«تسمح بذلة الفضاء لرواد الفضاء بالبقاء على قيد الحياة ما دامت خزانات الأكسجين مليئةً بما يكفي لمواصلة التنفس، إذ يحتوي كل من خزاني الأكسجين واحتياطي الأكسجين المخصص لحالات الطوارئ -الذي يُستخدم حاليًا في بذلات وحدة الحركة للأنشطة خارج المركبة- ما يلزم من الأكسجين مدة 6.5-8 ساعات مع 30 دقيقة إضافية».

طالما حيرت تفاصيل الفضاء المعقدة وأسراره العقل البشري، بدءًا من الإيمان بمركزية الأرض وشكلها المسطح مرورًا بتصوير ظل الثقب الأسود، وصولًا إلى تخيل مصعد فضائي وإطلاق شركة تختص بتنظيم رحلات إلى الفضاء الخارجي للأشخاص العاديين، وما زلنا نحرز خطوات واسعةً في مجال علم الفلك.

تساعد تلك التطورات على استمرارية حلم توسع المجتمع البشري نحو الفضاء -مع قابلية هذا الحلم للنقاش، فهل يمكن حقًا البقاء على قيد الحياة في الفضاء إلى الأبد؟

يجب علينا جميعًا معرفة أن الإجابة هي لا.

لكن ماذا عن بذلة الفضاء ؟ يصور فيلم «الجاذبية» كفاح رائدة فضاء انجرفت في الفضاء وهي ترتدي بذلتها الفضائية وتفاصيل نجاتها في مواجهة كل تلك الصعاب، فهل يمكن حقًا النجاة في الفضاء المفتوح -أي الفضاء خارج المركبة الفضائية- دون أي معدات باستثناء البذلة الفضائية؟ وإن كان ذلك صحيحًا فكم من الوقت نستطيع البقاء على قيد الحياة؟

هل يستطيع رواد الفضاء البقاء على قيد الحياة مدةً كافيةً في بذلاتهم الفضائية لبناء منازلنا المستقبلية؟

هل يستطيع رواد الفضاء البقاء على قيد الحياة مدةً كافيةً في بذلاتهم الفضائية لبناء منازلنا المستقبلية؟

ما التهديدات التي تواجه رواد الفضاء في الفضاء المفتوح؟

قبل أن نبدأ بالإجابة عن كيفية حماية بذلات الفضاء لرواد الفضاء ومدة استمرار هذه الحماية، يجب أن نكوِّن فكرةً عن تهديدات الفضاء المفتوح.

لا يحتوي الفضاء على الأكسجين لذلك تنعدم أي قدرة على تنفس الأكسجين، يمثل ذلك السبب الرئيسي لعجزنا عن النجاة في الفضاء، إذ يبقي الجسم البشري مقدارًا من الأكسجين في مجرى الدم يكفيه للبقاء واعيًا نحو 15 ثانية، ليزود الدماغ بعدها بالدم غير المؤكسج ويبدأ عندها فقدان الوعي، لكن لا يعني ذلك الموت المحقق، فإذا نُقِل رائد الفضاء إلى مكان يحتوي على الأكسجين بعد دقيقة أو اثنتين من فقدان وعيه فقد ينجو.

خلافًا لما يُعرف أيضًا فإن حبس الأنفاس في الفضاء سيؤدي إلى موت أسرع.

يؤثر الهواء داخل الرئتين بضغطٍ ثابتٍ على جدرانها، ويتساوى هذا الضغط مع الضغط الجوي للأرض ويتقلب تقلبًا طفيفًا عند الحاجة إلى عمليتي الشهيق والزفير، ولما كان الفضاء الخارجي يفتقر إلى الغلاف الجوي فهو يفتقر إلى الضغط الناجم عنه أيضًا، ودون ضغط جوي لتحقيق توازن الضغط الداخلي للهواء، ستتمدد الرئة ما يؤدي إلى تمزقها، ليسرع بعدها الهواء الممدد لدخول الدورة الدموية ما يسبب انسدادًا هوائيًا، وعند محاولة حبس الأنفاس ومنع خروج الهواء الممدد من الجسم فسيسرع ذلك عملية التمزق، ومع غرابة الأمر فإذا علق أحدكم في الفضاء المفتوح فأول أمر يجب فعله هو عملية الزفير.

يتضمن الانصمام تكوين فقاعات غازية في سوائل الجسم، وهي غالبًا ظاهرة أخرى قاتلة تنجم عن غياب الضغط الجوي.

تمثل نقطة غليان السائل درجة الحرارة التي يتساوى عندها ضغط بخار السائل والضغط المحيط به، وبسبب عدم وجود ضغط خارجي في الفضاء فإن نقطة غليان سوائل الجسم مثل اللعاب والدموع والعرق وغيرها تنخفض بشدة، لذا تبدأ بالتبخر فورًا، ولحسن الحظ فإن الدماء لا تصل إلى درجة الغليان لقدرة نظام الدورة الدموية على المحافظة على ضغط الدم ومنعه من الغليان، ومع ذلك فإن جزيئات النيتروجين المنحلة في مجرى الدم تتبخر مسببةً تضخم الأنسجة، لينتفخ الجسم إلى ضعف حجمه الطبيعي، إضافةً إلى معاناة الأنسجة بعض الإصابات الخطيرة.

لحسن الحظ فإن الجلد البشري مرن كفايةً ليحتفظ بالبخار ما يمنع أجسادنا من التضخم لدرجة خطيرة قد تؤدي إلى الانفجار في الفضاء المفتوح، ويعود الجسم المتضخم إلى حجمه الطبيعي بإعادته إلى مكان ذي ضغط جوي طبيعي.

تأثير الفضاء المفتوح في الجسم البشري

تأثير الفضاء المفتوح في الجسم البشري

يتعرض رواد الفضاء في الفضاء المفتوح إلى إشعاعات كونية غير مرشحة إضافةً إلى الرياح الشمسية التي قد تسبب بعض الحروق القاتلة، فقد يتحور الحمض النووي أو يتضرر، وتزداد فرص الإصابة بالسرطان وإعتام عدسة العين والعقم. إلى جانب وجود نيازك دقيقة الحجم فائقة السرعة مع حطام فضائي قد يخترق الجسم البشري كالرصاصة.

قادتنا كتب وأفلام استكشاف الفضاء إلى الظن أننا قد نتجمد فورًا في الفضاء المفتوح، لكن هذه ليست الحقيقة، مع أن الفضاء بارد فعلًا -اعتمادًا على مكان وجودك فيه، فإنه أيضًا يفتقر إلى أي شكل من أشكال المادة -إذ إنه فراغ، والطريقة الوحيدة المتبقية لخروج الحرارة من الجسم هي عبر الإشعاع، إذ يتطلب التوصيل والحمل الحراري وسيطًا لنقل الحرارة، ونظرًا إلى معدل حدوث النقل الحراري عبر الإشعاع، فسيتجمد الجسم البشري في الفضاء المفتوح خلال 12 إلى 20 ساعة.

يستطيع رائد الفضاء أن يبقى واعيًا في الفضاء المفتوح دون ارتداء بذلة الفضاء مدة 15 ثانية، وإن لم يهلك بفعل أي من العوامل السابقة فقد يبقى على قيد الحياة دقيقةً أو دقيقتين قبل أن يتجمد.

بذلات الفضاء

يحزم رواد الفضاء نوعين مختلفين من بذلات الفضاء في رحلاتهم إلى الفضاء الخارجي، يُسمى النوع الأول بذلة الضغط، ويرتديها داخل المركبة الفضائية خلال عملية الإقلاع وفي أثناء العودة إلى داخل الغلاف الجوي للأرض، تحمي بذلات الضغط رواد الفضاء في حالات انخفاض الضغط الطارئة أو الحوادث التي قد تحدث خلال عمليتي الإقلاع أو الهبوط، وما عدا ذلك فلا تتضمن تلك البذلات خزانات أكسجين داعمة أو حشوات إضافية للوقاية من الإشعاعات الكونية، وعلى هذا لا يمكن استخدامها للنجاة في الفضاء المفتوح. مع أن بذلات الضغط تمنع تمدد الرئتين وتضخم الجسم البشري، فإن افتقارها إلى الأكسجين سيؤدي إلى الموت خلال دقيقة أو دقيقتين من الوجود في الفضاء المفتوح.

لم تصمم بذلات الضغط للنشاطات في الفضاء المفتوح وإنما فقط داخل المركبة الفضائية

لم تصمم بذلات الضغط للنشاطات في الفضاء المفتوح وإنما فقط داخل المركبة الفضائية

أما النوع الثاني من البذلات التي يحملها رواد الفضاء فتُعرف بوحدة التنقل خارج المركبة، وكما يبدو من اسمها فهي مصممة خصوصًا من أجل النشاطات خارج المركبة -عمليات السير في الفضاء، أي لحماية رواد الفضاء من جميع التهديدات المذكورة سابقًا.

ولسهولة الفهم يمكن تقسيم بنية وحدات التنقل خارج المركبة إلى مكونين رئيسين: رداء الضغط، ونظام دعم الحياة.

يُعد رداء الضغط البذلة الفعلية التي تأخذ شكل الإنسان، وهي مكونة من أربعة أجزاء مختلفة، يشكل الجزئين العلوي والسفلي ما يُسمى الجذع، إلى جانب ملابس التبريد والخوذة.

الجذع العلوي والسفلي، وملابس التبريد، والخوذة هي المكونات الأساسية لوحدة التنقل الخاصة بالنشاطات خارج المركبة

الجذع العلوي والسفلي، وملابس التبريد، والخوذة هي المكونات الأساسية لوحدة التنقل الخاصة بالنشاطات خارج المركبة

بدراسة هذه البذلة من الداخل إلى الخارج، فإن أول ما يرتديه رواد الفضاء هو رداء التبريد قبل التوجه إلى عملياتهم المعتادة خارج المركبة الفضائية، يُصنَع هذا الرداء من شبكة الألياف اللدنة -وهي ألياف اصطناعية تعرف بمرونتها العالية، وتلتصق بها أنابيب يعادل طولها 90 مترًا، تتدفق ضمنها باستمرار مياه تعادل درجة حرارتها 4.4-10 درجة مئوية للمساعدة على تبديد حرارة الجسم.

أما الجذع العلوي فيتكون من قشرة من الألياف الزجاجية خفيفة الوزن لتشكل طبقات عدة، توجد طبقة المثانة في الأسفل وتتكون من النايلون المطلي باليوريثان -فوق ثلاث طبقات من لباس التبريد، وتؤدي الوظيفة الأساسية لتنظيم ضغط الدم، يلي طبقة المثانة طبقة مقيدة من الداكرون -بوليستر صناعي- وطبقة مقاومة للدموع، أما الطبقات الخمس اللاحقة فهي مصنوعة من المايلر للحفاظ على درجة حرارة الجسم ومضادة للماء والنار، تساعد الطبقة البيضاء الأقرب إلى السطح الخارجي على عكس أشعة الشمس، وهي مكونة من ثلاث مواد مختلفة -الغوميكس والكيفلار والنوميكس، وهي أنواع مختلفة من الألياف.

يرتدي رواد الفضاء أسفل كل الطبقات السابقة حفاضات يستخدمونها عند الشعور بالحاجة إلى التبول، وتساعد القفازات المزودة بتقنية التدفئة على الحفاظ على دفء أصابع رواد الفضاء، فلا تتأثر براعتهم في أداء المهام.

يثبت على القسم العلوي من الجذع كل من نظام دعم الحياة والأذرع والخوذة ووحدة العرض والتحكم وغيرها، ويُربط على القسم السفلي من الجذع حبل أمان مع حلقات على شكل الحرف D، إضافةً إلى حامل الخصر الذي يسمح بحرية حركة رواد الفضاء وسهولة التفافهم.

نظام دعم الحياة وغيره من التجهيزات الملحقة الأساسية

نظام دعم الحياة وغيره من التجهيزات الملحقة الأساسية

تُصنع الخوذة من البلاستيك المقوى كما هو الحال في البذلة، وهي تساعد على تأمين حيز مضغوط، ويحمي كل من القناع الواقي المطلي بالذهب والمظلات رواد الفضاء من أشعة الشمس المباشرة، ويوجه نظام التهوية الأكسجين الموجود في نظام دعم الحياة، تُثبت الكاميرات والأضواء على جوانب الخوذة للمساعدة على الأنشطة التي تحدث خارج المركبة وتسجيلها، ويستخدم رائد الفضاء غطاءً إضافيًا يتضمن سماعات وميكروفونات للتواصل مع زملائه.

يشبه نظام دعم الحياة حقيبةً مليئةً بالاحتياجات الأساسية كافةً، فمن دونه تصبح بذلة الفضاء مجرد زي تنكري، إذ يحتوي نظام دعم الحياة على خزانات الأكسجين وفلاتر التخلص من ثاني أكسيد الكربون والبطارية ومنظم الضغط والراديو وتجهيزات اتصال أخرى وخزان المياه والمضخة ونظام التبريد ومراوح لتوزيع الأكسجين وغيرها، وتتحكم وحدة العرض والتحكم المثبتة على منطقة الصدر في القسم العلوي من الجذع بالمعدات الكهربية والميكانيكية كاملةً.

يعمل رداء الضغط ونظام دعم الحياة معًا «مركبةً فضائيةً لشخص واحد»، ما يسمح لرواد الفضاء بإجراء الأبحاث في الفضاء الخارجي، وإنهاء أعمال الإصلاحات الأساسية خارج محطة الفضاء الدولية.

ما مدة بقاء رواد الفضاء على قيد الحياة في بذلاتهم الفضائية؟

يحمي القسمان العلوي والسفلي من الجذع متعدد الطبقات رواد الفضاء من الإشعاعات الكونية الضارة ومن النيازك الصغيرة دقيقة الحجم، ويساعد على الحفاظ على درجة حرارة الجسم، ويوفر جوًا مضغوطًا بطريقة مناسبة، وكما هو الحال على الكرة الأرضية، فإن متطلباتنا الأساسية في الحياة -الطعام والماء والأكسجين- تمثل عاملًا مقيدًا للحياة في الفضاء.

يفضل رواد الفضاء تناول الطعام والشراب قبل بدء نشاطاتهم خارج المركبة نظرًا إلى استمرار هذه النشاطات ساعات طويلة، واحترازًا يملؤون كيس الشراب في البذلة ويعلقون قطعةً من الفواكه.

يختار رواد الفضاء حجم كيس الشراب، 0.6 لتر أو 0.9 لتر تبعًا لاحتياجاتهم، ويمتد أنبوب بهيئة صمام داخل الخوذة من كيس الشرب إلى جانب الفم، ويفتح الصمام تلقائيًا عندما يبدأ رائد الفضاء بامتصاص الماء، وتغلف قطعة الفواكه في ورق أرز صالح للأكل وتوضع داخل غلاف قرب العنق مع امتداد الطرف العلوي إلى جانب الفم، وفي كل مرة يقضم فيها رائد الفضاء قضمةً من شريط الفواكه، فهو يسحب الشريط ليجهز القضمة التالية، يصل شريط لاصق كيس الشرب وشريط الفواكه مع القسم العلوي للجذع.

يسمح خزانا الأكسجين المجتمعان داخل حزمة نظام دعم الحياة بنحو 6.5 – 8 ساعات من النشاطات خارج المركبة، ويتنوع هذا المجال حسب معدل استقلاب الفرد، إذ يختلف معدل استهلاك الأكسجين وكمية ثاني أكسيد الكربون المطروح بين شخص وآخر. يساوي الضغط داخل وحدات الحركة للأنشطة خارج المركبة ثلث الضغط الجوي على الأرض، وبهذا المعدل فلن يحمل الهواء مقدارًا كافيًا من الأكسجين، لذلك تمتلئ خزانات الأكسجين بالأكسجين الصافي 100%، يؤدي نظام التخلص من ثاني أكسيد الكربون دورًا أساسيًا أيضًا، إذ يساعد على تصفية هواء الزفير وإعادة استخدام الأكسجين غير الممتص، إلى جانب حزمة أكسجين ملحقة لحالات الطوارئ، مثبتة على قاعدة نظام دعم الحياة الأساسي، توفر إمدادات الأكسجين مدة 30 دقيقةً أخرى.

في حين يهدد الفضاء حياة البشر بطرق عديدة، فالفترة الزمنية التي يستطيع رواد الفضاء البقاء على قيد الحياة في بذلاتهم الفضائية تتوقف على كمية الأكسجين التي تحملها البذلة، إذ تسمح البذلات الحالية باستكشاف الفضاء مدة 6.5 – 8 ساعات مع إمكانية إضافة 30 دقيقة، وبعد هذا الوقت سيضطر رواد الفضاء إلى العودة إلى مركبتهم الفضائية ليملؤوا خزانات الأكسجين مجددًا إذا أرادوا الاستمرار في عملهم خارجًا. يحمل جيم فوس وسوزان هيلمس الرقم القياسي الحالي إذ أمضيا 8 ساعات و56 دقيقةً في أعمال الصيانة على محطة الفضاء الدولية.

لا نخطط لبناء منازلنا المستقبلية في الفضاء المفتوح إلا إذا أردنا العمل رواد فضاء، لذلك لن نقلق كثيرًا حول تفاصيل بذلة الفضاء وقيودها، فنحن نهتم بالكواكب الأخرى في نظامنا الشمسي. وإذا كنت تتمنى أن تعيش يومًا خارج عالمنا، فتحقق من المدة التي تستطيع فيها البقاء على قيد الحياة على الأجرام المختلفة لتعرف الوجهات التي يجب أن تضعها على قائمتك!

اقرأ أيضًا:

ماذا يحدث لجسمك عندما تموت في الفضاء؟

ستة عشر خطأ في فيلم Gravity الشهير

ترجمة: فاطمة طاهر أحمد

تدقيق: راما الهريسي

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر