بدأ الغزو المغولي لشرق أوروبا وروسيا بهجمات صغيرة سنة 1233م، ثم انطلقت حملات أكبر بين عامي 1237 و1242. اكتسب المغول-مجهولو الاصل حينها- لقب (فرسان الشيطان) بعد أن أحرزوا انتصارات متتالية، وتوغلوا غربًا إلى مدينة فروتسواف في بولندا.

لم تصمد أمام جحافلهم حتى كبرى المدن مثل تبليسي وكييف وفلاديمير، وببلوغهم نهر الدانوب، استولى المغول على مدن بودا وبست وغران المجرية. ولم تستطع روسيا أو القوى الأوروبية الكبرى تنظيم نفسها لمواجهة الهجوم المغولي الخماسي مواجهةً فعالة، فلم تصمد أمام سلاح فرسانهم السريع، ومجانيقهم الحارقة، واستراتيجياتهم المُرعبة. ونجت باقي مناطق أوروبا الوسطى والشرقية من المد المغولي بوفاة أوقطاي خان، الذي حكم بين عامي 1229 و1241، إذ انسحبت القوات المغولية بعد وفاته.

كان للغزو المغولي لأوروبا فوائد ثقافية رغم الموت والدمار اللذين خلّفهما، فقد التقى الشرق بالغرب أخيرًا، وبدأ المسافرون الغربيون يزورون شرق آسيا، التي كانوا حتى ذلك الوقت يعدُّونها أرضًا أسطورية تسكنها الوحوش، وكانت تلك هي نفس وجهة نظر الصينيين عن أوروبا. أصبح العالم بسبب الغزو المغولي مكانًا أعنف، وأقرب في ذات الوقت.

أوقطاي خان

أصبح أوقطاي خان حاكم الإمبراطورية المغولية الممتدة على مساحة واسعة من آسيا سنة 1229، وقد ورث حكمها عن والده جنكيز خان الذي حكم بين عامي 1206-1227. واجه الخان الجديد مشكلتين في بداية حكمه، الأولى خلو الخزينة الإمبراطورية من الأموال الضرورية للحفاظ على ولاء الجيش، والثانية أن دولة المغول أزاحت الكثير من الحكام وفرضت سيطرتها على مناطق شاسعة، دون أن يكون لديها نظام مؤسسات أو حكومة أو قوانين لإدارة شؤون المناطق والأقاليم التي احتلّتها.

أدرك أوقطاي أن حل المشكلة الثانية سيسمح له بفرض ضرائب على الشعوب التي احتلها، ما يمثل حلًا لمشكلته الأولى. فأرسل الوزراء والموظفين إلى الأقاليم المختلفة ليحكموها ويشرفوا على عمل مُحَصِّلي الضرائب من السكان المحليين فيها.

وبعد بناء عاصمته الجديدة (قراقورم) سنة 1235، وتأسيس نظام إداري مستقر يضمن لدولته دخلًا ماديًا ثابتًا، وجّه أوقطاي اهتمامه إلى توسيع حدود امبراطوريته.

طمع المغول دومًا في جارتهم الصين، أكثر دول المنطقة غنى ورقيًّا، كانت الصين سنة 1230 مُقسّمة إلى دولتين كبيرتين، دولة تحكمها أسرة جوريشن جن في الشمال ودولة تحكمها أسرة سونغ (960-1279) في الجنوب. وبعد عدة حملات مغولية بين عامي (1230-1234) انهارت دولة جن في الشمال، أما دولة سونغ فقد أجّل أوقطاي احتلالها والتفت نحو الغرب.

احتلال الغرب: الإمارات الروسية

كانت جيوش جنكيز خان قد اكتسحت غرب آسيا حتى بحر قزوين، وهزمت الجيش الروسي في كالكا سنة 1223، لكن بسبب رفض الكثير من الدول المهزومة دفع الضرائب المفروضة عليها، أرسل أوقطاي جيشًا لإرغامها على الدفع. وتحمّلت إمبراطورية خوارزم النصيب الأكبر من غضب أوقطاي في ثلاثينيات القرن الثالث عشر. وفي سنة 1235، غزت جيوش المغول شمال العراق، محرزةً النصر تلو الآخر، مندفعةً نحو أذربيجان وجورجيا وأرمينيا سنة 1238، فدمرت البلدات المُحصّنة في تلك المناطق، واستولت على تبليسي وغيرها من المدن، وفرضت الضرائب على أمراء المنطقة.

وبعد عدة هجمات عابرة للقارات على أوراسيا وشرق أوروبا منذ سنة 1236، انطلق جيش مغولي آخر عبر أوزبكستان وكازخستان، مُلحِقًا -في طريقة- الهزيمة بالبشكيريين والبلغار، ليهاجم بعدها الإمارات الروسية عبر نهر الفولغا في شتاء 1237/1238.

أحب المغول السهول القاسية والأنهار المتجمدة التي زخرت بها الطبيعة الروسية شتاءً، إذ كان الشتاء الروسي مشابهًا للسهول العشبية القاسية التي اعتادها المغول وخيولهم القوية. وفي سنة 1237 حاصر المغول مدينة ريازان بين 16 و21 ديسمبر، وقد سجل أرشيف فوسكريسنك الأحداث المرعبة التي شهدتها المدينة: «استولى التتار على مدينة ريازان وأحرقوها، وقتلوا الأمير يوري وزوجته، واعتقلوا الرجال والنساء والأطفال والرهبان والراهبات والكهنة. قتلوا بعض الناس بالسيوف، والبعض الآخر بالسهام ورموهم في النيران، وأمسكوا ببعض السكان وربطوهم وقطّعوا أجسادهم».

لاقت مدن كثيرة المصير نفسه بسبب وحشية المغول، وعجز الأمراء الروس عن تجاوز خلافاتهم والتوحد ضد الخطر المغولي العظيم، ثم جاء دور موسكو-التي لم تكن مدينةً كبرى بعد- فأُحرِقَت، ثم إمارة سوزدال سنة 1238، وأخيرًا مدينة فلاديمير، العاصمة المُحصَّنة التي حوصِرت وهرب حاكمها الدوق الأكبر يوري الثاني، تاركًا زوجته وأبناءه ليواجهوا الهجوم بمفردهم.

جمع الدوق يوري الثاني جيشه وعاد إلى المدينة محاولًا استعادتها، ولكنها كانت قد سقطت في السابع من فبراير أمام أسلحة المغول الفتّاكة من مجانيق ورؤوس الكباش (وهي أسلحة قديمة كانت تُستَخدم في دكِّ جدران الحصون). أحرق المغول كاتدرائية المدينة وهزموا جيش الدوق الذي قُتِل في معركة نهر ست. توالت الكوارث، وسقطت مدينة تورجوك بعد مقاومة طويلة في 23 مارس سنة 1238، لكن نجت مدينة نوفغورود من الهجوم المغولي بحلول فصل الربيع وانسحاب الجيش المغولي إلى شمال البحر الأسود.

غزت موجة ثالثة من الجيوش المغولية أوكرانيا سنة 1239 وهزمت شعب الكومان، واستولت على مدينة كييف بعد حصار قصير في ديسمبر 1240. قُتِل سكان كييف بوحشية مثل سائر المناطق التي احتلها المغول. مرَّ بالمنطقة مبعوث البابا (جيوفاني دو بيانو كاربيني) بعدها بست سنوات ولاحظ: «عندما مررنا بهذه الأرض، صادفتنا جماجم وعظام موتى ممددة على الأرض، كانت كييف مدينة كبيرة كثيفة السكان، لكنها الآن شبه خاوية».

انطلق الجيش المغولي من كييف عبر غاليسيا وبودوليا إلى أوروبا الشرقية، ثم اتجه جزء من الجيش إلى الشمال الغربي وهاجم بولندا، زاحفًا عبر بوهيميا ومورافيا ليهاجم المجر. وفي الوقت نفسه اتجه جزء آخر من الجيش جنوبًا وهاجم ترانسلفانيا ومولدافيا ووالاشيا. كانت المجر الهدف الرئيسي للمغول بسبب أراضيها العشبية، التي عدّها المغول قاعدةً ممتازة لخيولهم، لتنطلق منها لمهاجمة أوروبا الغربية.

التراجع

لاحق جيش مغولي آخر ملك المجر (بيلا) إلى كرواتيا، واستولى في طريقه على مدينة زغرب، ثم اتجه إلى البوسنة وألبانيا وأخيرًا إلى بحر قزوين وسراي، التي ستصبح فيما بعد عاصمة دولة المغول في الشمال، أو ما يُعرف بالحشد الذهبي. تراجعت القوات المغولية شمالًا، لا بسبب هجوم من الأعداء بل لأن أخبارًا خطيرة وصلتهم من منغوليا عبر قارة آسيا. لقد توفي أوقطاي خان في 11 ديسمبر سنة 1241، ولا بد من اختيار خليفة له، في اجتماع تقليدي يضم كل قبائل المغول، يحضره كبار القادة للنقاش والتصويت للخان الجديد.

ربما كانت أسباب أخرى وراء إنهاء الحملة سنة 1242، مثل صعوبة التواصل مع العاصمة المنغولية (قراقورم) لبُعد المسافة، أو أن السهول العشبية المجرية لم تكف لإطعام خيول الجيش المغولي الضخم فترات طويلة. أيضًا كانت بين قادة المغول عداوات، ولم يستطع أي منهم -بعد وفاة أوقطاي خان- أن يثق في القادة الآخرين لدعمه في حملات عسكرية بعيدة عن البلاد. وعلى كل، فإن مطمع المغول الأكبر كان دولة شرقية، هي الصين الجنوبية التي حكمتها أسرة سونغ، فهاجمها المغول واحتلوها لاحقًا تحت حكم القائد المغولي العظيم قوبلاي خان، الذي حكم بين عامي 1260-1294.

أسباب نجاح المغول

امتلك المغول عدة مزايا ضمنت تفوقهم في حملاتهم على الروس والأوربيين. منها أنهم كانوا غير معروفين، فرغم معركة كالكا سنة 1223، لم يفهم الغربيون طبيعة أعدائهم الجدد، وفي ذلك قال أحد المؤرخين: «لقد ظهروا من نهر دنيبر، ولا نعرف من أين أتوا ولا أين ذهبوا». لم يستطع الأوروبيون فهم المغول حتى بعد مرور أكثر من عقد ونصف على القتال معهم.

كان المغول رماة سهام مهرة، لديهم قدرة فائقة على التصويب باستخدام أقواسهم المُركّبة بعيدة المدى، وكان جنودهم أشداء أقوياء، قادرين على ركوب الخيل أيامًا متتالية مع القليل من الطعام والماء. كانت خيولهم ذاتها سلاحًا، ممتلئة الأجسام لكن رشيقة الحركة، ولديها القدرة على تحمل أقسى درجات الحرارة. كان للجيش المغولي سلاحا فرسان، خفيف وثقيل، ولدى كل فارس نحو 16 جوادًا احتياطيًا، ما منحهم قدرة كبيرة على المناورة. استطاع الجيش المغولي بذلك التحرك بسرعة كبيرة عبر مساحات شاسعة.

كان لديهم أيضًا جداول زمنية صارمة، تنقسم بموجبها فرق محددة من الجيش لتلتحم مع جيش العدو في أماكن مختلفة، ثم تنضم ثانيةً إلى الجيش في مواقع معينة، ولذلك تجد أن الخرائط التي رُسِمت حديثًا للحملات المغولية تشبه طبق السباغيتي! إذ تتحرك جيوشهم العديدة في كل اتجاه.

إضافةً إلى ذلك، لم يضيع المغول فرصة استخدام استراتيجيات العدو وابتكاراته، فلم يكتفوا بالمهارات القتالية الشرسة التي جلبوها معهم، بل أضافوا إليها -بفضل مرونتهم- أساليب قتالية جديدة تعلّموها من أعدائهم وأتقنوها بسرعة، مثل أساليب الحصار واستخدام قذائف البارود والمنجنيق، وكلها أساليب مستجدة. واتضح أن جيوش النخبة من الفرسان الأوروبيين من أسهل الأعداء الذين واجههم المغول، فقد منع نشاط فرسان المغول وخفة حركتهم الفرسان الأوروبيين من مباغتتهم أو اللحاق بخيولهم القوية.

استطاع المغول استغلال الخلافات الداخلية في صفوف الأعداء وإثارة العداوات القديمة لإضعاف تحالفاتهم، بعد الحصول على المعلومات من الجواسيس والتجار. وأخيرًا، كان حماس المغول لخوض الحروب شديدًا، لأن خططهم القتالية اعتمدت على هدف رئيسي هو كسب الغنائم.

استخدم المغول سلاحًا نفسيًا فعالًا هو الإرهاب، الذي استخدمه جنكيز خان سابقًا ضد أعدائه، وذلك بذبح الرجال والنساء والأطفال في المدن التي سقطت لإجبار المدن الأخرى على الاستسلام حتى لا تلقى المصير نفسه. ثم إطلاق سراح عدد قليل من السجناء الذين شهدوا المذابح ليخبروا الآخرين بما شاهدوه، وكان لذلك أثر السحر في سكان المناطق المجاورة، وواصل المغول هذه الاستراتيجية تحت حكم أوقطاي. وفي طريقة وحشية أخرى، استخدم المغول السجناء دروعًا بشرية عند الزحف إلى المدن المُحَصنة التي تجرّأت على مقاومتهم. كان السجناء يُلبَسون ثيابًا مثل ثياب محاربي المغول ويسيرون في الصفوف الأمامية حتى يهدر المدافعون سهامهم الثمينة في قتلهم.

انتصر المغول أيضًا بفضل أحد أعظم القادة العسكريين في التاريخ، هو سوبوتاي بادور (1174-1248)، الذي اكتسب خبرته العسكرية الفذة بفضل الحملات العسكرية التي خاضها تحت قيادة جنكيز خان ضد دولتي شيا وجين في شرق آسيا.

كان سوبوتاي القائد الفعلي للقوات التي غزت غرب آسيا وشرق أوروبا، رغم أن قائد الحملة كان (باطو خان) ابن شقيق أوقطاي خان، وقيل إن الجنرال سوبوتاي كان سمينًا يركب عربة لأن حصانًا واحدًا لم يكن يستطيع حمله، لكنه قاد الجيوش وحقق الانتصارات من عربته، وكان لتدخّله في معركة (موهي) دورًا حاسمًا في تغيير مسار المعركة.

اقرأ أيضًا:

ما الذي وقف في وجه حرب المغول وحال دون استعمارهم لأوروبا؟

ارث جنكيز خان الجيني في خطر … رجال آخرون دخلوا في المنافسة

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: وئام سليمان

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر