أخيرة في جعبته؛ فقبل أن يتلاشى في غياهب النسيان، يضمحل ليحول نفسه إلى فيض من المادة العادية والإشعاع، مرة أخرى، هذا ليس بالجنون الذي يبدو عليه، لأن الحقول الكمّية قادرة تمامًا على التحول إلى بعضها البعض بسهولة (هذه هي الصورة الحديثة لتفاعلات الجزيئات المعقدة).

زرع حدث اللحظات الأخيرة، المعروف باسم إعادة التسخين، في الكون الفارغ الهائل البارد بذور الأجزاء والقطع الأولية، والتي سوف تنمو في النهاية لتكون البروتونات، الذرات، السحب الغازية، النجوم، والمجرات.

هذه قصة جميلة، لكن كيف نعرف أنها صحيحة؟

 مطبات وتذبذبات

بالنسبة للتضخم، يكمن الشيطان في التفاصيل الكونية؛ إذ يتنبأ نموذج التضخم بأن المادة والإشعاع المودعة حديثًا لم يتشتتا بالصدفة، ولكن على العكس هناك نمط لذلك.

فآلية التضخم لم تتسبب في تمدد الكون سريعًا فحسب، ولكنها تسببت في التمدد السريع أيضًا لكل شيء في الكون، بما في ذلك الاهتزازات الأولية المتضمنة في الحقل التضخمي الكمّي ذاته.

تمددت هذه الاهتزازات واحدة تلو الأخرى، ما أدى إلى كون مليء بالمطبات الصغيرة والتذبذبات؛ اختلافات دقيقة في الكثافة من مكان إلى آخر، ولكن يُعلمنا التضخم أن تلك المطبات والذبذبات لها نمط محدد، فتحديدًا يجب أن يكون هناك نفس العدد من المطبات والذبذبات الصغيرة والكبيرة على حد سواء، بالإضافة إلى ذلك، عندما تتطور هذه المطبات والذبذبات في الكون المتضخم حديثًا لا يجب أن تكون مرتبطة ببعضها البعض.

في لغة علم الكونيات، يجب أن تكون هذه المطبات والذبذبات شبه ثابتة النطاق (مثل الأوركسترا الموسيقية التي تمتلك فيها الأجهزة ذات النغمة المنخفضة والمرتفعة نفس درجة الصوت)، وتمتلك توزيعًا جاوسيًا غير متجانس (يعزف كل عضو في الأوركسترا من مجموعة مختلفة من الموسيقى، ولا يوجد شيء ينسق فيما بينهم).

نمت هذه الاختلافات الدقيقة في الكثافة مع تطور الكون، مع تسبب جيوب ذات كثافةٍ أعلى قليلًا في تراكم المزيد والمزيد من المادة، وهذا بدوره أعطاهم تأثيرًا جاذبًا أقوى على محيطهم، وهو الأمر الذي جعلهم ينمون أكبر من أي وقت مضى، وهكذا.

وتحولت الاختلافات الصغيرة لاختلافات كبيرة في الكثافة، لتدمج نفسها في نمط درجة الحرارة الموجود في الخلفية الميكروية الكونية، وهو بقايا الضوء عندما كان عمر الكون 270 ألف عامًا فقط، ومن هذه النقطة، استمرت الاختلافات في النمو، لتتراكم المادة لتصبح بذور كل الهياكل الكونية، من النجوم المفردة إلى الشبكة الكونية ذاتها.

وتكشف الدراسات التفصيلية لتلك الأنماط أنها في الواقع شبه ثابتة النطاق وغير متجانسة بالفعل، وهو ما يتنبأ به التضخم بالضبط.

وعلى الرغم من أن فيزياء عملية التضخم غير مفهومة على الإطلاق ومن المفترَض أنها سطحية إلى حد ما، إلا أنه نجح في اجتياز كل اختبار تجريبي مر به.

ربما يومًا ما، سيرسم توصلنا لفهم أفضل لهذه الحقبة غير العادية في تاريخ كوننا صورة مختلفة تمامًا. ولكن في غضون ذلك، فإن قصة التضخم -على أقل تقدير- هي أفضل رهان لدينا.


  • ترجمة: محمد يوسف
  • تدقيق: محمد قباني
  • تحرير: زيد أبو الرب

المصدر