بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي تشارك الحواسيب اليوم في المحادثات المقنعة مع البشر (ChatGPT) وتأليف الأغاني ورسم اللوحات ولعب الشطرنج وتشخيص الأمراض، وهذه أمثلة قليلة جدًا على براعتها التكنولوجية.

قد تشير هذه النجاحات إلى أن الحساب ليس له حدود، ولمعرفة ما إذا كان الأمر كذلك، فمن المهم فهم ما الذي يجعل الحاسوب قويًا.

يوجد جانبان لقوة الحاسوب: عدد العمليات التي تستطيع أجهزته تنفيذها في الثانية، وفعالية الخوارزمية (مجموعة التعليمات) قيد التنفيذ. سرعة الأجهزة محدودة بقوانين الفيزياء، والخوارزميات يكتبها البشر و تُترجم إلى تسلسل من العمليات التي تستطيع أجهزة الحاسوب تنفيذها. فحتى لو تمكنت سرعة الحاسوب من الوصول إلى الحد الفيزيائي، تبقى العقبات الحسابية موجودة نظرًا لمحدودية الخوارزمية.

تتضمن هذه العقبات مسائل يستحيل حلها على الحواسيب، وأخرى قابلة للحل نظريًا ولكنها تتخطى قدرات أقوى الحواسيب عند الممارسة. يحاول علماء الرياضيات والحاسوب تحديد ما إذا كانت المسألة قابلة للحل عن طريق تجربتها على آلة خيالية.

آلة حوسبة خيالية

صاغ عالم الرياضيات البريطاني آلان تورينج الفكرة الحديثة للخوارزمية المعروفة باسم آلة تورينج عام 1936، وهي جهاز وهمي يقلّد كيفية تنفيذ المسائل الحسابية بقلم رصاص على الورق، وهي القالب الذي تعتمد عليه جميع أجهزة الكمبيوتر اليوم.

لاستيعاب الحسابات التي قد تحتاج المزيد من الورق إذا نُفذّت يدويًا، يكون مخزون الورق الخيالي في آلة تورينج غير محدود، وهذا يعادل شريطًا خياليًا غير محدود أو شريطًا من المربعات كل واحد منها إما فارغ أو يحتوي رمزًا واحدًا.

يعود التحكم في الآلة إلى مجموعة منتهية من القوانين التي تبدأ بتسلسل مبدئي من الرموز على الشريط. قد تكون العملية التي تنجزها الآلة الانتقال إلى تسلسل مجاور، أو محو رمز وكتابة آخر على مربع فارغ. وتجري الآلة الحسابات بتنفيذ تسلسل من هذه العمليات، وعندما تنتهي الآلة أو تتوقف فالرموز المتبقية على الشريط هي الخرج أو النتيجة.

تُعد الحوسبة غالبًا عبارة عن قرارات مع أجوبة بنعم أو لا، يتحقق الفحص الطبي (نوع المسألة) ما إذا كانت عينة المريض (نموذج على المسألة) تحتوي على مؤشر معين على المرض (نعم أو لا). هذا النموذج الممثل في آلة تورينج في شكل رقمي هو التسلسل المبدئي للرموز.

تُعد المسألة قابلة للحل إذا توقفت آلة تورينج عند كل نموذج (مثال)، سواء أكانت إيجابية أو سلبية، وتحدد أي إجابة ينتجها النموذج.

ليست كل مسألة قابلة للحل

كثيرة هي المسائل القابلة للحل بواسطة آلة تورينج، ومن الممكن بالنتيجة حلها بواسطة الحاسوب، بينما أخرى كثيرة لا حل لها بذات الطريقة. فمثلًا مسألة الدومينو (شكل مختلف لمسألة السطح القرميدي التي صاغها عالم الرياضيات الأمريكي الصيني هاو وانج عام 1961) غير قابلة للحل. وتتمثل المسألة باستخدام مجموعة من الدومينو لتغطية شبكة كاملة واتباع القوانين لمعظم ألعاب الدومينو ومطابقة عدد النقاط في نهايات الدومينو المجاورة. وقد اتضح أنه لا يوجد خوارزمية تستطيع أن تبدأ بمجموعة من أحجار الدومينو وتحدد ما إذا كانت المجموعة سوف تغطي الشبكة تمامًا أو لا.

إبقاء الأمور معقولة

عدد من المسائل القابلة للحل بالخوارزميات تتوقف بعد فترة زمنية معقولة. تُعد هذه الخوارزميات الزمنية متعددة الحدود فعالة، وهذا يعني أنه من العملي استخدام الحواسيب لحل حالات منها.

توجد آلاف المسائل الأخرى القابلة للحل ولا يُعرف لها خوارزميات زمنية متعددة الحدود، وذلك رغم كل الجهود المستمرة والكثيفة لإيجاد هذه الخوارزميات. ويشمل هذا مسألة البائع المتجول.

تتعلق مسألة البائع المتجول بالبيان (مجموعة من النقاط المتصلة مع بعضها)، والسؤال هو: هل يوجد طريق يبدأ من أي نقطة ويمر من كل النقاط الأخرى مرة واحدة ثم يعود للنقطة الأصلية؟ تخيل أن بائعًا يريد العثور على طريق يمر بجميع الأسر في الحي مرة واحدة بالضبط ويعود إلى نقطة الانطلاق.

تسمى هذه المسائل (NP-complete)، وقد صاغها وعرضها للعلن عالما الحاسوب (الكندي الأمريكي ستيفن كوك والأوكراني الأمريكي ليونيد ليفين) في أوائل السبعينيات، وقد نال كوك على جائزة تورينج عام 1982 عن هذا العمل، وهي أعلى جائزة في علوم الكمبيوتر.

تكلفة المعرفة بدقة

تبحث الخوارزميات الأكثر شهرة لمسائل NP-Complete عن حل من جميع الحلول الممكنة، فمسألة البائع المتجول في البيان المكون من مئات النقاط تستغرق سنينًا لحلها على حاسوب خارق، وهذه الخوارزميات غير فعالة، وهذا يعني عدم وجود طرق رياضية مختصرة.

الخوارزميات العملية التي تتناول هذه المسائل في العالم الحقيقي تستطيع أن توفر قيمًا تقريبية فقط، مع أن القيم التقريبية تتحسن. ومسألة وجود خوارزميات متعددة الحدود فعالة لحل هذه المسائل هي من بين المسائل المفتوحة السبع للألفية التي نشرها معهد كلاي للرياضيات في مطلع القرن الحادي والعشرين، ولكل منها جائزة قدرها مليون دولار.

ما بعد تورينج

هل يوجد شكل آخر للحساب بعيدًا عن آلة تورينج؟ في عام 1982 اقترح الفيزيائي الأمريكي ريتشارد فاينمان الحائز على جائزة نوبل فكرة الحساب اعتمادًا على ميكانيك الكم.

في عام 1995 قدم بيتر شور عالم الرياضيات التطبيقي الأمريكي خوارزمية كمومية لتحليل الأعداد الصحيحة في الزمن كثير الحدود. يرى الرياضيون أن هذا الأمر قابل للحل بالخوارزميات متعددة الحدود داخل إطار تورينج. وتحليل عدد صحيح يعني إيجاد الأعداد الصحيحة الأخرى (أصغر منه وأكبر من 1) التي تقسمه، فمثلًا العدد الصحيح 688,826,081 قابل للقسمة على عدد صحيح أصغر 25,253 والناتج هو 27,277.

تعتمد خوارزمية RSA (المستخدمة كثيرًا في جعل الاتصال بين الشبكات آمنًا) على صعوبة الحساب في تحليل الأعداد الصحيحة الكبيرة. تشير نتيجة شور إلى أن الحوسبة الكمومية، إذا أصبحت حقيقة ستغير مشهد الأمن السيبراني.

هل يمكن بناء كمبيوتر كمي كامل لتحليل الأعداد الصحيحة وحل المسائل الأخرى؟ يرى بعض العلماء أنه من الممكن إنجاز ذلك، وتعمل كوكبة من العلماء حول العالم على بنائه، وقد بنى البعض بالفعل حواسيب كمومية صغيرة الحجم.

ولكن كما حدث سابقًا عند اختراع جميع التقنيات الحديثة، من شبه المؤكد ظهور مشكلات تتعلق بالحساب الكمي التي ستفرض حدودًا جديدة.

اقرأ أيضًا:

استعمال خوارزميات كمية من أجل توقع أفضل لحركة الإلكترونات!

ما الّذي يجعل الذكاء الاصطناعي مختلفًا جدًا عن تعلُّم الآلة؟

ترجمة: ليلى الشومري

تدقيق: هزار التركاوي

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر