ما هو مصادم الهادرونات الكبير ؟ يُعد مُصادم الهادرونات الكبير أعجوبة فيزياء الجسيمات الحديثة والتي مكّنت الباحثين من التغلغل بعُمق في الواقع واكتشاف جسيمات فيزيائية جديدة منها بوزون هيغز .

تمتد جذور مُصادم الهادرونات الكبير إلى العام 1977 حين اقترح السير جون ادامز المدير التنفيذي لدى المُنظمَة الأوروبية للأبحاث النووية (سيرن) بناء ممر تحت الأرض لكي يُستعمل كمُسرع جسيمات ما يسمح لها بالوصول إلى طاقات غير تقليدية، وذلك طبقًا لورقة سابقة ترجع إلى العام 2015 التي كتبها الفيزيائي شورنر سادنيوس.

أرقام مذهلة عن مصادم الهادرونات الكبير في سيرن

حصل المشروع على المُوافقة رسميًا بعد 20 عامًا، أي في عام 1997، وتمت أعمال البناء على حلقة بطول 27 كيلومترًا فوق الحدود المشتركة بين فرنسا وسويسرا، وكانت قادرة على تعجيل سرعة الجسيمات لتصل إلى 99.99% من سرعة الضوء لتصدمها ببعضها البعض في النهاية داخل الحلقة. يوجد ما يقارب 9300 مغناطيس بطول الحلقة لتوجيه دفقات من الجسيمات المشحونة في اتجاهين متضادين بمعدل يصل إلى 11245 مرة في الثانية، ثم تُجمع سويًا لتحقيق تصادم بالرأس، تستطيع الوحدة عمل 600 مليون تصادم في الثانية الواحدة مُنتجةً بذلك كميات مهولة من الطاقة.

ينتج مصادم الهادرونات الكبير طاقة أعلى بمقدار ست مرات ونصف من أكبر مصادم سبقه موجودٍ بمنشأة خارج الخدمة في الولايات المتحدة الأمريكية. كلف المصادم حوالي 8 مليار دولار لبنائه، حوالي 531 مليونًا منها من الولايات المتحدة الأمريكية. يتشارك أكثر من 8000 عالم من أكثر من 60 دولة مختلفة في تجاربه المختلفة، وقد فُعل لأول مرة في العاشر من سبتمبر لعام 2008 ليصدم الجسيمات بجزء من عشرة مليون جزء من قدرته الأصلية. قبل شروعه في العمل، كانت هناك بعض المخاوف من أن ينتج مُحطّم الذرات الجديد ثقبًا أسود يبتلع كل شيء محطمًا بذلك كوكب الأرض، لكن، أكد الفيزيائيون العاملون بالمشروع على عدم وجود أي من تلك المخاوف.

وأوضح المدير السابق لسيرن روبرت أيمار لـ live Science: «إن مصادم الهادرونات الكبير آمن تمامًا، وإن أي اقتراحات بوجود مخاطر هي محض خيال».
لا حاجة لنا إلى القول إن الوحدة لا تشكل أي ضرر ما دامت تُستعمل باعتدال؛ فإذا أمسكت شعاعًا بيديك -والذي بدوره يركز طاقة تعادل حاملة طائرات في نقطة لا تتجاوز الملليمتر الواحد- فسوف يصنع بك ثقبًا، ثم سيقتلك الإشعاع الموجود.

ما تزال الشذوذات في مصادم الهادرونات الكبير تشير بقوة إلى فيزياء جديدة

أبحاث رائدة

حطّم مصادم الهادرونات الكبير في آخر 10 سنوات الذرات في تجربتيه الرئيستين (أطلس) و(سي إم إس)؛ اللذين حُللت بياناتهما بشكل منفصل عن بعضهما للتأكد من أن التعاون لا يؤثر عليهما، وأن كلًا منهما تقدم تأكيدًا على الأخرى، وقد نتج عن تلك الأدوات والتجارب أكثر من 2000 ورقة بحثية في عدة فروع من فيزياء الجسيمات الأساسية. اهتز المجتمع العلمي حين أعلن الباحثون التابعون لمُسرّع الهادرونات الكبير في الرابع من يوليو للعام 2012 عن اكتشاف بوزون هيغز والذي مثّل القطعة الأخيرة لأحجية امتدت لخمسين عامًا. يتجسد الاكتشاف في نظرية «النموذج العياري»؛ يحاول النموذج العياري أخذ كافة الجسيمات والقوى بعين الاعتبار باستثناء الجاذبية وتفاعلاتها، ففي عام 1964 كتب الفيزيائي البريطاني بيتر هيغز ورقة بحثية عن جسيم يحمل الآن اسمه، مقدمًا بذلك تفسيرًا لظهور الكتلة في الكون.

بوزون هيغز في الواقع عبارة عن مجال يتخلل الفراغ ويسحب كل الجسيمات المارة من خلاله، تمر بعض الجسيمات ببطء خلال الحقل وذلك بسبب كتلتها الكبيرة، ويُعد بوزون هيغز إحدى صور ذلك الحقل التي طاردها الفيزيائيون لقرابة نصف قرن. بُني مصادم الهادرونات الكبير بشكل قوي مكّنه من التقاط ذلك المراوغ، وحُددَت كتلته بمقدار يعادل 125 مرة ضعف كتلة البروتون، ونال كلٌّ من بيتر هيغز والفيزيائي البلجيكي فرانسوا إنجلرت جائزة نوبل في عام 2013 لتنبؤهما بوجوده. لم يهدأ بال الفيزيائيين حتى بعد اكتشاف وجود بوزون هيغز؛ وذلك لاحتواء النموذج العياري على بعض الثغرات، إحداها أنه غير قادر على التعامل مع الجاذبية والتي تضمنتها النظرية النسبية لألبرت إينشتاين.

وأنه غير قادر على تقديم جواب عن سؤال: لماذا بُني كوننا من المادة وليس من المادة المضادة؟ واللتين خُلقَتا بكميات متساوية عند نشأة الزمن. لم يقدر النموذج أيضًا على تفسير ما يخص المادة المظلمة وكذلك الطاقة المظلمة والتي ما زلنا نجهل كيفية نشأتها للمرة الأولى. قبل الشروع في تشغيله، زعم العديد من الباحثين أن النظرية العظيمة القادمة ستُدعى «التماثل الفائق» والتي ستضيف عددًا أكثر ضخامة من الجسيمات المتماثلة إلى الجسيمات الأساسية المعروفة، إذ توجد فرصة كبيرة في أن يكون أحد تلك الجسيمات الجديدة المُشكّلَ الأساسي للمادة المظلمة. تقدّم النظرية أيضًا تفسيرًا عن سبب كون قوة الجاذبية أضعف من القوى الثلاث الأساسية الأخرى.

قبيل اكتشاف بوزون هيغز، أمل بعض العلماء في أن يختلف الأخير عن تنبؤات النموذج العياري، وأن يكون ذلك تلميحًا لفيزياء جديدة. لكن عند ظهور بوزون هيغز، كان مطابقًا بشكل لا يصدق لتنبؤات النموذج العياري، وكانت كتلته تقع بالفعل في المدى الذي توقعته النظرية. وعلى الرغم من كونه إنجازًا كبيرًا، لكنه ترك من خلفه الفيزيائيين غير مدركين لخطوتهم التالية. بدأ البعض في الحديث عن العقود الضائعة في مطاردة النظريات القديمة التي كانت تبدو جيدة على الورق لكنها غير فعالة عمليًا، لكن، يأمل الكثيرون في أن تتاح لنا بيانات قادرة على إزالة بعض تلك الفوضى عند تشغيله مرة أخرى.

مصادم الهادرونات الكبير ينجح بانتاج الحساء البدائي (بلازما بداية الكون)

أُغلق مصادم الهادرونات الكبير في ديسمبر 2018 ليخضع للتطوير والإصلاح لمدة عامين، وعندما يعود للعمل مرة أخرى سيكون قادرًا على تحطيم الذرات بطاقات أعلى قليلًا من المرات السابقة لكن بضعف عدد التصادمات كل ثانية والذي سيُكتشف حينها سيكون محض تخمين. هناك بالفعل حديث عن استبداله بمُسرع جسيمات أقوى سيكون موجودًا بنفس المكان لكن أكبر بحوالي أربع مرات من مصادم الهادرونات الكبير، وقد يستغرق ذلك الاستبدال الضخم 20 عامًا ويكلف ما يقارب 27 مليار دولار لإنشائه.

ترجمة: عبد الرحمن مكاوي تدقيق: محمد سعد السيد

المصدر