غالبًا ما يُنذرني العثور على نملة واحدة في المطبخ بوجود المزيد من النمل خارج مجال رؤيتي، ينطبق الأمر نفسه على العديد من جوانب الحياة التي تنتج أحيانًا عواقب كبيرة جدًا.

خذ الإنجازات العلمية مثلًا، سنة 2019 مُنحت جائزة نوبل في الفيزياء مُناصفةً للعالمين ميشال ماير وديدييه كيلوز لاكتشافهما عام 1995 كوكبًا شبيهًا بالمشتري بالقرب من نجم يشبه شمسنا، لكن عالم الفلك أوتو ستروف قد اقترح البحث عن هذا الكوكب عام 1952، واستغرق الأمر أربعة عقود قبل أن يتفق أشهر علماء الفلك على إعطاء الفرصة للبحث عن هذا النظام الكوكبي المختلف عن نظامنا وتخصيص وقتهم الثمين وأجهزتهم العلمية للتحقق من ذلك.

حصل الشيء ذاته مع نظرية الانجراف القاري التي طرحها ألفريد فيجنر عام 1912، إذ رفضها آنذاك أشهر علماء الجيولوجيا مدة أربعة عقود، ولم تُقبل إلا بعد التعرف على آلية عمل الصفائح التكتونية.

في علم الأحياء، تجاهل المجتمع العلمي عمل جريجور مندل عام 1866 بخصوص صياغته قواعد الوراثة الجينية، التي أعاد اكتشافها العالمان هوغو دي فريس وكارل كورينز بعد ثلاثة عقود، وشُرحت في النهاية من طريق الكيمياء الجزيئية للحمض النووي بعد قرن تقريبًا من عمل مندل.

النصف الآخر من الكوب ليس فارغًا كما نعتقد، بل مليء بإنجازات العديد من العباقرة المهمشين - صياغة قواعد الوراثة الجينية من قبل غريغور مندل

يُشار عادةً إلى مثل هذه الأمثلة لتأكيد أن المنهج العلمي هو الخيار الأفضل، وأن الحقيقة تسود في نهاية المطاف، لكن في مقابل قصص النجاح توجد قصص أخرى كثيرة لم تلق نجاحًا مماثلًا ولا التفاتةً منا لأننا لم نعرف قيمتها، ومن المؤسف إخماد العديد من الابتكارات العلمية، وتعرض أصحابها للتنمر والتهميش لأنهم متميزون وسابقون لعصرهم، إذ يعد إجهاض ابتكارات هؤلاء العباقرة خسارةً كبيرةً للبشرية.

تُشكل هذه القصص الأليمة درسًا وعبرةً يستنير بها العلماء في مسارهم المهني. تمكّنتُ من متابعة تخصصي في الفيزياء الفلكية بفضل جون باكال الذي قدّم لأجنبي غير محترف مثلي منحةً مدة 5 سنوات في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون، وكان كرمه هذا حافزًا لأرد الجميل بعد ثلاثة عقود، عندما وظّفتُ العالم اللامع غير المعترف به ماناسفي لينجام زميلًا لما بعد الدكتوراه، وكانت هذه الزمالة ثريةً على مدى السنوات الأربع الماضية، إذ نشرنا 35 ورقةً علميةً إلى جانب كتاب سيُنشر قريبًا.

مثال آخر في مجال الرياضيات هو العالم الهندي الشهير سرينيفاسا رامانوجان الذي صاغ نظريات رياضيةً رائدةً بعد انتشاله من الظلام وإبرازه للعالم، عقب اعتراف العالم جودفري هاردي من جامعة كامبريدج بموهبته الفريدة، لا بد من وجود العديد من أمثال رامانوجان في البلدان النامية، الذين يفتقرون إلى الفرصة لتطوير مواهبهم وتحقيق أحلامهم.

لعل أبرز مثال للتهميش في مجال الفن والعمل الإبداعي هو الرسام فينسنت فان جوخ الموصوف بالجنون والفشل طوال حياته، لكن سمعته تغيرت إلى النقيض وأصبح عبقريةً أُسيء فهمها بعد أن توالت استعانة الفنانين التعبيريين بعناصر من أسلوبه في الرسم بعد عقود من انتحاره بعمر 37 عامًا، واليوم تُعد لوحات فان جوخ من أغلى المبيعات الفنية على مر التاريخ.

يُذكر أيضًا أن الكاتب صامويل بيكيت لم ينشر روايته الأولى وتركها جانبًا إلى أن نُشرت عام 1992 بعد 3 سنوات من وفاته، وبعد 23 سنةً من حصوله على جائزة نوبل في الأدب عام 1969. أما الروائي الشهير فرانز كافكا فقد أوصى صديقه ماكس برود بحرق جميع كتاباته بعد وفاته في سن الأربعين، لكن لحسن الحظ خالف برود وصية صديقه، وإلا لضاعت روايات كافكا الرائعة ولم تر النور أبدًا. تُرى كم عدد الأعمال الفنية والكنوز الأدبية التي ضاعت بهذه الطريقة من ذاكرتنا الجماعية؟!

على هذا، يجب أن نقيّم أهم الإبداعات البشرية وننتقيها وفقًا لاستحقاقها لا اعتمادًا على المعايير الشعبية والشهرة قصيرة المدى، وهنا يأتي دور مؤرخي الفن والعلوم للبحث في السجلات القديمة وتسليط الضوء على الكنوز المفقودة التي لم يسعفها الحظ أو الاهتمام لتبرز على سطح الأحداث وتنال حقها.

أعتقد أنه من واجبنا الاعتراف بهؤلاء «الأطفال الذين لم يُولدوا بعد» والاستماع إلى رسائلهم المدفونة بين دفات سجلاتنا وأحداث ماضينا، ففي ذلك خير لمستقبلنا، وأهم من ذلك ألا نكرر أخطاء أسلافنا بتجنب التنمر في وسائل التواصل الاجتماعي على من يختلفون عنا، وتشجيعهم على ابتكاراتهم، وهذا متاح حاليًا في ظل انتشار المناقشات البناءة عبر الإنترنت بتكلفة منخفضة.

يجب علينا في خضم هذه الأوقات المضطربة التي تشهد حملات استقطاب وتكتل أيديولوجي أن ننشر سمة التسامح وتقبل التنوع الفكري، وأن نتعلم الاستماع إلى الآخرين ونبين أسباب اختلافنا بتحضر، خاصةً في مسائل العلم التي تعمل فيها الأدلة عمل القاضي والحكم النهائي لفض النزاعات. يقول الفيلسوف نيتشه في كتابه «فجر النهار»: «إنّ أضمن طريق لإفساد الشاب هو تعليمه الانحياز إلى من يفكرون مثله على حساب الذين يختلفون عنه».

الدرس الذي يقدّمه لنا ماضينا المضطرب يتلخص في وجوب رعاية المبدعين منا، فاستحقاق أعمالهم وقيمتها يجب ألا تُبنى على عدد الإعجابات على منصات التواصل الاجتماعي، وعلى وكالات التمويل الخاصة والفيدرالية إنشاء منح دراسية لدعم الأفراد المتفوقين ذوي التعليم غير الكافي من الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة.

إن لم نعمل معًا بتحضر، فسنبدو سلبيين وبدائيين في نظر الكائنات الفضائية المتقدمة، التي -إن وُجدت- قد تعمل للبحث عن حياة ذكية في هذا الكون، قد نكون كائنات غير ذكية للفضائيين، ولا نستحق الاهتمام ولا التواصل (مثل النمل في المطبخ)، لكن لو تصرفنا بطريقة أفضل فقد نستطيع استبعاد هذا التفسير المحتمل الذي يعلّل عدم وجود أي إشارة من الكائنات الفضائية للتواصل معنا، وهو أحد التفسيرات التي تطرحها «مفارقة فيرمي»: أين الآخرون؟

اقرأ أيضًا:

نيكولا تسلا.. سيرة ذاتية

جريجور مندل وقوانين الوراثة والصفات السائدة والمتنحية

ترجمة: رضوان بوجريدة

تدقيق: راما الهريسي

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر