لم يكن البشر كائنات منصاعة ودودة كما نحن الآن، ربما كان أسلافنا كائنات متوحشة وبرّية، وبمرور الوقت اكتسبنا عادات تعاونية، جعلتنا أفضل في العيش والعمل مع بعضنا في مجتمعات تتبادل المنفعة، ما سمح بتطور الحضارة.

تُعرف هذه الفرضية بفرضية الاستئناس الذاتي self-domestication hypothesis وهي نظرية قديمة، إذ ظهرت منذ أن نشر دارون عمله عن الاستئناس سنة 1868، وتشير عدة أدلة إلى صحتها، لكن يزعم فريق من العلماء الآن وجود دليل تجريبي على النظرية.

يكمن الدليل حسب ادعائهم في جين يتحكم في تطور الوجه، ولكي نفهم الرابط علينا أن نتحدث عن الحيوانات المستأنسة أولًا.

استأنس البشر الكثير من الحيوانات عبر التحكم بتكاثرهم، ما جعل العيش والعمل معهم أسهل، مثل الكلاب والقطط والماشية مثلًا. وعند إمعان النظر، يمكنك ملاحظة إن هذه الحيوانات لا تختلف عن نظائرها البرية في كونها مطيعة ومتعاونة فقط، لكنها تختلف ظاهريًّا أيضًا.

تتضمن هذه الاختلافات: الخطوم (الأنوف) القصيرة والأسنان الصغيرة والذيول الملتوية والآذان العريضة والمزيد من الصفات الشكلية الطفولية.

تُعرف هذه التغيرات الفيزيائية مجتمعةً بمتلازمة الاستئناس domestication syndrome، وترتبط بجينات فُقدت في أثناء النمو الجنيني من مجموعة خلايا تُعرَف بالقمة العصبية neural crest.

هذه الخلايا مسؤولة عن تطور الوجه إضافةً إلى وظائف أخرى، وبما أن هذه الاختلافات توجد فقط في الحيوانات المُستأنسة، فمن المحتمل إن الجينات المسؤولة عنها مسؤولة أيضًا عن اختلافات الشخصية.

ومن المثير للاهتمام إن مقارنة جماجم البشر بجماجم أشباه البشر مثل النياندرتال Neanderthal، تُظهر اختلافات مشابهة، وتتضح في كون جماجمنا أصغر وذات شكل أكثر طفولية ونتوءات حاجبية أقل بروزًا.

نُشرَت ورقة بحثية سنة 2017، اقترحت وجود آلية جينية ترتبط بالقمة العصبية في تطور الإنسان، مشابهة لتلك التي في الحيوانات المُستأنسة، وهذا ما دفع فريقًا بحثيًّا بقيادة عالم البيولوجيا الجزيئية جوزيبي تيستا Giuseppi Testa من المعهد الأوربي لعلم الأورام إلى إجراء تجارب استقصائية.

كيف استأنس البشر نفسهم؟ أخيرًا وجدنا الدليل! - كان أسلافنا كائنات متوحشة وبرّية - العيش والعمل مع بعضنا في مجتمعات تتبادل المنفعة

ركز الباحثون في سلسلة تجاربهم المخبرية على جين يلعب دورًا رئيسيًّا في اضطراب نمو يُسمى متلازمة وليامز- بورين Williams-Beuren syndrome، إذ يملك المصابون بهذه المتلازمة وجهًا أكثر طفولية ويميلون إلى كونهم ودودين وثرثارين وكثيري الثقة بالآخرين وغير عدائيين على الإطلاق.

يفقد المصابون بهذه المتلازمة إحدى نسخ الجين BAZ1B، إلى جانب تشوهات جينية أخرى، بينما يملك الأشخاص الطبيعيون نسختين من هذا الجين.

لذا أجرى الباحثون تجارب متعددة لمعرفة تأثير التعديلات على الجين BAZ1B.

زرع الباحثون 11 صفًّا من الخلايا الجذعية للقمة العصبية، 4 من أشخاص مصابين بمتلازمة وليامز- بورين، و4 من أشخاص يختلفون عن المصابين بالمتلازمة ظاهريًّا، ويملكون الجينات المزدوجة التي يفتقدها المصابون بالمتلازمة (إضافةً إلى سلوك معاكس مثل الخرس الانتقائي selective mutism أو التجنب الاجتماعي أو المعتدين جسديًّا)، و3 من أشخاص طبيعيين.

تلاعب العلماء بعد ذلك بفعالية الجين BAZ1B -زيادةً ونقصًا- في كل صف من صفوف الخلايا الجذعية، ووجدوا أن لذلك أثرًا على مئات الجينات المرتبطة بتطور الوجه والجمجمة، وتحديدًا يؤدي إبطاء الجين BAZ1B إلى ملامح وجه مشابهة للمصابين بمتلازمة وليامز- بورين، ويُظهر ذلك توافقًا مع وجود صلة بين التغيرات الجسمية والسلوك الودي.

ثم بالنظر إلى جينوم أقاربنا المنقرضين، نياندرتال ودينيسوفان Denisovan، بحثًا عن الاختلافات في الجينات التي ينظمها الجين BAZ1B، وجدوا إن هذه الجينات في البشر المعاصرين لديها عدد كبير من الطفرات التي لم تكن موجودة في السلالات البشرية القديمة.

وقال سيدريك بويكس Cedric Boeckx، عالم الأحياء بمعهد كاتالان للدراسات المتقدمة في إسبانيا: «يعني هذا إن الشبكة الوراثية BAZ1B هي سبب مهم لاختلاف وجوهنا مقارنةً بأقاربنا المنقرضين، وقد أمدنا هذا للمرة الأولى بدليل تجريبي على فرضية الاستئناس الذاتي المرتبطة بالقمة العصبية».

ليس هذا دليلًا قاطعًا على أن البشر قد استأنسوا أنفسهم، ولا يُظهر حجم تأثير الجين BAZ1B، إن كان له مساهمة أصلاً، فإذا كان هناك أساس وراثي للاستئناس الذاتي، فمن المحتمل أن يتعلق بأكثر من جين، لكنها لمحة قوية للغاية تشير إلى خط جدير بمتابعة التحقيق فيه.

قال بويكس: «يستكمل هذا البحث إحدى الدراسات الأولى التي استخدمت تقنيات تجريبية حديثة سريريًّا لفهم كيفية تطور البشر منذ الانشقاق عن النياندرتال، وتمثل متلازمة وليامز-بورين خصوصًا نافذة فريدة على تطور جنسنا».

اقرأ أيضًا:

اكتشاف جديد لأحفورة قرد يمكن أن تفسر كيف بدأ البشر الأوائل المشي على قدمين

وجود جينات لسلالات بشرية منقرضة في الحمض النووي للإنسان المعاصر

ترجمة: غند ضرغام

تدقيق: محمد حسان عجك

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر