كثيرًا ما نفكّر في الفضاء باعتباره مسالمًا وهادئًا، لكنّه في الحقيقة مكانٌ يعجُّ بالأحداث العنيفة، بما في ذلك التصادمات على مستوى المجرات.
من المعروف أنَّ مجرتنا درب التبانة قد تصادمت مع مجراتٍ أخرى في الماضي السحيق، وقد اكتشف علماء الفلك الآن أنَّ أحد هذه التصادمات قد أسفر عن خاصيةٍ غامضة تُسمّى «القرص السميك».

حدث هذا التصادم منذ حوالي عشرة مليارات سنة، وكان السببَ الوحيد تقريبًا وراء ظهور النجوم في الهالة المجريّة الداخلية (هياكل تشبه القبة وتمتدّ فوق وأسفل خط استواء المجرة)، وبالإضافة إلى هذا فقد أدّى التصادم إلى زيادة سمك القرص المجري.

لا تشبه هالة درب التبانة هالات المجرات الحلزونية الأخرى؛ إذ تفتقر النجوم التي تنتشر فيها بشكلٍ كبيرٍ إلى المعادن الثقيلة، ويُعتبر هذا من الأشياء التي تميّز النجوم القديمة جدًا؛ لأنَّ انتشار المعادن في أنحاء الكون جاء بعد موت الأجيال الأولى من النجوم التي شكّلتها على شكل انفجارٍ أطلق مكوّنات هذه النجوم إلى الفضاء المحيط، والتي تدخل بعد ذلك في تشكيل نجومٍ جديدة.

لطالما اعتقد الفلكيون أنَّ درب التبانة قد شهدت العديد من التصادمات الصغيرة التي غذّت النجوم في الهالة، لكنَّ هذه التصادمات ليست حديثة العهد، فلم يمضِ في الواقع على حدوثها أكثر من عشرة مليارات سنة (عمر الكون 13.8 مليار سنة).

لكن، بفضل المعطيات الصادرة مؤخرًا عن المرصد الفضاء الأوروبيّ (غايا)، والتي تُعدّ من أكثر خرائط النجوم دقةً وتفصيلًا حتى الآن، تمكّن فريقٌ من علماء الفلك من تدوين ملاحظاتٍ أكثر تفصيلًا عن  نجوم الهالة الداخلية واكتشفوا أنَّ الجزء الأكبر منها جاء من مصدرٍ واحدٍ ألا وهو مجرة أخرى أطلقوا عليها اسم «إنسيلادوس»، يعرض الفيديو أدناه محاكاةً لتصادمها مع درب التبانة.

وضّحت عالمة الفلك أمينة حلمي من جامعة جرونينجن الهولندية لشبكة «ساينس أليرت»: «أظهرت القياسات التي أجرتها غايا عن حركات النجوم في هالة درب التبانة الداخلية وجودَ فقاعةٍ منفردةٍ كبيرة أو بنية حركية، وقد وجدنا عندما فحصنا التركيب الكيميائي لنجوم هذه البنية تسلسلًا كيميائيًّا محددًا جدًا لا يحدث إلا إذا وُلدت النجوم في نفس النظام (وما بعد درب التبانة).
قد تكون هناك أسبابٌ أخرى وراء ظهور النجوم في الهالة المجريّة، لكن ليس هناك شيءٌ كبيرٌ كهذا، إنه حقًا يهيمن على الهالة الداخلية».

هذا الدليل على حدوث هذا التصادم القديم ساعد على حلِّ لغزٍ قديم، وهو لغز القرص السميك لدرب التبانة.

توجد هذه الخاصية في بعض المجرات الحلزونية، ولكن لا يعرف الفلكيون السبب وراءها.
في حالة درب التبانة، يمكن تقسيم القرص المجريّ إلى جزأين مختلفين: القرص الرقيق؛ الذي يبلغ سُمكه حوالي 400 سنة ضوئية ويحتوي على الغاز والغبار والنجوم.
والقرص السميك بِسُمك 1000 سنة ضوئية، ويحتوي فقط على النجوم التي يزيد عمرها عن عشرة مليارات سنة، مثل نجوم الهالة الداخلية.

إنَّ النماذج ثلاثية الأبعاد التي وضعها الفريق تُظهر أنَّ تصادمًا مع مجرةٍ قمريةٍ قزمة -يُقارب حجمها حجم سحابة ماجلان الصغرى- كان سيملأ هالة درب التبانة بالنجوم، ويسخّن القرص الرقيق الموجود مُسبقًا، ويوسّعه ليصبح أكثر سُمكًا.

الدليل على وجود مجرة إنسيلادوس قويّ؛ فقد وجدت حلمي وفريقها ثلاثة عشر عنقودًا كرويًا مرتبطًا  بهذه المجرة القزمة بالاعتماد على مداراتها الفلكية وتركيبة نجومها.
توصّلت الأبحاث التي أُجريت بناءً على بيانات غايا السابقة أيضًا إلى نتيجةٍ مشابهة؛ إذ كشفت عن وقوع تصادمٍ مند حوالي 8 إلى 11 مليار سنة بين مجرتنا ومجرةٍ قمرية، أسفر عن غمر الهالة الداخلية بالنجوم وتضخيم القرص السميك.

هذا كله يعني أنَّ هناك الكثير من العمل ينبغي القيام به الآن من أجل تحديد موقع النجوم التي خلّفتها التصادمات الأخرى، ومن أجل معرفة المزيد عن تصادم إنسيلادوس.

تقول حلمي: «إنَّ الخطوة التالية هي تقديم وصفٍ أفضل لمجرة إنسيلادوس ولمجرة درب التبانة في بداياتهما؛ لأننا نعرف الآن كيفية الفصل بينهما وسيوفر هذا لنا فهمًا فريدًا حول شكل المجرات في بدايات الكون وحول ظاهرة الإزاحة الحمراء العالية، وهذه رؤية لا يمكن تحقيقها عن طريق صور المجرات التي يلتقطها مسبار هابل مثلًا.

تجد حلمي النتائج التي توصّل إليها فريقها مثيرةً للغاية؛ لأنها مكّنتنا من معرفة شيءٍ جديدٍ ومهمٍ للغاية عن مجرتنا التي نعيش فيها.
وأوضحت أننا لم نكن نعرف في السابق تاريخَ مجرتنا، ولم نكن نعرف ما إذا تكوّن معظم الهالة المجرية من نجومٍ وُلدت في درب التبانة أو في مكانٍ آخر، ولم نكن نعرف كيف تشكّلت الأقراص السميكة.
وتضيف حلمي: «لقد كان هذا حدثًا هامًا في تاريخ درب التبانة! إنه لأمرٌ مدهشٌ أننا أصبحنا الآن على معرفةٍ بهذا، هذا مثيرٌ جدًا».


  • ترجمة: عبد الله ايت وشن
  • تدقيق: تسنيم المنجّد
  • تحرير: زيد أبو الرب

المصدر