حتى وهي كرة مجوفة من الخلايا الجنينية، فإن أجنة الأسماك والثدييات ليست كليًّا دون دفاع. تبين أن النسيج الأولي -المتكون على سطح الكيسة الأريمية عند الفقاريات- يمتلك استجابة مناعية فطرية. أوضحت دراسة جديدة أن هذه الطبقة الواقية البسيطة -التي تُعرف بالظهارة أو النسيج الطلائي- يمكنها أن تمد نتوءات شبيهة بالأذرع، ثم ترصد الخلايا المعيبة وتلتهمها وتدمرها، وذلك قبل تكوّن الأعضاء أو الخلايا المناعية المتخصصة بوقت طويل.

تُعَد هذه العملية غير متوقعة الكفاءة -وقد لوحظت أولًا في الأسماك المخططة وتأكد وجودها لاحقًا في الفئران- أول علامة على الاستجابة المناعية في الفقاريات.

قد يساعد فهم طريقة عملها الباحثين على معرفة سبب عجز بعض الأجنة عن إكمال تكونها في تلك المراحل المبكرة، لذا، فإنه من المحتمل أن يقودهم إلى أساليب جديدة لعلاج العقم أو الإجهاض المبكر.

تقول عالمة البيولوجيا الخلوية فيرينا روبريخت من مركز التنظيم الجيني: «نقترح في هذه الدراسة وظيفة جديدة محفوظة تطوريًا للأنسجة الطلائية، آليةً فعالة للتخلص من الخلايا الميتة في المراحل البدائية من تكون الجنين في الفقاريات. قد ينتج عن عملنا تطبيقات طبية مهمة، إذ قد يؤدي إلى تطوير أساليب الفحص، وتحسين معايير تقييم صحة الجنين المتبعة في عيادات الخصوبة».

في أثناء التطور الجنيني للحيوانات، قد تنجم أخطاء خلوية عديدة خلال الانقسام الخلوي السريع، وقد تؤدي هذه الأخطاء إلى موت الجنين حال عدم معالجتها، في الواقع، قد تكون تلك الأخطاء السبب الرئيسي في عدم نجاة بعض الأجنة لتبلغ مرحلة الانغراس.

اشتبه العلماء منذ وقت طويل بوجود نوع من الاستجابة المناعية الفطرية يحمي الأجنة الناشئة الضعيفة من التهديدات المحيطة بها، مثل موت الخلايا غير المنتظم والالتهاب والعوامل المُعدية.

كشفت دراسة حديثة وجود استجابات مناعية فطرية مشابهة في الخلايا الجنينية الجذعية لكل من الفئران والبشر، لكن حتى الآن لم يلاحظ أحد عملها في المراحل المبكرة.

أولى علامات الاستجابة المناعية تظهر لدى الجنين في مراحل تكونه المبكرة - الاستجابة المناعية الفطرية - الكيسة الأريمية - الخلايا المعيبة

تفسر الدراسة الحالية للمرة الأولى آلية تصفية الكيسة الأريمية من التراكيب غير المرغوبة -مثل الخلايا الميتة- دون وجود جهاز مناعي متخصص.

شاهد الفيديو:

الكيسة الأريمية أشبه بكرة مجوفة، سمكها طبقة واحدة فقط من الخلايا، وهي أول مرحلة من التطور الجنيني، وتتضمن المرحلة التي تليها مزيدًا من الانقسام الخلوي حتى تنتج ثلاث طبقات جرثومية، ما يُعرف بالمُعيدَة.

في هاتين المرحلتين البدائيتين، وجد الباحثون أدلة على إزالة الخلايا التي بدأت بالموت الخلوي المبرمج.

باستخدام تقنيات تصوير رباعية البعد داخل الجسم الحي في أجنة الفئران والأسماك المخططة، أظهرت الدراسة نوعين من «الأذرع» الطلائية التي بدا أنها تلتهم هذه الخلايا المحتضرة وتدمرها.

سُمّي النتوء أو «الذراع» الأول: الكوب البلعمي، وهو يساعد على التقاط الخلايا المستهدفة وابتلاعها في عملية تُعرف بالبلعمة، ولا يختلف هذا التركيب عما نراه في الكائنات البالغة إذ تحمي البلعمة الطلائية الأعضاء والأنسجة من العدوى والالتهاب.

النتوء الثاني هو تركيب لم يوصف من قبل، وهو سريع الحركة، ويمكنه أن يدفع الخلايا الميتة المستهدفة ميكانيكيًّا ليجمعها في مواقع يمكن السيطرة عليها بسهولة.

يفسر عالم بيولوجيا النمو إستيبان هوجيمان الأمر بقوله: «تتعاون الخلايا معًا ميكانيكيًّا، مثل أفراد يجهزون مائدة الطعام قبل تناوله. تدفع الخلايا الطلائية الخلايا المعيبة نحو خلايا طلائية أخرى، ما يسرع إزالة الخلايا الميتة».

يُظهر التتبع ثلاثي البعد لهذه الخلايا المعيبة أنها تتراكم داخل النسيج الطلائي، ما يقترح أن هذه الطبقة الواقية تستبعد خلايا معينة خصوصًا قبل أن تبدأ في التهامها.

حتى في حالات حدوث موت غزير للخلايا، تمكنت أجنة الأسماك المخططة من النجاة، ما يؤكد أن هذا النوع من الاستجابة المناعية الفطرية عالي الكفاءة فعلًا.

في غضون ساعتين، وجد الباحثون أن النسيج الطلائي الجنيني استطاع التخلص من 68 جسيمًا محتضرًا.

وحتى عند تحفيز الموت الخلوي المبرمج باستخدام فوتونين ضوئيين، أظهر الجنين تصفية طلائية فعالة، ما يشير إلى مستوى عالٍ من الحساسية.

استنتج الباحثون: «إجمالًا، تطرح هذه الملاحظات التصفية الطلائية آليةً لتصحيح الأخطاء موجودة في مرحلة الأريمة من التطور الجنيني».

تُعد الأسماك المخططة كائنًا نموذجيًّا لدراسة التطور الجنيني، ولكن لتبين هل آلية «التنظيف الطلائي» هذه موجودة في الثدييات أيضًا أم لا، درس الباحثون أولًا هيئة الموت الخلوي المبرمج في الكيسات الأريمية للفئران.

بالاستعانة بتقنية التصوير المتباطئ، كشفت النتائج عدة أحداث لموت خلوي مبرمج أزيلت فيها الخلايا الميتة من التجويف الأريمي والتُهمت لاحقًا بواسطة الأرومة المغذية -وهي نسيج يوجد على السطح الخارجي للجنين الثديي يتطور لاحقًا ليكون جزءًا كبيرًا من المشيمة- ما يكشف وجود نوع من الاستجابة المناعية الفطرية.

عندما غُرست خلايا جذعية جنينية محتضرة في الكيسات الأريمية للفئران، لاحظ الباحثون خلايا الأرومة المغذية وهي تبتلع الخلايا المستهدفة.

وُثقت وظائف مماثلة في طبقة الأديم الطلائي المغذي عند البشر، ما يقترح أن خاصية البلعمة لدى النسيج الطلائي قد احتُفظت تطوريًا في الثدييات أيضًا، وأنها لا تقتصر على الأسماك.

إن فهم كيفية نجاة أجنة الثدييات من مرحلة الأريمة إلى مرحلة الانغراس في جدار الرحم لا يسمح فقط بتطوير علاجات للعقم، بل قد يعلمنا أيضًا عن الجهاز المناعي المبكر، الذي يمثل قوةً كامنة قد يكون في مقدورنا استغلالها في الأنسجة البالغة.

كتب المؤلفون: «يتضح أنه خلال التطور الجنيني المبكر في الفقاريات، تتخصص الخلايا الطلائية لتؤدي وظائف مناعية بلعمية في غياب كامل للخلايا المناعية، وفي مراحل النمو اللاحقة، تتمايز الخلايا البلعمية المتخصصة وتصبح قادرة على مشاركة مهامها البلعمية مع الخلايا الطلائية وخلايا اللحمة المتوسطة».

ستحدد البحوث المستقبلية هل العملية المناعية الفطرية ذاتها موجودة أيضًا في اللافقاريات أم لا.

اقرأ أيضًا:

التطور الجنيني – مراحل تطور الجنين خلال الحمل

تثبيط المناعة يمنع الولادة المبكرة

ترجمة: رحاب القاضي

تدقيق: أكرم محيي الدين

المصدر