يوُصف الإنفجار العظيم عادةً بأنه انفجار أدى إلى ميلاد الكون، وهي لحظة متفردة وُجد فيها الفضاء والزمن والمادة، لكن ماذا إذا كانت هذه اللحظة ليست البداية؟ ماذا لو كان كوننا المعروف وُجد من شيء آخر مألوف أكثر بالنسبة لنا وهو أصل الكون في الوقت ذاته؟
في ورقة بحثية جديدة نُشرت في مجلة فيزيكال ريفيو، يقول إنريكي غازتاناغا إنه اقترح مع زملائه بديلًا مدهشًا، إذ ترجح حساباتهم أن الانفجار العظيم لم يكن بداية كل شيء في الكون، بل كانت البداية نتيجة تمدد للجاذبية أو انهيار شكّل ثقبًا أسود هائل الحجم مع ارتداد قابع داخله.
الفكرة الأساسية لما نسميه كون الثقب الأسود تقدم لنا نظرة جذرية مختلفة عن أصول الكون، وحتى الآن تستند بالكامل إلى الملاحظات والفيزياء التي نعرفها. يعتمد النموذج الكوني القياسي الحالي على مفهوم الانفجار العظيم والتضخم الكوني، إذ يفترض أن الكون في بداياته توسع توسعًا سريعًا، ونجح ذلك نجاحًا باهرًا في تفسير بنية الكون وتطوره، لكن هذا النجاح له ثمن، إذ ما زال يترك بعض المفاهيم الأساسية والأسئلة الكونية دون إجابة.
أولًا، بدأ الكون في نموذج الانفجار العظيم من نقطة التفرد، وهي نقطة ذات كثافة لا نهائية تنهار عندها قوانين الفيزياء. هذه ليست مشكلة تقنية فقط، لكنها فجوة نظرية عميقة ترجح أننا لا نفهم حقًا البداية على الإطلاق. لتفسير هيكل الكون واسع النطاق، قدّم الفيزيائيون مرحلة قصيرة من التمدد الكوني السريع في المراحل الأولية للكون المسماة التضخم الكوني، تدفعه طاقة غامضة بخصائص غريبة. فيما بعد، لشرح التمدد المتسارع الملحوظ للكون اليوم، أضاف العلماء سرًا آخر من أسرار الكون هو الطاقة المظلمة.
باختصار، يعمل النموذج القياسي للكون جيدًا، لكن مع تقديم مفاهيم جديدة لم نلحظها مباشرةً مسبقًا. بالتزامن مع هذا، تظل الأسئلة الأساسية دون إجابة: من أين بدأ كل شيء؟ ولماذا بدأ بهذه الطريقة؟ ولماذا يتميز الكون بشكل مسطح كبير وناعم ومتسع؟
النموذج الجديد:
عالج النموذج الجديد هذه التساؤلات من زاوية مختلفة، بالنظر داخليًا لا خارجيًا. فبدلًا من أن يبدأ النموذج باتساع الكون ثم ينظر إلى الوراء للإجابة عن سؤال كيف بدأ الكون، ندرس ما يحدث عندما تنهار الحالة شديدة الكثافة من المادة تحت تأثير الجاذبية. ذلك معروف لدينا، إذ تنهار النجوم داخل الثقوب السوداء، بل إنها ضمن أكثر الأشياء المفهومة في علم الفيزياء، لكن ما يحدث داخل الثقب الأسود بعد تجاوز أفق الحدث ما زال لغزًا غامضًا.
عام 1965 أثبت الفيزيائي البريطاني روچر بينروس أنه تحت ظروف عامة فإن انهيار الجاذبية يؤدي إلى التفرد، مثل ذلك المتسبب في نشوء الكون لكن على مقاييس كبيرة. وبهذه النتيجة التي طرحها عالم الفيزياء البريطاني ستيفن هوكينغ وعلماء آخرون تأكدت الفكرة القائلة إن التفردات لا يمكن تجنبها.
ساعدت هذه الفكرة روجر بنروز على الفوز بجائزة نوبل في الفيزياء عام 2020، وألهمت ستيفن هوكينج في كتابه الشهير عالميًا «تاريخ موجز للزمن: من الانفجار العظيم إلى الثقوب السوداء». لكن توجد ملاحظة مهمة، فهذه النظريات المتعلقة بالتفردات الكونية تعتمد على الفيزياء الكلاسيكية التي تصف الأجسام الكبيرة المألوفة لنا. أما إذا أدخلنا في الحساب تأثيرات ميكانيكا الكم، التي تحكم سلوك الجسيمات الذرية ودون الذرية، كما ينبغي في الكثافات الفائقة، فقد يتغير الأمر.
أوضحت الورقة البحثية الجديدة أن الانهيار الجاذبي لا يجب أن ينتهي عند التفرد الكوني، وتوصلوا إلى حل رياضي دقيق، نتيجة رياضية كاملة بلا تقريب، تُظهر أن حجم الكون مع اقترابه من التفرد الكوني يتغير وفق دالة زائدية مع الزمن الكوني.
هذا الحل البسيط يصف كيف يمكن لسحابة من المادة تنهار تحت الجاذبية أن تصل إلى حالة عالية الكثافة، ثم ترتد لتبدأ مرحلة توسع جديدة.
لكن لماذا منعت نظريات بنروز هذه النتيجة من قبل؟ السبب مبدأ فيزيائي يُسمى مبدأ الاستبعاد الكمي، الذي ينص على أنه لا يستطيع جسيمان متطابقان من نوع الفرميونات أن يشغلا الحالة الكمية ذاتها، مثل مقدار الحركة الزاوية أو الدوران الزاوي.
أظهر الباحثون أن هذا المبدأ يمنع الجسيمات في المادة المنهارة من الانضغاط إلى ما لا نهاية، ونتيجة لذلك يتوقف الانهيار ويتحول إلى ارتداد، وهذا الارتداد ليس فقط ممكنًا، بل حتمي إذا توافرت الظروف المناسبة.
الأهم أن هذا الارتداد يحدث بالكامل ضمن إطار النسبية العامة، التي تصف الكون على المقاييس الكبرى مثل النجوم والمجرات، مقترنةً بالمبادئ الأساسية لميكانيكا الكم، دون الحاجة إلى حقول غريبة، أو أبعاد إضافية، أو فيزياء نظرية تخمينية.
الكون الذي يظهر بعد هذا الارتداد يشبه كوننا على نحو ملحوظ. والأكثر إثارة للدهشة أن هذا الارتداد يولد بطبيعته مرحلتين من التوسع المتسارع، هما التضخم والطاقة المظلمة، مدفوعتين ليس بواسطة حقول افتراضية، بل نتيجة مباشرة لفيزياء الارتداد نفسها.
تنبؤات قابلة للاختبار:
إحدى نقاط القوة في هذا النموذج أنه يقدم توقعات يمكن اختبارها، فهو يتنبأ بوجود انحناء مكاني صغير لكنه غير معدوم، بمعنى أن الكون ليس مسطحًا تمامًا، بل منحنٍ قليلًا، مثل سطح الأرض.
وهذا الانحناء ما هو إلا أثر باقٍ من الكثافة الزائدة التي سببت الانهيار في البداية. وإذا أكدت الملاحظات المستقبلية مثل مهمة إقليدس الجارية وجود هذا الانحناء الإيجابي الصغير، فسيكون ذلك دليلًا قويًا على أن كوننا نشأ بالفعل نتيجة لهذا الارتداد، ويتنبأ النموذج أيضًا بمعدل تمدد الكون الحالي، وهو ما تُحقق منه بالفعل.
هذا النموذج لا يعالج فقط المشكلات التقنية في علم الكونيات التقليدي، بل يلقي ضوءًا جديدًا على ألغاز أخرى عميقة في فهمنا للكون المبكر، مثل أصل الثقوب السوداء الهائلة، وطبيعة المادة المظلمة، أو الطريقة التي تشكلت بها المجرات وتطورت عبر الزمن.
هذه الأسئلة سيُستكمل البحث فيها من خلال مهمات فضائية مستقبلية مثل أراكيس، التي ستدرس الظواهر الخافتة مثل الهالات النجمية، وهي بنية كروية من النجوم والعناقيد الكروية التي تحيط بالمجرات والمجرات التابعة، وهي المجرات الأصغر التي تدور حول المجرات الكبرى، التي يصعب رصدها بالتليسكوبات التقليدية من الأرض، وستساعد على فهم المادة المظلمة وتطور المجرات.
قد تكون هذه الظواهر مرتبطة أيضًا ببقايا الأجسام المضغوطة مثل الثقوب السوداء التي تشكلت في أثناء مرحلة الانهيار ونجت من الارتداد. يقدم تصور كون داخل ثقب أسود منظورًا جديدًا لمكاننا في الكون. ففي هذا الإطار، يقع كوننا المرصود بالكامل داخل ثقب أسود تشكل في كون أصلي أكبر.
نحن لسنا مميزين، تمامًا كما لم تكن الأرض مركز الكون في النموذج القديم الذي عارضه جاليليو. ما نشهده ليس ولادة كل شيء من العدم، بل استمرار لدورة كونية أزلية تحكمها الجاذبية وميكانيكا الكم والتشابك العميق بينهما.
اقرأ أيضًا:
رصد مجرات قديمة قد تغير فهمنا لنشأة الكون ونظرية الانفجار الكبير!
النور يسود رغم الظلام – نشأة الكون – الجزء الثالث
ترجمة: أحمد صبري عبد الحكيم
تدقيق: باسل حميدي