في 23 مارس 1875، أوقفت السفينة البريطانية إتش إم إس تشالنجر رحلتها في قلب المحيط الهادي جنوب غربي جزر ماريانا لإجراء قياس روتيني للعمق. كما اعتاد طاقمها من العلماء والبحارة البريطانيين، أنزلوا حبلًا مثقلًا إلى أعماق الماء، متوقعين أن يلامس القاع كما في المرات السابقة. لكن هذه المرة، ظل الحبل يهبط بلا توقف، وكأن لا نهاية له.
وبعد أن وصل طوله إلى نحو 27 ألف قدم، أي ما يعادل خمسة أميال تقريبًا، ارتطم أخيرًا بالقاع، مسجلًا أول محاولة بشرية لبلوغ ما سيُعرف لاحقًا باسم خندق ماريانا.
كما كشفت البعثات اللاحقة، فإن خندق ماريانا يغوص في الواقع إلى عمق يتجاوز 36 ألف قدم، أو ما يعادل نحو سبعة أميال، تحت سطح البحر في أعمق نقطة فيه. وهذا أعمق من ارتفاع جبل إيفرست. تحت هذا العمق الهائل، يبلغ ضغط الماء أكثر من 1100 ضعف الضغط على السطح، أي ما يعادل وزن فيل أفريقي يقف على إبهام شخص.
لا يصل الضوء إلى تلك الأعماق، فيما تكاد درجة الحرارة تلامس التجمد. مع ذلك، تشير جيرنجر إلى أن قاع الخندق يكون أدفأ بقليل من طبقاته العليا بسبب الضغط الهائل الذي يزيد الطاقة الحركية لجزيئات الماء.
وصف الباحثون خندق ماريانا بأنه واحد من أكثر البيئات تطرفًا وتميزًا على كوكبنا. تشكل الخندق بفعل تصادم الصفائح التكتونية، إذ انزلقت صفيحة المحيط الهادي تحت صفيحة بحر الفلبين، ممتدًا على هيئة قوس لمسافة تزيد على 1500 ميل في غرب المحيط الهادي. وتوضح جيرنجر أن معظم الخنادق العميقة الأخرى في العالم تقع أيضًا في المحيط الهادي، ضمن ما يُعرف بـحلقة النار.
قبل بعثة تشالنجر، لم يكن أحد يعرف بوجود هذا الخندق.
السفينة التي غيرت مسار علم المحيطات:
كانت إتش إم إس تشالنجر سفينة حربية بريطانية جُهزت خصيصى عام 1872 بناءً على اقتراح من الجمعية الملكية البريطانية، التي دعت إلى تنظيم رحلة عالمية لدراسة أعماق المحيطات. أُزيلت معظم المدافع من السفينة لإفساح المجال لمختبرات وأماكن لتخزين العينات، في خطوة غير معتادة آنذاك، إذ وافقت البحرية البريطانية على أن تكون الأولوية للعلم.
يقول الجيولوجي دوج ماكدوجال، إن هذه الرحلة كانت غير مسبوقة: «عادةً ما يكون العلماء ضيوفًا على رحلات بحرية ذات أهداف عسكرية، أما هذه المرة، فقد كانت الرحلة من أجلهم». ويضيف أن بعض البحارة لم يكونوا راضين تمامًا عن فكرة خدمة العلماء.
انطلقت السفينة من إنجلترا في 11 ديسمبر 1872 وعلى متنها 250 بحارًا وستة علماء، ومرت بعدد من المحطات حول العالم: من البرتغال وجزر الكناري، مرورًا بالمحيط الأطلسي، فدورانًا حول رأس الرجاء الصالح، ثم إلى القارة القطبية الجنوبية، فأستراليا ونيوزيلندا والفلبين واليابان، وهاواي وأمريكا الجنوبية، قبل أن تعود إلى وطنها عام 1876 بعد أن قطعت نحو 70 ألف ميل بحري.
العلم والمخاطر في عرض البحر:
كل 200 ميل تقريبًا، كان العلماء يُقيمون محطة رصد لقياس العمق باستخدام حبل من القنب مثقل يُدار بواسطة بكرة. وكانوا يجمعون عينات من الرواسب والكائنات البحرية، ويقيسون درجات الحرارة والتيارات، ويأخذون عينات من المياه على أعماق مختلفة.
لم تخلُ المهمة من المخاطر، إذ انقطع الحبل في أول استخدام، وفُقدت معه الأجهزة. وفي الكاريبي، توفي بحار بعدما تسبب توتر الحبل في اقتلاع قطعة حديدية من السفينة فأصابته. كما توفي أحد العلماء لاحقًا بسبب عدوى.
بعض ممارسات العلماء آنذاك قد تُعد مثيرة للجدل بمعايير اليوم، إذ استخدموا الديناميت في بعض الأحيان لجمع الأسماك. ومع ذلك، نجح الفريق في جمع كم هائل من البيانات، ووضعوا الأساس لعلم المحيطات الحديث، وفقًا لماكدوجال، الذي يشبه الرحلة بـبرنامج أبولو في زمنه.
اللحظة التي غيرت كل شيء:
حين كانت تشالنجر تبحر نحو اليابان، أقام طاقمها محطة رصد على بُعد نحو 175 ميلًا جنوب غربي جزيرة غوام، أقصى جنوب جزر ماريانا. وخلافًا للعادة، قرر القبطان إطفاء المحركات والاعتماد على التيار لتوفير الفحم، لأن الرياح كانت ساكنة.
أنزل الحبل المثقل، ليسجل رقمًا غير مسبوق: 4475 قامة، نحو 27 ألف قدم. من بين نحو 500 قياس عمق أجراها الفريق حول العالم، كان هذا الرقم الأعمق على الإطلاق. يقول ماكدوجال: لقد اندهش العلماء بشدة، لم يكن هذا متوقعًا على الإطلاق. كرروا التجربة مرتين، وكانت النتائج نفسها، حتى إن ضغط الماء الهائل سحق موازين الحرارة.
أُطلق على الموقع اسم (Swire Deep) نسبة إلى الملازم الملاحي في البعثة، ولم يكن الفريق يعلم بعد أنهم فوق أعمق خندق على وجه الأرض.
بعثات لاحقة واستكشاف أعمق:
عام 1899، أجرت بعثة أمريكية قياسًا جديدًا بنفس المنطقة باستخدام حبل تجاوز طوله 31 ألف قدم. وفي خمسينيات القرن العشرين، استخدمت سفينة تشالنجر 2 جهاز مسبار صدى لتحديد العمق بدقة، مسجلة رقمًا بلغ 35,640 قدمًا.
أُطلق على تلك النقطة اسم عمق تشالنجر، وقد قيست لاحقًا باستخدام تقنيات مثل السونار أحادي الشعاع، والسونار الجانبي، وأجهزة استشعار الضغط. ومع تفاوت بسيط، أكدت جميع القياسات الحديثة أن عمقها يقارب 36 ألف قدم. وتشير جيرنجر إلى أن القاع طيني ويشهد انهيارات تحت مائية، ما يجعل عمقه عرضة للتغير بمرور الوقت.
ما الذي يعيش هناك؟
رغم هذه الظروف القاسية، فإن الحياة موجودة. يقول جيرنجر إن كائنات الأمفيبود القشرية -تشبه الروبيان- تعيش هناك بأعداد كبيرة، وتنجذب سريعًا إلى أي طُعم يُلقى في القاع. هناك أيضًا خيار البحر الشفاف، وكائنات دقيقة تُعرف بـالزينوفيوفورز، وهي وحيدات خلية قد يصل حجمها إلى قبضة اليد.
رُصدت أنواع من الأسماك في تلك الأعماق، أبرزها أسماك الحدالة والأنقليس، مع أنها لا تتجاوز عمق 27 ألف قدم. هذه الحدود القصوى لقدرتها على التكيف مع الضغط.
عام 1960، وصل الغواصان جاك بيكار ودون والش إلى قاع تشالنجر ديب، لكن نافذة بلاستيكية في غواصتهما تصدعت بسبب الضغط. عام 2012، كرر المخرج جيمس كاميرون التجربة بمفرده، تلاه مستكشفون آخرون منذ عام 2019، من بينهم ابن دون والش، ورائدة الفضاء كاثي سوليفان، والمغامر فيكتور فيسكوڤو.
بصمة الإنسان في أعماق لا نراها:
رغم العزلة الشديدة لتلك الأعماق، لم تسلم من آثار البشر. عُثر على كيس بلاستيكي في قاع خندق ماريانا، واكتُشفت كائنات أمفيبود تبتلع جزيئات البلاستيك الدقيقة. ويشير العلماء إلى أن مستويات الأوكسجين في المحيطات العميقة بدأت بالتراجع، في ظاهرة ترجع أساسًا لتغير المناخ.
تقول جيرنجر: «ما زال هناك الكثير مما لا نعرفه»، مضيفةً أن نظم خنادق المحيط تستحق الحماية قبل فوات الأوان.
اقرأ أيضًا:
العثور على مداخن غامضة في قاع البحر الميت
كيف جفّ البحر الأبيض المتوسط منذ ملايين السنين؟
ترجمة: أميمة الهلو
تدقيق: مؤمن محمد حلمي