يوجد القسم الأمريكي في معمل فيرمي القومي لأبحاث الطاقة، أو فيرميلاب في باتفيا بمقاطعة إلينوي. وقد اتخذ المختبر هذا الإسم نسبةً للفيزيائي الإيطالي إنريكو فيرمي، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1938، والذي شملت إنجازاته مجالات النظرية الكمية، والفيزياء النووية، وفيزياء الجسيمات ، والميكانيكا الإحصائية. منذ تأسيس المختبر سنة 1967 بقيادة روبرت راثبون ويلسون وكان موقع المختبر الممتد على مساحة 6800 مصدرًا للعديد من الإنجازات الكبيرة. اكتشف علماء فيرميلاب الكوارك القعري -أحد ال 12 جسيمًا أوليًا المشكلين للكون- والكوارك العلوي و النيوترينو التاووي ، النوع الثالث من هذا الجسيم الشبحي الغامض.

كان باحثو فيرميلاب في المقدمة فيما يتعلق بالعديد من الاكتشافات المهمة من ضمنها بوزون هيجز الذي طال البحث عنه بالتعاون بين لولب مركب للميون (CMS) وأطلس (ATLAS) في مصادم الهدرونات الكبير بسويسرا سنة 2012. ويعمل أكثر من مئة من علماء فيرميلاب في تجارب لولب مركب للميون (CMS) في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية. ويعد فيرميلاب المركز الرئيسي للأبحاث الأمريكية في هذا الشأن لخدمة حوالي 1000 عالم من جامعات مختلفة.

مصادم فيرميلاب الجسيمات دون الذرية مصادم البروتونات الفيزياء الكمومية الكوارك العلوي القمي القاعي النيوترينو التاووي مركز إلينوي

ويتضمن برنامج الفيزياء الحالي والمستقبلي لفيرميلاب تجارب تهدف إلى كشف غموض النيوترينو عبر المسافات القصيرة والطويلة، وتجارب لفهم خصائص جسيمات تدعى ميونات، إلى جانب جهود هدفها في حل أحجية الطاقة المظلمة التي يُعتقد أنها المتسبب في تحرك أطراف الكون بعيدًا عن بعضها بشكل أسرع. بالإضافة إلى البحث عن المادة المظلمة صعبة المنال التي تشكل ربع كوننا المعروف.

لذلك لم يكن الأمر مفاجئًا عندما اعترفت الجمعية الفيزيائية الأمريكية في مبادرة المواقع التاريخية بفيرميلاب لمساهمته لمدة خمسة عقود في مجال الفيزياء عالية الطاقة. وفي احتفال أقيم في العاشر من يونيو، منحت لورا جرين نائب رئيس الجمعية الفيزيائية الأمريكية نيغل لوكير مدير فيرميلاب لوحةً تذكاريةً بمكانة المعمل الرسمي كموقع تاريخي. كتب على هذه اللوحة:

《اعترافًا بمساهمات مكشاف مصادم فيرميلاب المحورية في مجال الفيزياء عالية الطاقة بما يتضمن ذلك اكتشاف الكوارك القعري والعلوي والنيوترينو التاووي المكونات الرئيسية للنموذج القياسي. تكريمًا لإنجازات روبرت راثبون ويلسون الذي ساعد في تصميم وتأسيس المختبر سنة 1967 وخدم كأول رئيس له، وليون ليدرمان الحاصل على جائزة نوبل والذي خدم كثاني رئيس للمختبر كما ساعد في تدشين التيفاترون، أكبر مصادم (بروتونات- بروتونات مضادة) في العالم بالاستخدام الرائد للمغانط فائقة التوصيل.

أنتج فيرميلاب أول شعاع جسيمات عالية الطاقة في الأول من مارس سنة 1972. ومنذ ذلك الوقت، استُخدم مسارع فيرميلاب في مئات التجارب لدراسة المادة على نطاق صغير جدًا، واستُخدم مكشافه لدراسة الكون على نطاق واسع. وكان التيفاترون -وهو مصادم جسيمات بنطاق أربعة أميال- آلة البحث الفيزيائي الرئيسية للمعمل لمدة 25 عامًا.

اليوم يعد فيرميلاب أول مؤسسة معنية بأبحاث فيزياء الجسيمات في الولايات المتحدة، بجذبه لآلاف العلماء للعمل على تجاربهم، ومساهمة بأكثر من 643 مليار دولار في الناتج الاقتصادي لولاية إلينوي وحدها.

مصادم فيرميلاب الجسيمات دون الذرية مصادم البروتونات الفيزياء الكمومية الكوارك العلوي القمي القاعي النيوترينو التاووي مركز إلينوي

اكتُشف الكوارك القعري بقيادة الفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل ليون ليدرمان. وفي سنة 1977 صمم تجربةً قدمت أول دليل على وجود الكوارك القعري، المكون الأساسي لنظام عمل نظري يدعى النموذج القياسي. باستخدام تجربة الهدف الثابت اكتشف جسيم أطلق عليه اسم أوبسيلون. يتألف الأوبسيلون من نوع من الكواركات لم يشاهَد من قبل (الكوارك القعري).

ويعتبر الكوارك القعري أثقل جسيم دون ذري تمت مشاهدته؛ بوزن يعادل عشر مرات كتلة البروتون. اكتشف العلماء من مختبري بروكهافن الوطني ومسارع جسيمات ستانفورد الوطني سنة 1974 جسيمات مكونةً من (الكوارك الساحر- الكوارك الساحر المضاد). وقد قدم اكتشاف الكوارك القعري دليلًا قويًا على التخمينات القائلة بأن المادة مكونة من كواركات.

اكتشف الكوارك العلوي بعد حوالي 20 عامًا في 2 مارس 1995؛ إذ أعلن العلماء القائمون على تجربتي CDF و DZero رصده في تجاربهم، ليكون الكوارك العلوي آخر كوراك مكتشف من أصل ستة أنواع من الكواركات توقعت النظريات وجودهم. اكتشف العلماء أن الكوارك العلوي يعادل وزنه ذرةً كاملةً من عنصر الذهب وأقل من وزن البروتون، وباستخدام شعاع جسيمات تيفاترون تمكن العلماء من تحديد كتلة الكوارك العلوي بدقة عالية.

يقيس الفيزيائيون كتلة الجسيمات لتحديد نوعها. وبمعرفة كتلة الكوارك العلوي استطاع الفيزيائيون معرفة كتلة بوزون هيجز. ومنذ اكتشاف الكوارك العلوي قاس علماء فيرميلاب كتلته بدقة عالية للوقوف على صحة ودقة نماذج الجسيمات لديهم وبالتالي تحديد كتلة بوزون هيجز غير المكتشف، أحد أهم مكونات الإطار النظري لفيزياء الجسيمات.

وبعد حوالي عقدين، في 4 يوليو 2012، أعلن علماء في تجربتين دوليتين في مصادم الهدرونات الكبير بمختبر سيرن عن اكتشاف بوزون هيجز من خلال الجمع بين الإشارات التي شوهدت في أنواع مختلفة من تحلل البوزون المكتشف.

ويعتبر هذا الاكتشاف ذروة ما يقرب من خمسة عقود من العمل من قبل الآلاف من علماء الفيزياء والمهندسين في مسارع الهادرونات الكبير ومسرع تيفاترون وفيرميلاب ومصادم الإلكترونات- البوزيترونات في سيرن. وقد لعب علماء فيرميلاب دورًا مهمًا في العديد من الخطوات التي أدت إلى العثور على الجسيم بعيد المنال.

لقد صمموا أفكارًا ونماذج جديدةً في قسم النظريات، وقاموا ببناء وتشغيل تجارب في مسارع تيفاترون ساهمت في تقديم أدلة على إنتاج بوزون هيجز، كما شاركوا في بناء وتشغيل تجربة لولب مركب للميون (CMS) في سيرن، التي أدت إلى هذا الاكتشاف وقدمت حوسبةً قويةً وقيادةً فكريةً في تحليل البيانات في لولب مركب للميون.

في عام 1993، اقترح علماء الفيزياء بفيرميلاب بناء أكبر مرصد للكشف عن الأشعة الكونية في العالم؛ مرصد (pierre Auger) لمعالجة مسألة أصل الأشعة الكونية ذات الطاقة العالية. افترض الباحثون سابقًا أن الأشعة الكونية تقترب من الأرض بشكل موحد من اتجاهات عشوائية، ومع ذلك في 2007 أعلن الباحثون في مرصد بيير أوجيه أن الأشعة الكونية الأكثر تأثيرًا على الأرض تأتي من اتجاه نوى المجرة النشطة.

مصادم فيرميلاب الجسيمات دون الذرية مصادم البروتونات الفيزياء الكمومية الكوارك العلوي القمي القاعي النيوترينو التاووي مركز إلينوي

تحتوي العديد من المجرات الكبيرة -بما في ذلك مجرتنا درب التبانة- على ثقب أسود هائل في مركزها. وفي حين أن معظم الثقوب السوداء ستبقى هادئةً داخل نوى المجرات لمليارات السنين، فإن كان الثقب الأسود محاطًا ويغذى بواسطة تيار ثابت من الغاز والنجوم؛ فيخلق ما يسمى بالنواة المجرية النشطة. وتطلق النواة النشطة للمجرة إشعاعات عالية الطاقة يمكن رصدها بواسطة التلسكوبات الراديوية وتلسكوبات الأشعة السينية وأشعة جاما على الأرض.

بالإضافة إلى الاكتشافات العلمية البحتة، يعتبر أيضًا مركزًا للابتكار التكنولوجي، إذ أدخل العديد من الأفكار والتقنيات الجريئة من فيزياء الجسيمات إلى التيار العام للمجتمع لتغيير الطريقة التي نعيش بها، ابتداءً من تطوير آلات التصوير بالرنين المغناطيسي وحتى بناء أول مسرع بروتونات لعلاج السرطان. يساعد فيرميلاب على التغلب على أكبر التحديات في عصرنا، إذ تطلب بناء مسرع جسيمات فيرميلاب سنة 1980 حوالي 140000 ميل من الأسلاك فائقة التوصيل، ما دعم الصناعة وساعد على توسيع وخفض تكلفة الإنتاج.

وتعمل منشآت فيرميلاب كمركز عالمي رائد للبحث والتطوير للعديد من التقنيات، مثل المغناطيس فائق التوصيل وتجويفات التردد اللاسلكي فائقة التوصيل الضرورية لمسرعات الجسيمات. إلى جانب تقنية الترددات اللاسلكية فائقة التوصيل التي حُللت لأول مرة في فيرميلاب، والتطبيقات المحتملة في مجالات الطب والطاقة النووية وعلم المواد.

إضافةً إلى ذلك، سيوفر مركز إلينوي لأبحاث المسرعات في فيرميلاب التدريب والابتكار في مجال تكنولوجيا المسرعات. وسيجمع بين العلماء من فيرميلاب ومن الجامعات والمصانع لتحسين البحث والتطوير من أجل مسرعات الجسيمات ومن ثم نقل التقنيات الناتجة إلى السوق؛ وهو جهد مهم جدًا نظرًا لوجود أكثر من 30000 مسرع جسيمات قيد التشغيل في جميع أنحاء العالم، معظمهم في قطاعي الطب والصناعات.

إضافةً إلى كل ما سبق، يوجد قطيع البيسون -الجاموس- الذي يجوب البناء الخاص بالمختبر. جلب ويلسون أول قطيع بيسون المكون من ثور وأربعة أبقار إلى فيرميلاب سنة 1969، ما أوجد تقليدًا يعترف ويؤكد ارتباط مختبرات فيرميلاب بتراثها البري.في سنة 1971، منح قسم الحفاظ على التنوع البيئي بإلينوي 21 بيسونًا إضافيًا لمختبر فيرميلاب. وينحدر القطيع الموجود الآن من تلك الحيوانات الأولى. وعلى الرغم من أنها تبدو هادئة، فإن الجاموس لديه شخصية برية غير مروضة بالضبط مثل الفيزيائيين الموصوفين من قبل أولئك الذين حاولوا ترويضهم بأنهم مشاكسون.

اقرأ أيضًا:

المصدر

ترجمة: مصطفى عبد المنعم.

تدقيق: عبدالستار الحرك.