حتى فترة قريبة لم يكن لموجات الجاذبية وجود إلّا في خيال ألبرت أينشتاين، فقبل رصدها كانت تموجات الزمكان موجودة فقط في النظرية النسبية العامة. أما الآن، فلدى الباحثين عدة طرائق لرصد هذه الموجات، وهم يبحثون عن المزيد. تقول عالم الفيزياء الفلكية كاران جاني من جامعة فاندربيلت في ناشفيل: «إن دراسة موجات الجاذبية تزدهر، وهذا الأمر مذهل، فلا يوجد مجال يمكنني التفكير فيه من فروع الفيزياء الأساسية شهد تقدمًا بهذه السرعة».

مثلما يأتي الضوء على شكل طيف، أو في مجموعة متنوعة من الأطوال الموجية، كذلك الحال لموجات الجاذبية، وتشير الأطوال الموجية المختلفة إلى أصول كونية مختلفة وتتطلب استخدام أنواعًا مختلفة من الكواشف.

مصدر موجات الجاذبية التي يبلغ طولها الموجي بضعة آلاف من الكيلومترات هو غالبًا اندماج أزواج من الثقوب السوداء تبلغ كتلتها 10 أضعاف كتلة الشمس تقريبًا، أو من اصطدام كتل كونية كثيفة تسمى النجوم النيوترونية. ومثالها ما اكتشفه مرصد LIGO في الولايات المتحدة بالشراكة مع Virgo في إيطاليا وKAGRA في اليابان، وتستطيع هذه الكواشف أيضًا رصد موجات الجاذبية من أنواع معينة من المستعرات العظمى (النجوم المنفجرة) ومن النجوم النيوترونية سريعة الدوران التي تسمى النجوم النابضة.

في المقابل، يُعتقد أن الموجات الضخمة التي تمتد سنوات ضوئية تنشأ عن أزواج من الثقوب السوداء الهائلة التي تبلغ كتلتها مليارات المرات لكتلة الشمس.

أعلن العلماء في يونيو 2023 عن أول دليل قوي لوجود هذا النوع من الموجات، وذلك بتحويل المجرة بأكملها إلى كاشف ومراقبة طريقة تأثير الموجات في توقيت الومضات المنتظمة الصادرة عن النجوم النابضة المنتشرة في جميع أنحاء مجرة درب التبانة.

بوجود الموجات وما يعادل موجات صغيرة وأخرى بمثابة تسونامي في متناول العلماء، يأمل الباحثون الانغماس في محيط كوني واسع من موجات الجاذبية من جميع الأحجام، وتستطيع هذه الموجات أن تكشف تفاصيل جديدة عن أسرار بعض الأجسام الغريبة مثل الثقوب السوداء والجوانب غير المعروفة للكون.

يقول الفيزيائي جيسون هوجان من جامعة ستانفورد: «ما يزال هناك الكثير من الثغرات في تغطيتنا لطيف موجات الجاذبية … من المنطقي تغطية المبادئ الأساسية، من يدري ماذا يمكن أن نجد؟».

إن رحلة السعي للوصول إلى فهم شامل لموجات الجاذبية في الكون قد تأخذ الباحثين إلى الفضاء العميق أو القمر، أو حتى على المستوى الذري وربما أماكن أخرى. وفيما يلي عينة من بعض الحدود التي يتطلع العلماء لعبورها بحثًا عن أنواع جديدة من موجات الجاذبية.

الذهاب إلى الفضاء العميق

يبدو مستشعر التداخل الليزري الفضائي (LISA) أداة خيالية يصعب تصديق وجودها في البداية، سترسل ثلاث مركبات فضائية (مرتبة على شكل مثلث يبلغ طول أضلاعه 2.5 مليون كيلومتر) أشعة الليزر لبعضها في أثناء دورانها حول الشمس، لكنه ليس خيالًا محضًا، بل هو مهمة من وكالة الفضاء الأوروبية المخطط لها في منتصف العقد القادم، ويعلق عليها الكثير من العلماء آمالًا كبيرة لاقتحام عوالم جديدة من موجات الجاذبية.

يقول الفيزيائي النظري دييغو بلاس تيمينيو من جامعة برشلونة المستقلة ومعهد الفيزياء للطاقة البديلة: «إن LISA تعد تجربة مذهلة».

ومع مرور موجة الجاذبية، سيكتشف LISA تمدد جوانب المثلث وانضغاطها، بناءً على كيفية تداخل أشعة الليزر مع بعضها عند زوايا المثلث، انطلقت تجربة لدراسة فاعلية هذا المبدأ باستخدام مركبة فضائية واحدة (LISA Pathfinder) عام 2015 وأكدت فاعلية هذه التقنية.

لالتقاط موجات جاذبية ذات أطوال موجية كبيرة عمومًا، نحتاج إلى كاشف أكبر، وسيسمح LISA للعلماء برؤية أطوال موجية تقدّر بملايين الكيلومترات، وهذا يعني أن LISA يستطيع رصد ثقوب سوداء عملاقة ولكن باعتدال، أي أن كتلتها تعادل ملايين المرات من كتلة الشمس لكن ليس المليارات.

الذهاب إلى القمر

يتطلع العلماء إلى القمر للحصول على الإلهام، وذلك مع برنامج أرتميس التابع لناسا الذي يهدف للعودة إلى القمر، تقترح تجربة مستشعر التداخل الليزري أو LILA، وضع كاشف لموجات الجاذبية على القمر.

مع غياب النشاط البشري المُشتِّت يكون رصد موجات الجاذبية أسهل بكثير على القمر، يقول جاني: «المكان هناك هادئ جدًا، ويعد القمر أفضل مكان في مجموعتنا الشمسية للاستماع إلى أصوات الكون».

مثل LISA، يتكون LILA من ثلاث محطات لإطلاق أشعة الليزر على شكل مثلث، لكن طول جوانب هذه المحطة يبلغ حوالي 10 كيلومترات فقط، فيستطيع التقاط أطوال موجية يبلغ طولها عشرات أو مئات الآلاف من الكيلومترات، وهذا من شأنه أن يساعد على سدّ الفجوة بين الأطوال الموجية التي قيست بواسطة LISA ومرصد LIGO الموجود على الأرض.

نظرًا لأن الأجسام الدوارة مثل الثقوب السوداء تتسارع كلما اقتربت من الاندماج، فإنها تطلق موجات جاذبية ذات أطوال موجية يقل طولها تدريجيًا مع مرور الوقت، وهذا يعني أن LILA يستطيع مراقبة الثقوب السوداء وهي تقترب من بعضها خلال الأسابيع التي تسبق الاندماج، ما يمنح العلماء تنبيهًا بأن الاصطدام على وشك الحدوث، وما إن تصبح الأطوال الموجية قصيرة كفاية، ستلتقط المراصد الأرضية مثل LIGO الإشارة، وتلتقط لحظة الاصطدام.

يوجد خيار مختلف يعتمد على القمر وهو استخدام الليزر القمري، وهي تقنية يقيس العلماء من خلالها المسافة من الأرض إلى القمر باستخدام أشعة الليزر، وذلك بفضل العواكس المثبتة على سطح القمر في أثناء عمليات الهبوط السابقة على سطح القمر.

بوسع هذه الطريقة اكتشاف الموجات التي تتصادم بين الأرض والقمر، مع وجود أطوال موجية بين تلك التي شوهدت من خلال طرق توقيت النجوم النابضة وLISA. لكن هذه التقنية تتطلب عاكسات محسنة على القمر، وهذا سبب إضافي للعودة إلى القمر.

الانتقال إلى المستوى الذري

تقيس مراصد LISA وLIGO وغيرها من المراصد الليزرية تمدد موجات الجاذبية وانضغاطها من خلال مراقبة كيفية تداخل أشعة الليزر بعد مرور أمواج الجاذبية عبر الأذرع الطويلة للكاشف، لكن هذه التقنية الجديدة تقترح استخدام نهج مختلف كليًا.

فبدلًا من البحث عن تغييرات صغيرة في أطوال أذرع الكاشف في أثناء مرور موجات الجاذبية بها، تركز التقنية الجديدة على مراقبة المسافة بين سحابتين من الذرات، إن الخصائص الكمومية للذرات تعني أنها تتصرف مثل الموجات التي قد تتداخل مع نفسها. فإذا مرت موجة جاذبية، فإنها تغير المسافة بين السحب الذرية، وبوسع العلماء استنتاج هذا التغير في المسافة بناءً على هذا التداخل الكمي.

ويقول هوجان: «قد تكشف هذه التقنية عن موجات الجاذبية ذات أطوال موجية تقع بين تلك التي نستطيع اكتشافها بواسطة مرصدي LIGO وLISA، إنه جزء من مشروع جديد يهدف لبناء نموذج أولي للكاشف، يسمى MAGIS-100، في فيرميلاب في باتافيا».

لم يستخدام التداخل الذري لقياس موجات الجاذبية مطلقًا، رغم قدرتها على استشعار جاذبية الأرض واختبار قواعد الفيزياء الأساسية، يقول بلاس تيمينو إن «الفكرة مستقبلية تمامًا».

العودة إلى الماضي

يهدف مشروع آخر إلى رصد موجات الجاذبية منذ اللحظات الأولى للكون، قد تنتج مثل هذه الموجات في أثناء عملية التضخم (أي في اللحظات التي تلت الانفجار العظيم مباشرةً عندما تضخم حجم الكون) ستكون أطوال هذه الموجات الأكبر على الإطلاق، تصل إلى (1e+21) كيلومترًا، أو سيكستيليون (ألف مليون مليون مليون) كيلومتر.

لكن هذا المشروع واجه بداية فاشلة عام 2014، عندما أعلن العلماء في تجربة BICEP2 عن اكتشاف موجات جاذبية مطبوعة على شكل أنماط دوامية على أقدم ضوء في الكون، وهو الخلفية الكونية الميكروية، أو CMB، وقد نُقِضَ هذا الادعاء في وقت لاحق.

سيواصل مشروع يسمى CMB-Stage 4 البحث، مع خطط لإنشاء عدة تلسكوبات جديدة لمسح أقدم ضوء في الكون بحثًا عن إشارات تدل على أي موجات، نأمل هذه المرة أن تكون من دون أي أخطاء.

الغوص في المجهول

بالنسبة لمعظم أنواع موجات الجاذبية التي حاول العلماء رصدها، فإنهم يعرفون القليل عمّا يمكن توقعه، فالأجسام المعروفة (مثل الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية) تخلق تلك الموجات، لكن القصة مختلفة تمامًا بالنسبة لموجات الجاذبية ذات الأطوال الموجية القليلة التي تصل سنتيمترات فقط.

كما تقول عالمة الفيزياء النظرية فاليري دومكي من المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (CERN) بالقرب من جنيف: «ليس لدينا مصدر معروف قادر على إصدار موجات جاذبية (ذات طول موجي قليل لهذه الدرجة) بسرعة كبيرة كافية لرصدها بشكل واقعي».

لكن الفيزيائيين يريدون التحقق إن كانت الموجات الصغيرة موجودة، قد تنتج هذه التموجات عن أحداث عنيفة وقعت في وقت مبكر من تاريخ الكون، مثل التحولات التطورية، التي يتحول فيها الكون من حالة إلى أخرى، على غرار تكثيف الماء من البخار إلى سائل. الاحتمال الآخر هو وجود ثقوب سوداء بدائية صغيرة (أصغر من أن تكون قد تشكلت بالطرق المعروفة) التي ربما تكون قد ولدت في الكون المبكر، يقول دومكي: «إن الفيزياء في هذه الأنظمة غير مفهومة جيدًا، فحتى البحث عن موجات الجاذبية وعدم العثور عليها يخبرنا بشيء ما».

إن موجات الجاذبية هذه غامضة جدًا لدرجة أن تقنيات اكتشافها مجهولة أيضًا، لكن الأطوال الموجية صغيرة بما يكفي لرؤيتها عبر تجارب مختبرية عالية الدقة، بدلًا من أجهزة الكشف الضخمة.

وقد يكون العلماء قادرين على إعادة استخدام البيانات من التجارب المصممة مع وضع أهداف أخرى في الاعتبار. عندما تواجه موجات الجاذبية مجالات كهرومغناطيسية، قد تتصرف التموجات بطرق مشابهة للجسيمات دون الذرية الافتراضية التي تسمى الأكسونات، لذا فإن تجارب البحث عن تلك الجسيمات قد تكشف أيضًا عن موجات جاذبية صغيرة.

رؤية جديدة

إن رصد موجات الجاذبية عملية صعبة، ولكنها تستحق العناء، يقول هوجان: «من الصعب حقًا اكتشاف موجات الجاذبية».

لقد استغرق الأمر عقودًا من العمل قبل أن يتمكن مرصد LIGO من رصد الأمواج الأولى، وينطبق الشيء نفسه على تقنية توقيت النجم النابض، لكن علماء الفلك بدأوا على الفور في جني الثمار، يقول هوجان: «إنها رؤية جديدة تمامًا للكون».

بالفعل، ساعدت موجات الجاذبية في تأكيد نظرية النسبية العامة لأينشتاين، واكتشاف فئة جديدة من الثقوب السوداء ذات الكتل المتوسطة الحجم، وكشف النقاب عن الألعاب النارية التي تحدث عندما اصطدام جسمين فائقي الكثافة يطلق عليهما النجوم النيوترونية.

وما نزال في بداية الطريق في رحلة اكتشاف موجات الجاذبية، لا يمكن للعلماء تخمين ما ستكشفه أجهزة الرصد المستقبلية، يقول هوجان: «هناك المزيد من الطرق لاكتشافها، لا بد أن يكون الأمر مثيرًا للاهتمام».

اقرأ أيضًا:

ما هي موجات الجاذبية؟

ستة أسئلة تجيبنا عليها موجات الجاذبية

ترجمة: يوسف الشيخ

تدقيق: غفران التميمي

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر