ينتشر الاحتراق النفسي الوظيفي كالوباء بين الأطباء في الولايات المتحدة الأمريكية، ويؤثر سلبًا في جوانب القطاع الصحي كافة، ويمتد تأثيره إلى الرضا عن العمل. وفقًا لأحد الباحثين: «تشير العديد من الدراسات العالمية التي تضمنت الاختصاصات الطبية كافة إلى أن ثلث الأطباء قد يعانون الاحتراق النفسي الوظيفي في أي لحظة». أشار استبيان في موقع (ميدسكيب) تناول نمط حياة الأطباء سنة 2015 إلى ارتفاع معدل الاحتراق الوظيفي، لتصل النسبة إلى 46%، متجاوزةً نسبة 39.8% المسجلة سنة 2013.

إذا كنت طبيبًا، فراقب زملاءك الأطباء في اجتماع عملكم القادم، ستجد غالبًا أن شخصًا واحدًا على الأقل يعاني الاحتراق الوظيفي.

  • يرتبط الاحتراق الوظيفي ارتباطًا مباشرًا بعدة عواقب، منها:
  •  رداءة العناية المقدمة للمرضى وانخفاض رضاهم عنها.
  •  ارتفاع معدلات الأخطاء الطبية واتهامات سوء الممارسة.
  • زيادة معدل التدوير الوظيفي للطاقم الطبي.
  •  إدمان الكحول وتعاطي المخدرات.
  •  الانتحار.

قد يؤدي الاحتراق الوظيفي إلى الوفاة، إذ ترتفع معدلات الانتحار بين الأطباء رجالًا ونساء، وتترافق مع نقص في الإبلاغ عنها.

لا يقتصر تأثير الاحتراق الوظيفي على الطبيب نفسه فقط، بل يمتد إلى عائلته والمرضى والمنظومة الطبية كاملةً، ومع خطورة الأمر وانتشاره الواسع، تظل مناقشته محظورةً في مكان العمل.

الأطباء والاحتراق النفسي الوظيفي: أسبابه وأعراضه وكيفية الوقاية منه - مهارات الحياة - الطاقة الجسدية والعاطفية والروحية - التعاطف مع المرضى

منشأ الاحتراق النفسي الوظيفي

ينشأ الاحتراق النفسي الوظيفي بسبب اضطرابات في توازن الطاقة، لا يُقصد بذلك عمليات الأيض (كدورة كريبس)، بل هو أشبه بشيء معنوي.

يُعَد تعبير نفاد البطارية من التعبيرات المجازية الشائعة للاحتراق الوظيفي، لكن هذا التعبير يفتقر إلى الدقة، فعندما نقول: نفدت بطارية أداة ما، فإننا نتوقع توقف الأداة عن العمل، وهذا يخالف المقصود من التعبير.

التعبير المجازي الأدق للاحتراق الوظيفي هو تعبير الحساب المصرفي الذي يستخدم الطاقة عُملةً له، قد يمتلك الحساب رصيدًا موجبًا أو سالبًا من الطاقة، تُسحب الطاقة من الحساب لاستهلاكها في العمل أو النشاطات المختلفة، وتُودَع الطاقة في الحساب خلال أوقات الراحة.

يحدث الاحتراق الوظيفي عندما ينفد رصيدك من الطاقة، وتنحدر الطاقة إلى القيم السالبة فترات طويلة، ربما تستطيع متابعة العمل في هذه الحالة، لكن فعاليتك ستختلف عن فعالية شخص يمتلك رصيدًا موجبًا من الطاقة.

تُقسم حسابات الطاقة إلى ثلاثة أنواع:

  1. حساب الطاقة الجسدية: تُودَع فيه الطاقة بالاهتمام بالجسد، وذلك بالراحة الكافية والنشاط البدني والتغذية السليمة.
  2. حساب الطاقة العاطفية: تُودَع فيه الطاقة بالحفاظ على العلاقات مع العائلة والأصدقاء.
  3. حساب الطاقة الروحية: تُودَع الطاقة هنا بالمواظبة على أداء الغاية التي تسمو بها نفسك، كالطبيب الذي يقوم بعمله على أكمل وجه، ويؤدي مهامه الأسرية خارج إطار العمل.

إن الحفاظ على رصيد موجب في الحسابات الثلاثة واجب أخلاقي على الأطباء، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

تعتمد مهارات الطبيب المثالي، كالقيادة والعناية بالمرضى والتعاطف معهم، على تنظيم مستويات الطاقة وبقائها ضمن القيم الموجبة، وكذلك فيما يتعلق بمهارات الحياة. ولا نجد مراعاةً لهذه الأمور في أثناء تعليم الأطباء وتدريبهم، فهم يعتادون مواصلة العمل متجاهلين طاقتهم الجسدية والعاطفية والروحية رغم إنهاكها التام، ما يزيد احتمالية تعرضهم للاحتراق النفسي الوظيفي.

أعراض الاحتراق النفسي الوظيفي

يُشخّص الاحتراق الوظيفي من طريق قائمة (ماسلاش) للاحتراق الوظيفي، وهي المعيار المقبول للتشخيص. صممت كريستينا ماسلاش وفريقها هذه القائمة في سبعينيات القرن الماضي في جامعة سان فرانسيسكو، ووصفت الاحتراق الوظيفي بأنه (تآكل في الروح، يسببه تناقص في قيم الشخص وكرامته وروحه وعزيمته).

للاحتراق الوظيفي ثلاثة أعراض رئيسة:

  1. الإنهاك: تنخفض طاقة الطبيب الجسدية والعاطفية إلى أدنى مستوياتها.
  2. تبدد الشخصية: تشير تصرفات السخرية والتشاؤم والحاجة إلى التنفيس عما يجري في العمل إلى تبدد الشخصية، وتوصف هذه الحالة بأنها نفاد الشفقة، وغياب تعاطف الطبيب تجاه المرضى وسواهم.
  3. الشعور بنقص الكفاءة: يُشكك الطبيب في جودة عمله ويتساءل: هل لعملي قيمة أم لا؟ وتزداد مخاوفه من ارتكاب الأخطاء.

أظهرت الدراسات أن انتشار الإنهاك وتبدد الشخصية متساو بين الذكور والإناث، أما نقص الكفاءة فيصيب الإناث أكثر من الذكور.

يعتمد تطور المرض وظهور أعراضه على الظروف المحيطة بالطبيب، فقد يتطور المرض ببطء على مدى شهور أو سنوات، وقد يتطور المرض في وقت وجيز إذا توفرت الظروف المساعدة، كأن يُصاب الطبيب بفاجعة مؤلمة في حياته الشخصية أو حياته المهنية، كالدعاوى القضائية والأخطاء الطبية.

الأسباب الرئيسة للاحتراق النفسي الوظيفي:

1-ممارسة الطب:

يُعَد الطب مهنةً مرهقة، فالطبيب يتعامل مع الناس في أضعف حالاتهم، كالمرضى والمصابين والخائفين والمحتضرين وذويهم، ولا شك أن هذا العمل يُثقل كاهل الطبيب، فالطبيب يتحمل مسؤولية المريض كاملةً، لكنه لا يتحكم في مصيره.

2-بيئة العمل الخاصة:

إضافةً إلى الأعباء المذكورة آنفًا، تمتلك أمكنة العمل أعباءها الخاصة، قد تكون هذه الأعباء على المستوى الشخصي كالمشاحنات البسيطة بين الزملاء، أو على مستوى سياسات مكان العمل، كالاعتراض على بعض القوانين أو طريقة حساب المستحقّات المدفوعة. إذا ظننت أن تغيير مكان العمل أو طبيعته سيُريحك من الأعباء، فستُفاجَأ بأن كل أمكنة العمل تمتلك أعباءها الخاصة التي ستُضطَّر إلى التعامل معها.

3-الحياة الشخصية:

يُفترض أن تكون الحياة الشخصية ملجأ للطبيب لشحن طاقته، ولكن الواقع مختلف لسببين رئيسين:

  •  افتقار مناهج الأطباء الدراسية للمهارات التي تساعدهم على اتزان حياتهم، فهم يتعلمون تجاهل احتياجاتهم الجسدية والنفسية والاستمرار في العمل حتى الإنهاك، وإلا عُدَّ ذلك تقصيرًا وإظهارًا لضعفهم.
  •  مشاكل الحياة الشخصية، كالمشاحنات بين الأهل والمشاكل الاقتصادية، تجعل هذه الضغوط حياة الطبيب الشخصية عبئًا عليه، بدلًا من أن تكون ملجأً له.

4-وضع التعليم الطبي الحالي:

يجب على طالب الطب أن يتحلى بسمات الطبيب حتى يُنهي تعليمه الطبي بنجاح، لذلك تُرسّخ هذه السمات خلال سنوات تعليمه لأنها تساعده على النجاح، لكنها هي ذاتها ستؤدي إلى احتراقه الوظيفي. ومن أبرز هذه السمات:

  •  مدمن العمل: يواجه أي عقبة في عمله بجهدٍ أكبر.
  •  البطل الخارق: يحمل على عاتقه مسؤولية إيجاد حل لجميع العقبات.
  •  قاصد الكمال: لا يتقبل فكرة ارتكاب الأخطاء، ويُلزم الجميع بمعاييره.
  •  الحارس الوحيد: يفعل كل شيء بنفسه، وينتهي به المطاف مُتحكمًا في أدق تفاصيل من حوله.

إضافةً إلى السمات السابقة، فإن للأطّباء توجهين أساسيين:

الأول هو أن مصلحة المريض تأتي أولًا، هذا التوجه سليم وضروري في التعامل مع المرضى، وفيما عدا ذلك فعلى الطبيب تقديم مصلحته، لكنه لم يعتد فعل ذلك.

الثاني هو أنه يجب على الطبيب ألا يُظهر الضعف، فإذا سألت أي طبيب: هل كل شيء على ما يرام؟ فسيجيب تلقائيًا بنعم، ما يزيد صعوبة اكتشاف حالات الاحتراق الوظيفي.

5-المهارات القيادية لمشرفي العمل:

يؤثر مشرفو العمل تأثيرًا كبيرًا في مقدار إجهادك ومدى رضاك عن عملك. أظهرت دراسة وجود علاقة مباشرة بين جودة مشرفي العمل ومستويات الاحتراق النفسي الوظيفي والرضا عن العمل.

نحن في حقبة يتزايد فيها عدد الأطباء سريعًا، وفي ظل هذا التزايد يظهر نقص في عدد الأطباء القادرين على الإشراف، ما يضع الأطباء تحت إشراف سيئ أو حتى دون إشراف.

كيف تعرف أنك مصاب بالاحتراق النفسي الوظيفي؟

عندما ينحدر رصيدك في حساب الطاقة إلى القيم السالبة، ستجد أن مهام عملك اليومية أصبحت معركة بقاء، ستفقد أي إحساس بالمتعة والتحدي والمغامرة، وستبذل قصارى جهدك لإنهاء المهام بأي وسيلة ممكنة للعودة إلى المنزل، وستتساءل في أعماقك: إلى متى سأستمر على هذا المنوال؟ إذا وصلت لهذه المرحلة، فعليك اتخاذ إجراءات لإيقاف تقدم الاحتراق النفسي الوظيفي.

كيفية إيقاف الاحتراق النفسي الوظيفي والوقاية منه

عليك الحفاظ على رصيد طاقتك ضمن القيم الموجبة باعتماد مبدئين أساسيين:

  1. خفض مستويات الإجهاد، والحد من استنزاف الطاقة.
  2. تعزيز القدرة على شحن حسابات الطاقة الثلاثة المذكورة آنفًا.

إن استخدام المبدأين معًا هو الوسيلة المُثلى لعلاج الاحتراق الوظيفي والوقاية منه.

وأخيرًا تذكر أن شيئين يعيقان الوقاية ضد الاحتراق الوظيفي:

  1. فخّ الإدراك: هو فشل تطبيق معلوماتك النظرية في حياتك العملية. قد يُشعرك نظام التعليم بالثقة الكافية لحل الأسئلة، لكن ينتهي بك الأمر عادةً عاجزًا عن تطبيق ما تعلمته، فاحذر من الوقوع في الفخ.
  2. تعريف آينشتاين للجنون هو: «تكرار فعل الشيء عدة مرات وتوقع نتائج مختلفة».

إذا لاحظت وجود أعراض الاحتراق الوظيفي لديك، فاحذر من تكرار ما تفعله دومًا في عملك، حرر نفسك من قيود إدمان العمل، وتذكر أنه يجب عليك تغيير التصرفات التي أدت بك إلى هذه الحال لتحصل على نتائج مختلفة.

اقرأ أيضًا:

ما هو الإدمان على العمل ؟

ما هو الأذى الذي يسببه تزييف المشاعر في العمل

ترجمة: أسامة البيطار

تدقيق: راما الهريسي

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر