أصبح آينشتاين بحلول عام 1926 غير متسامح أبدًا مع التفسير الاحتمالي لميكانيكا الكم وسيبتعد عنه إلى الأبد. يجب أن يخضع الكون، بحسب رأي آينشتاين، لقوانين الفيزياء والتي تُعتَبر حتميةً بشكل أساسي؛ واحترامًا لذلك لن يساوم آينشتاين. أوضح آينشتاين ذلك عندما رد على رسالة ماكس برون (1822-1970) إذ قال: «نظرية الكم مبهرة، لكن صوتًا داخليًا يخبرني أنها ليست الشيء الحقيقي بعد. إنها تُنتج حقائق ولكنها لا تقربنا إلى الله. أنا مقتنع بكل الأحوال أنه لا يلعب النرد».

كانت مساعي آينشتاين خلال السنوات الثلاثين الأخيرة من عمره (بما فيها اللحظات التي سبقت موته في الثامن عشر من أبريل عام 1955) مكرسةً لهذه الرؤية، إذ ركز على إيجاد نظرية الحقل الموحد. وحدت هذه النظرية، من بين أشياء أخرى، الجاذبية (كما وصفتها نسبية آينشتاين العامة) مع القوى الكهرومغناطيسية (التي وصفتها معادلات ماكسويل)، والأهم؛ ربطت قوانين الفيزياء بالشك الكمومي.

لم تكن علاقة آينشتاين بالكم متوترةً دائمًا؛ في الحقيقة قاد آينشتاين تطور هذه النظرية عشرين عامًا لتتحول من نظرية الكم إلى الميكانيكا الكمومية، إذن ماذا حدث؟

أمضى ماكس بلانك ذو الإثنين والأربعين عامًا بحلول عام 1900 ست سنوات محاولًا فهم القواعد الأساسية للطيف الإشعاعي الذي ينتجه جسم ما عندما يُسَخن إلى درجة حرارة معينة (على سبيل المثال؛ موقد يتحول إلى اللون الأحمر بفعل الحرارة)، وبدا أن جهوده تضيع هباءً بفضل بيانات تجريبية كشفت خطأًا في نظريته، إلا أن بلانك قام بالتعديل المطلوب، مبتدعًا نظريةً متطابقةً تمامًا مع التجارب.

كان ثمن هذا النجاح مكلفًا، إذ أحدث اضطرابًا مع المفاهيم الكلاسيكية للفيزياء. عرَفَتنا نظرية بلانك الجديدة على المفهوم المحير لـِ(كمّات الطاقة – energy quanta)؛ تمتص المادة، على المستوى الذري، وتبعث الطاقة بكمّات منفصلة وليس بدرجة مستمرة كما أكدت الفيزياء الكلاسيكية، ومن نافلة القول أن بلانك وزملاءه كانوا مترددين باعتناق هذه النظرية بكل حرارة، إلا أن آينشتاين رحب بالفكرة مباشرةً وأكمل معها لعشرين عامًا لاحقة.

آينشتاين و نظرية الكم ميكانيك الكم نيلز بور ماكس برون الإصدار المحثوث الفوتون الفيزياء الكمومية مفهوم كمات الضوء نسبية آينشتاين العامة

نشر آينشتاين بعمر الخامسة والعشرين، عام 1905، ورقةً بحثيةً بعنوان وجهة نظر إرشادية حول إنتاج وتحويل الضوء، ومعها ثلاثة أوراق بحثية ثورية ستغير وجه الفيزياء إلى الأبد، بالإضافة إلى إنهائه الدكتوراه، كانت هذه السنة سنته الإعجازية (بالأصل باللاتيني annus mirabilis). يقترح آينشتاين في هذه الورقة أن الضوء أيضًا يأتي بكمّات صغيرة أي كوانتات الضوء، أو يتصرف بمثابة جسيمات والتي ندعوها الآن الفوتونات.

نوقشت طبيعة الضوء في نظريات قديمة تعود إلى الإغريقيين الأوائل. كان الضوء محشورًا في آخر سلسلة من الأوراق البحثية التي نشرها جيمس كلارك ماكسويل (1831-1879) عن الكهرباء والمغناطيسية عام 1864، بالإضافة لكتابه ذي المجلدين “بحث حول الكهرباء والمغناطيسية” والذي نُشر عام 1873، بمفهوم معين، إذ اعتُبر موجةً كهرومغناطيسية -وليس جسيمًا (فوتون)-. وُصفت معظم خصائص الضوء الأساسية على أنه موجة، ومع ذلك نجحت كمات آينشتاين الضوئية أن تعنون هذه التناقضات.

لاقت فكرة آينشتاين معارضةً جامحةً أكبر بكثير مما عانته نظرية بلانك الكمية. كان الرأي العام للمجمتع الفيزيائي واضحًا؛ لا تعبث مع النظرية الموجية للضوء، إلا أن آينشتاين لم يرتدع وأكمل اكتشاف عواقب كون الضوء جُسيمًا وطبقها حسب رغبته على نظرية الكم، وبهذا أنار الطريق إلى الأمام.

وجد آينشتاين عام 1909 وبأخذ زخم الضوء بعين الاعتبار، النتيجة المذهلة حول الضوء؛ هو يتصرف بمثابة موجة وجسيم معًا، أي نوع من الازدواج الذي لم يوصف من قبل (ظهر نموذج دي بورجيل لثنائية موجة-جسيم عام 1923). استنتج آينشتاين بناءً على النتائج التي حصل عليها: «من وجهة نظري فإن المرحلة القادمة في تطور الفيزياء النظرية ستجلب لنا نظريةً يُفهم فيها الضوء بكونه نوعًا من الاندماج بين النظرية الموجية والنظرية الجسيمية». لم يدعم آينشتاين أحد في استنتاجه إلا أنه لم يتوقف عن العمل.

عاد آينشتاين إلى النظرية الكمومية للضوء، بعد ما أخذ وقته في التركيز على النسبية العامة، في يوليو عام 1916. توجت مجهوداته في ثلاثة أوراق بحثية اثنتين منها عام 1916 والأهم عام 1917.

مرت ستة عشر عامًا على نظرية بلانك الأصلية ولكن برغم نجاحها المذهل إلا أنها بقيت مشوهةً بسبب كونها هجينًا من الاشتقاقات الكلاسيكية الصارمة ومفهوم كمات الضوء ذُرَّ لتبسيط المفهوم المعقد للنظرية. لقد كانت بعيدةً كل البعد عن كونها نظرية كم متكاملة.

استطاع آينشتاين اشتقاق عمل بلانك بشكل معقول إلا أنه لم يبتعد كثيرًا، إذ اضطر للاعتماد على افتراضات من نظريات أخرى. نجح آينشتاين مع ذلك في الوصول إلى فهم أعمق للضوء وطريقة تفاعله مع المادة.

كان التنبؤ بـِ(الإصدار المحثوث – stimulated emission) نجاحًا مهمًا للنظرية وفيه يصطدم فوتون عابر بإلكترون في الذرة ما يسبب في نزول الإلكترون إلى مستوى طاقة أخفض، ما يحث فوتونًا جديدًا بالإضافة إلى الفوتون الأصلي، شكلت هذه الآلية الجديدة الأساسات لليزر الحديث.

كشف آينشتاين عن ظاهرة أخرى وجدها مشوقة جدًا وتحولت بعدها لتصبح سيلًا في معادلاته اللاحقة. تختبر الذرة، على عكس الإصدار المحثوث الناتج عن فوتون عابر، (الانبعاث التلقائي – spontaneous emission)، وكما يشير الاسم فهذه الظاهرة تحدث بصورة طبيعية (بغياب وجود الفوتون العابر) ولكنها مشابهة جدًا للإصدار المحثوث.

تُعتبَر هذه الظاهرة مألوفةً لنا في عملية التحلل الإشعاعي، إذ تُطلَق الأشعة مثل الأشعة السينية أو أشعة غاما بصورة طبيعية. وبما أن الظاهرة تحدث بصورة تلقائية فيستطيع الفوتون الناتج الانطلاق بأي اتجاه. إن اتجاه انطلاق الفوتون عشوائي بطبيعته وهذا السبب وراء اضطراب آينشتاين؛ الأمر الذي أطلق شرارة عدم تساهله مع نظرية الكم، وهجره نظرية الكم عام 1926.

قدّم آينشتاين أكبر إسهاماته لنظرية الكم وعلى الأغلب للفيزياء في عام 1925. نجح ساتيندارا ناث بوز عام 1924 أخيرًا في التوصل إلى نموذج متكامل من نظرية بلانك الكمومية، بواسطة تبني مفهموم آينشتاين لكمات الضوء، الأمر الذي لم يقم به أي فيزيائي عدا آينشتاين نفسه منذ تقديم هذا المفهوم عام 1905. كان عمل بوز ثوريًا، وأسس لوجود (الإحصاء الكمومي – quantum statistics). بقي آينشتاين على مدى عقدين يصارع الطبيعة الأساسية للضوء، ولا بد أنه أدرك على الفور ما توصل إليه بوز إذ رأى عمله جزءًا من هذا الإنجاز.

باشر آينشتاين، مقتنعًا أن الطريقة التي طورها بوز للضوء تمتلك تطبيقات على الذرة أيضًا، بتطوير نظرية الكم للغاز المثالي أحادي الذرة إذ قال: «إذا أُخِذ اشتقاق بوز لصيغة بلانك الإشعاعية على محمل الجد، عندها لن يستطيع أحد تجاهل نظريتي عن الغاز المثالي، وبما أنها وجدت لتبرير النظر إلى الإشعاع (الضوء) على أنه غاز مثالي، عندها يجب أن يصبح التماثل بين الغاز الكمومي (الضوء) والغاز الجزيئي تامًا».

كتب آينشاين ثلاث أوراق بحثية يُفَصل فيها طريقته، في الورقة الأولى (التي قدمها للأكاديمية البروسية بعد ثمانية أيام من قبول ورقة بوز البحثية والتي نُشرت عام 1924) طبق آينشتاين بنجاح طريقة بوز الجديدة على الغاز المثالي أحادي الذرة وأنشأ من ضمن أشياء أخرى مساواةً بين الذرات والضوء.

كانت الورقة الثانية والتي نُشرت عام 1925 الأهم بين الأوراق الثلاث. تنبأ آينشتاين فيها بحدوث حالة تحول غير عادية والتي نُطلق عليها الآن (تكاثف بوز-آينشتاين – Bose-Einstein condensation)، في حالة التحول هذه تتكاثف الذرات نحو مستوى طاقة أخفض عندما تُخفَض درجة الحرارة، يحدث هذا التكثيف على نحو واضح عندما تصل درجة الحرارة إلى الصفر المطلق وعندها تتكثف كل ذرات الغاز لتصل إلى حالة الطاقة الأخفض.

إن الجزء المدهش من تكاثف بوز-آينشتاين هو أن لا علاقة لتكاثف الذرات بتفاعلات الجذب التي تشد الذرات (تُكثفها) مع بعضها وهي الحالة الطبيعية التي يحدث فيها التكاثف.

يجب أن يحدث التكاثف مع الطبيعة الكمومية للذرات نفسها. على الرغم من عدم أخذ تكاثف بوز-آينشتاين على محمل الجد في ذلك الوقت، ظهرت صحته عندما تمكن علماء في تجربة من تبريد نظام من الرابيديوم-87 إلى درجة مقاربة للصفر المطلق باستخدام تقنيات تبريد جديدة كليًا.

تمكن إروين شرودينغر (1887-1961) خلال فترة سنة من الإبداع المتكبد، من إنتاج ست أوراق بحثية ضخمة ستنشأ معها نظرية كمومية جديدة تُعرف بـِ(الميكانيكا الموجية – wave mechanics)، والتي ستنتج عنها معادلته الموجية الشهيرة. سيُرحب آينشتاين، بدايةً، بنجاح شرودينغر بحفاوة قائلًا: «تنبع فكرة عملك من عقل عبقري». وأضاف بعد عشر أيام: «أنا مقتنع أنك أنجزت تقدمًا حاسمًا بصيغتك للحالة الكمومية». إلا أن مشاعره تغيّرت بعد فترة.

كانت المضامين الفيزيائية لمعادلة شرودينغر الموجية لغزًا محيرًا للجميع بما فيهم شرودينغر نفسه. تمكن ماكس برون من فهمها في النهاية إذ قال: «تتبع حركة الجسيمات قوانين الاحتمالية». بكلمات أخرى، إن الجسيم الكمومي (الفوتون أو الإلكترون أو غيرها).

على عكس الجسيم الكلاسيكي، لا يتحرك بمسار فيزيائي محدد مسبقًا بقيم محددة لخصائصه الأساسية، كالموقع والزخم والطاقة وغيرها، في وقت واحد. تُحدد هذه القيم الفيزيائية جميعها من خلال الاحتمال الكمومي المتأصل.

أثبتت فكرة الاحتمال الكمومي الكامنة أنها تعود لآينشتاين ولشرودينغر أيضًا، وعندها أدار آينشتاين ظهره لميكانيكا الكم إلى الأبد في السعي نحو بلوغ حلمه بابتداع نظرية الحقل الموحد. لم يدرك آينشتاين حلمه، في النهاية، واستمرت غرابة ميكانيكا الكم حتى يومنا هذا.

اقرأ أيضًا:

ما الي تخبرنا به نظرية الكم عن الواقع

سلسلة كل شيء من عدم نظرية الكم وواقعها

ترجمة: مازن سفّان

تدقيق: آية فحماوي

المصدر