اكتشف علماء الكونيات شيئًا غريبًا في السنوات الأخيرة عندما تعمقوا في دراسة العصور المبكرة للكون، إذ وجدوا مجموعة كبيرة من الثقوب السوداء فائقة الكتلة موجودةً في تلك الحقبة، فقد كان من المُعتقد أنه عصر مبكر جدًا لتتكون هذه الثقوب السوداء الضخمة خلاله.

بعدها توصل العلماء لاكتشاف جديد حلّ هذا اللغز، وهو أن قرص الغبار والغاز المحيط بهذه الثقوب يتحرك بطريقة مختلفة تدل على سرعة ابتلاع الثقب للمادة بشكل أسرع بكثير من المعدل الطبيعي للثقوب السوداء فائقة الكتلة المعروفة، ونستنتج من هذا أن تلك الثقوب المبكرة تحصل على المادة بشكل أسرع من المتوقع وهو ما يفسر وجودها بتلك الضخامة في تلك الآونة المبكرة من عمر الكون.

يوجد هذا الثقب الأسود الغريب في مركز مجرة اسمها مسييه-77 / Messier M77 أو NGC 1068 التي تبعد عنا مسافة 47 مليون سنة ضوئية تقريبًا، وهي مجرة من نوع زايفرت Seyfert أي أنها تحتوي على ثقب أسود نشط فائق الكتلة بمركزها يعمل على تجاذب وتماسك المواد في الفضاء المحيط به، ولهذا يكون الثقب محاطًا بسحابة ضخمة دوامية تأخد شكل الكعكة الحلقية أو الدونات Doughnut وتحجبه عند رصده في نطاق الطيف المرئي، ويعرف القرص الرفيع الذي تُمتص مكونات مادته داخل الثقب الأسود بالقرص المُزوِّد، ولكن يمكننا التقاط بعض التفاصيل عن الثقب من خلال رصده بالأشعة الراديوية كما فعل فريق من علماء الفلك باستخدام مصفوفة مرصد أتاكاما الملليمتري/تحت الملليمتري الكبير –ألما/ALMA– بتشيلي.

الصورة المُلتقطة بمرصد ألما. حقوق الصورة: ALMA (ESO/NAOJ/NRAO), V. Impellizzeri; NRAO/AUI/NSF, S. Dagnello

وبفضل هذا الرصد الجديد، تمكن العلماء من قياس وتقدير حركة الغازات في المدارات الداخلية للثقب حيث وجدوا شيئًا غريبًا، إذ قالت عالمة الفلك فيوليت إيمبلتزيري Violette Impellizzeri بالمرصد الوطني للفلك الراديوي: «من المفاجئ أننا وجدنا قرصين من الغازات يدوران في اتجاهين متعاكسين، والتيارات الدوارة في الاتجاه المُعاكس للاتجاه الطبيعي تبدو في حالة من عدم الاستقرار وهذا يعني أن هذه السحب الغازية تُمتص بصورة أسرع بواسطة الثقب الأسود مقارنةً بالأقراص المعتادة التي تدور في اتجاه واحد، وهذا قد يفسر سبب النمو السريع لتلك الثقوب السوداء».

تبلغ كتلة الثقب الأسود فائق الكتلة بمركز مجرة مسييه-77 نحو 15 مليون مرة كتلة الشمس، وعليه فإن أفق الحدث الخاص به يتسع بعرض أكثر من 88 مليون كيلومتر تقريبًا، وتمتد آثار جاذبيته أبعد من ذلك بكثير، فحسب المشاهدات التي رصدها الفريق، فإن القرص الداخلي الذي يدور بالقرب من الثقب ويصب بداخله -تمامًا مثل الدوامة المتكونة حول بالوعة أحواض الاستحمام- تبدأ من مسافة سنتين ضوئيتين من الثقب الأسود وتمتد إلى أن تنتهي على مسافة 4 سنوات ضوئية ويدور هذا القرص في اتجاه واحد، أما النتوء الخارجي المحيط بالقرص فيمتد من 4 سنوات ضوئية ويصل إلى 22 سنةً ضوئيةً ويدور في الاتجاه المضاد لاتجاه دوران القرص الداخلي.

وعلى الرغم من أن هذا الدوران المعاكس قد يفسر سبب النمو السريع لهذا الثقب الأسود، إلا أنه يتركنا أمام لغز آخر محير، إذ قالت إيمبلتزيري: «لم نتوقع أن نرى هذه الظاهرة، لأن الغاز الذي يُمتص بواسطة الثقب الأسود ينبغي أن يدور في اتجاه واحد، ومن المستحيل أن يغير جزء من القرص اتجاه دورانه تلقائيًا، لهذا من اللازم وجود شيء ما قام بإحداث اضطراب في تدفق الغازات».

لا تُعد هذه التدفقات العكسية شيئًا فريدًا وجديدًا بالفضاء، ولكنها تحدث على عدة مستويات أو مقاييس مختلفة، فيمكن أن تحدث على مقياس مجرِّي إذ يحدث الدوران العكسي على مسافة آلاف السنوات الضوئية من مركز المجرة.

قال عالم الفلك جاك غاليمور Jack Gallimore بجامعة بوكنل Bucknell University: «يحدث هذا الدوران العكسي دائمًا بسبب تصادم أو تفاعل مجرتين ببعضهما البعض، أما ما يميز هذه الظاهرة هو أننا نراها على مستوى أو مقياس صغير جدًا، فهي تحدث هنا على مسافة عشرات السنوات الضوئية بدلًا من المسافات المعتادة التي تصل إلى آلاف السنوات الضوئية من الثقب الأسود المركزي».

ما يعتقده الفريق لتفسير هذه الظاهرة الغريبة هو أن المواد التي تدور في اتجاهات عكسية ربما سقطت إلى النتوء المحيط بالثقب من المجرة الأصلية، أو أن الثقب ابتلع بجاذبيته مجرة تابعة قزمة عابرة بجانب المجرة الأصلية وتدور مادتها في اتجاه عكسي، وعلى الرغم من ثبات هذه المدارات العكسية في الوقت الحالي فإن هذا الوضع سيكون مؤقتًا على الأغلب.

قال غاليمور: «سيتغير هذا الوضع عندما يبدأ القرص الخارجي في السقوط إلى القرص الداخلي، والذي يمكن أن يحدث خلال بضع مئات الآلاف من السنوات، حينها ستتصادم التيارات الغازية الدوارة وتصبح غير مستقرة، وسينهار القرصان في حدث شديد الاستضاءة بفعل سقوط جزيئات الغاز داخل الثقب الأسود، ولسوء الحظ فلن نكون موجودين لنشهد هذا الحدث المضيء».

نُشر البحث الأصلي بجريدة The Astrophysical Journal ويمكنك الاطلاع عليه من هنا

اقرأ أيضًا:

الثقوب السوداء – ما هو الثقب الأسود ؟

اكتشاف جديد لمجرة صغيرة بمنطقتنا من الكون يعود عمرها للعصور الكونية المبكرة جدًا

ترجمة: محمد شريف

تدقيق: علي قاسم

المصدر