في عام 2018 جرب رجل أعمال نيوزيلندي أندرو بارنز اعتماد أربعة أيام عمل في الأسبوع بدل خمسة في شركته الخاصة بالخدمات المالية (ديستيرانت غارديان)، وأسس بعدها منظمة عالمية غير ربحية لجعل اﻷسبوع أربعة أيام عمل، واسمها (4 Day Week Global – فور دي ويك غلوبال).

يصف وايت واتس التحدي الذي واجهه في عمله في مطعم بلاتن في شرق إنجلترا، فعليه التعامل مع الزبائن الجائعين في مطعم شهير للسمك ورقائق البطاطس، وبوصفه قائدًا لفريقه بعمر 28 عامًا كان يخشى أن يصبح عمله أكثر كثافة وإجهادًا، لكنه صمم على إجراء تجربة مثيرة للاهتمام لأنه إذا كان باستطاعته تقليص ساعات العمل من 40 ساعة إلى 32 ساعة فقط في الأسبوع مع الحفاظ على إنتاجيته ومهامه المطلوبة منه، فإنه سيحصل على أجره كاملًا مع يوم راحة إضافي.

تُعد شركة بلاتر واحدة من 70 شركة تضم 3300 موظف يطالبون المملكة المتحدة باعتماد أربعة أيام عمل في الأسبوع بدل خمسة، وقد ترأست هذه المبادرة منظمة (فور دي ويك غلوبال).

عمل الباحثون في جامعة كامبريدج، وكلية بوسطن، وجامعة أكسفورد، على دراسة تأثير الأسبوع أقصر في الإنتاجية والرفاهية. وتظهر بارقة أمل في هذا الموضوع حين وجدوا أن الصحة البدنية والعقلية والتوازن بين العمل والحياة قد زادوا، في حين ارتفعت المكاسب بنسبة 8% وانخفض التغيب عن العمل، وانخفضت الاستقالات أيضًا بنسبة طفيفة، وذلك بدراسة 33 شركة تحتوي على 903 موظفًا.

وهكذا اكتسبت فكرة أربعة أيام عمل في الأسبوع زخمًا أكبر وبدأت شركات عالمية كبيرة باعتماد أربعة أيام عمل في الأسبوع مثل فرع يونليفير في نيوزيلندا وأعادت التجربة في أستراليا، وفي الجانب الآخر من العالم بدأ مصرف أتوم في المملكة المتحدة باعتماد 34 ساعة عمل أسبوعيًا فقط وفي بلجيكا اكتسب العمال حق ضغط وقت العمل ليكون أربعة أيام عمل بدل خمسة.

وأخذت الفكرة بالتبلور عقب جائحة كورونا حين أُجبر معظم العاملين في المهام الإدارية على العمل من المنزل، وقضت تمامًا على فكرة روتين المكتب من التاسعة صباحًا إلى الخامسة مساءً

للفكرة مؤيدون ومنتقدون، فالمؤيدون يرون أن الفوائد المجتمعية ستكون أوسع نطاقًا وقد تشمل زيادة المساواة بين الجنسين وتحسين الرفاهية، فضلًا عن الحد من الانبعاثات الكربونية إذا اعتُمدت أربعة أيام عمل. ويذكّرون أن الإجازة الأسبوعية الحالية بيومين لم تبدأ إلا بعد الحرب العالمية الثانية بعد دحض الحجج التي تقول إن وقت الفراغ الزائد قد يحفز النشاط السياسي بين الطبقات العاملة.

ويخشى منتقدي الفكرة من خسارة جزء من الإنتاج إلى جانب المخاطر المتعلقة بالإنهاك العقلي والبدني خلال أيام العمل وتغير ثقافة العمل في الشركات. لا تتمثل المخاطر في انخفاض الناتج فحسب، بل أيضًا في أن كثافة العمل لأيام أقل قد تفوق أي مكاسب من الحصول على يوم إجازة إضافي.

يقول بريندان بورشل، أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة كامبريدج: «نعلم أن أحد الأمور السيئة خصوصًا على الصحة النفسية للناس في المنظمات هو الضغط المستمر على الوقت، ودائمًا ما يتعين علينا العمل في مواعيد تسليم ضيقة وبسرعة عالية».

وقد يعني السعي إلى تحقيق الكفاءة أيضًا تضاؤل التواصل الاجتماعي في العمل، وتضاؤل المعنويات، ومنع تقاسم المعرفة، والإضرار بالثقافة التنظيمية.

عملت صحيفة فاينانشال تايمز على التحدث مع موظفين رؤساء في أربع شركات من قطاعات مختلفة أجرت هذه التجربة، وألقت الضوء على التعقيدات المختلفة على النقلة النوعية التنظيمية هذه.

الاستعداد للنجاح

أعطت شركة ستيلر للخدمات المالية في لندن هذا التحدي لبرنامجها في تنمية القيادات الذي يتألف من مجموعة من صغار الموظفين. وقد عملت من خلال الجوانب العملية مقدمًا وحددت كيفية قياس الآثار باستقصاءات كمية ونوعية بشأن الإنتاجية والأداء. وكانت الشركة تخطط لعمليات النقل بين الموظفين، وقدمت بيانات تتبع المرض والتدريب وتجديد المعلومات للمديرين من أجل تحديد الأهداف، وسعت إلى إيجاد سبل لزيادة الكفاءة بالتكنولوجيا. واستحدثت أداة لإدارة قواعد البيانات وبوابة جديدة للزبائن من أجل تبسيط الاتصال. يقول ديفيد ستاين مدير الاستثمار في شركة ستيلر، «إن هذه العملية كانت حافزًا لمساءلة الطريقة التي كنا نعمل بها».

وبناءً عليه شُجِّع الموظفون على تخطيط أفضل لليوميات وتحديد مواعيد اجتماعات أقصر، أو المشاركة فقط في أجزاء منها.

يقول أندي باس مدير الفنون في هاتش، أنه خفض اجتماعاته الأسبوعية إلى 10 ساعات، وأحيانا يستمع إلى التسجيلات في أثناء أدائه لأعمال أخرى. وطوال ساعتين من كل أربعاء، ركّز موظفو هاتش على ما يسمى بالعمل العميق دون انقطاع بسبب الاجتماعات أو المكالمات. وأنشأت الشركة أيضًا منطقة هادئة مخصصة لهذا الغرض.

وقد أُعيد توزيع المهام فأعطيت الوظائف لأكثر الفنانين ملاءمة في أستوديو هاتش الفني. أما الجانب السلبي فهو أن الفنانين لم يعيروا الاهتمام بالمشاريع التي تقع خارج نطاق راحتهم، وهي مسألة خاصة بالنسبة للموظفين الصغار. يقول باس: «ليست لدينا هذه الرفاهية الآن … لأننا نحتاج إلى بلوغ أهدافنا النهائية». وقد أدى ذلك إلى توفير تدريب إضافي.

في مطعم بلاتن للأسماك ورقائق البطاطس، استلم الموظفون بطاقات في بداية نوباتهم تحدد المهام ذات الأولوية ليتمكنوا من العمل عليها خلال نوباتهم.

ساورتهم الشكوك عندما طُلب منهم الاحتفاظ بمفكرة يومية لقياس مستوى الإنتاجية لأسبوع عمل عادي وإيجاد الكفاءات، واستاء بعضهم من التدقيق في يوم عملهم ما أدى إلى استقالة أحدهم. ويضيف بلاتن: «إن بناء ثقافة تقوم على الثقة وكون المرء منفتحًا وصادقًا حقًا … هو أمر يتطلب الكثير من الوقت والثقة».

جربت شركة الاتصالات الصغيرة يو تيليكوم في ساوثهامبتون فكرة مختلفة في البداية، وهي التحفيز لأسبوع أقصر، فإذا فشل شخص ما في تحقيق إنتاجه الطبيعي، فإن الشهر القادم سوف يعود إلى خمسة أيام.

وقد رفض روتلاند من هوتش هذا النهج إذ قال: «إن العاملين في حقل المعرفة لديهم صعود وهبوط في الحياة».

وفى النهاية لم تواصل شركة يو تليكوم مع تجربة أربعة أيام عمل، لأنها وجدت صعوبات في قياس الأداء في بعض الإدارات وخاصة التسويق. وكان من الضروري أيضًا الاستعانة بمهندسين إضافيين لتغطية الفجوات في الأعمال. خصوصًا عندما تبين أن قليلًا من الموظفين رأوا أنهم حصلوا على عطلة إضافية دون الحاجة إلى تعزيز الإنتاجية في الأيام الأربعة الأخرى، حينها قال الرئيس التنفيذي ناثان هانزل إن هذا يشكل خطرًا، ويقول أنه سيعيد تقييم الوضع عندما يتحسن الاقتصاد.

مشكلات الإنتاجية

يقول جون بويز الخبير الاقتصادي في مجال العمل في معهد تشارترد للموظفين والتنمية إن «الاختبار الحاسم هو ما إذا كانت الشركات قادرة على تعزيز الإنتاجية بنسبة 25% في أيام عملها إذا كانت ستعتمد أربعة أيام عمل».

وجدت بعض الأقسام (كالمبيعات) أنه من السهل نسبيًا قياس الإنتاجية، ولكن أقسام أخرى وجدتها أصعب بكثير. كان من الصعب أيضًا التمييز بين تأثير الأسبوع الذي استمر أربعة أيام وتأثير خروج العالم من الحجر الصحي الذي تزامن مع طرح الفكرة.

يقول شارمين كلافييه سانت جون مسؤول الموارد البشرية في هاتش إنهم في البداية زاد عبء العمل بسبب كثرة القياسات ما دفعهم للتراجع. وظلت سرعة الأداء (المقاسة بعدد النقاط المنجزة في وقت محدد في قسم الألعاب) ثابتة.

أما بالنسبة داريل هين كبير موظفي التشغيل في مؤسسة ستيلر، فركّز على النتائج، مثل تسليم المشاريع أو التقارير وفقًا لمواعيد محددة، أو وصول فرق المبيعات إلى الأهداف المطلوبة، أو إبرام فرق الاستثمار لصفقات، وهو يشعر بالرضا لأنهم يحققون نفس الأرباح في عدد ساعات أقل.

على الجانب الآخر في ستيلر، قال موظفان أنهما يفضلان الأسبوع الذي يمتد خمسة أيام، وأن كثيرًا منهم يتلقون مكالمات هامة أو اجتماعات في يوم عطلتهم. ووجد 43% من موظفي هاتش إنهم يعملون فوق ساعات العمل المعتمدة مع إن 71% منهم فقط أضافوا ساعتين إضافيتين.

ومن الصعوبات التي تواجه جميع العاملين في مجال المبيعات هو التمييز بين وقت الفراغ والعمل. فمثلًا هل كان لعب الغولف مع زبون شيء لقضاء الفراغ أم واجب؟ وقال البعض إنهم يرون أن وقت الإجازة فرصة للدراسة للحصول على مؤهلات مهنية، وإقامة مناسبات للتواصل.

ويصف روتلاند التجربة بأنها «صعبة وصعبة جدًا في بعض الأحيان»، إذ أجبرته على تكثيف وتيرة العمل وعلى اتخاذ قرارات أسرع. وفي سياق أزمة تكاليف المعيشة، ثمة خطر آخر يتمثل في أن الموظفين سيشغلون وظيفة ثانية. ويشعر بلاتن بالقلق إزاء الكيفية التي قد يتداخل بها هذا مع الرفاهية، ولكنه يشعر بالقلق إزاء عبور الخط إلى الحياة الخاصة للعمال.

مستقبل العمل

تدّعي شركة ستيلر أنها حققت فرقًا هائلًا من حيث جذب الموظفين والاحتفاظ بهم. وما وصف في البداية بأنه يومًا لأجازة هدية سوف يتحول الآن إلى يوم عمل مرن، وتأمل أن يزيل أي دلالات تدل على أنه يبدو وكأنه مكافأة.

ويقول روتلاند في هاتش إن التجربة كانت مفعمة بالحيوية حقًا، ويخطط لإقامة معسكرات تدريب إنتاجية كل ستة أشهر.

هل ستقنع الدراسة أصحاب العمل على تطبيق فكرة أربعة أيام عمل في الأسبوع؟ وحتى بين المتحمسين للنتائج، توجد مخاوف أنه ما إن يصبح هذا نمط عمل معياري، ستُفتَقد بعض أوجه الكفاءة.

وعلى نطاق أوسع، مع تعامل أصحاب العمل والموظفين مع ارتفاع معدلات التضخم وفواتير الطاقة، فإن التركيز سوف يتحول إلى الحفاظ على الوظائف.

وقد وجدت البيانات الأخيرة الصادرة عن شركة لينكد إن 28% من أصحاب العمل يتوقعون الحد من الأدوار المرنة في العمل والأدوار المختلطة في العمل.

بالنسبة لكثير من العمال، يعتبر تقصير ساعات العمل الأسبوعية أقل أولوية من تحديد ساعات عمل مرنة أو متوقعة. فمثلًا في مجموعة ليفينج ويج التي تموّل أصحاب العمل الذين يدفعون رواتب تغطي تكاليف المعيشة، أطلقت في 2022 ساعات عمل قابلة للعيش لضمان نوبات متوقعة تصل إلى 16 ساعة على الأقل في الأسبوع.

فالبعض يريدون ببساطة أن يكونوا قادرين على العمل ساعات كافية ليتمكنوا من تدبر أمرهم. يشعر بعض العاملين من أصحاب المهام الإدارية بالسعادة لتقليص ساعات العمل حتى ولو أدى ذلك إلى خفض الرواتب، ولكن وفقًا لمركز أبحاث مؤسسة السوق الاجتماعية: «العاملين في مجال الرعاية والضيافة هم على النقيض من ذلك، وبينهم من يفضل العمل فترة أطول مما يفعل حاليًا».

ويرى بورشل في كامبريدج أن دراسة هذه الشركات ليست تجربة علمية، بل مسار لطريقة عمل بديلة. «غالبًا ما يتحدث الناس عن أسبوع الخمسة أيام وكأنه شيء مقدس، وهذا بعيد كل البعد عن الحقيقة … سيُثبَت خطأ بعض الحجج ضد أربعة أيام عمل في الأسبوع. وإذا كانت هناك إرادة للمضي في هذا الاتجاه، سيستطيع الناس أن يجعلوها تتحقق».

اقرأ أيضًا:

بدء تجربة أربعة أيام عمل في الأسبوع في بريطانيا، هل ستنجح؟

ما الفوائد النفسية للذهاب إلى مكتب العمل، التي لا يوفرها العمل عن بُعد؟

ترجمة: عمرو سيف

تدقيق: يوسف صلاح صابوني

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر