تصوّر قصة شركة إينرون شركةً وصلت حدود العُلا ثم واجهت سقوطًا مدويًا. أثّر هذا السقوط في آلاف الموظفين وهزّ سوق وول ستريت في الصميم. وصل سعر سهم الشركة في ذروة نجاحها إلى 90.75 دولار، ليهوي إلى 0.26 دولار قبل إعلان إفلاسها في الثاني من ديسمبر عام 2001.

يتساءل الكثيرون حتى يومنا هذا حول كيفية تفكك شركة قوية، كانت في زمنها من أقوى الشركات في الولايات المتحدة، خلال فترة قصيرة. يصعب تصور كيف خدعت إدارة الشركة السلطات وقتًا طويلًا باستخدام شركات وهمية ودفاتر حسابات غير نظامية.

أصل شركة إينرون للطاقة:

تأسست شركة إينرون عام 1985 عقب اندماج شركتي هيوسن للغاز الطبيعي وإنترنورث في أوماها. بعد الاندماج، أصبح كينيث لاي الذي كان المدير التنفيذي لشركة هيوسن للغاز الطبيعي، مديرًا تنفيذيًا ورئيسًا لمجلس إدارة إينرون. سرعان ما تحوّل لاي إينرون إلى مورّد وتاجر للطاقة. اتخذ ما يلزم للاستفادة من رفع القيود التشريعية عن مجال الطاقة، ما أتاح بدوره إمكانية وضع الشركات رهانات على أسعار الطاقة المستقبلية.

عام 1990، أسّس لاي شركة إينرون للتمويل، وعيّن جيفري سكلنغ مديرًا لها بعدما أُعجِب لاي بعمله في أثناء شَغله منصب مستشار لدى شركة ماكنزي وشركاه، حيث كان سكلنغ أحد أصغر الشركاء سنًّا. التحق سكلنغ بإينرون في وقت تميّز بأقل سقف من القيود البيئية، ما سمح لإينرون بالازدهار.

شهدت نهاية عقد التسعينات بروز الإنترنت وسيلةً للتداول. سجل مؤشر ناسداك في ذاك الوقت 5000 عملية تداول، وجرى تقييم أسهم الإنترنت الثورية بمستوياتٍ غير معقولة. أدى ذلك إلى تقبّل المستثمرين والمشرّعين هذا الارتفاع الصارخ في أسعار الأسهم أنه الوضع الطبيعي الجديد.

التقييم حسب سعر السوق

إحدى المساهمات الأولى لسكلنغ كانت التحول من طريقة المحاسبة التقليدية المعتمدة على معيار التكلفة التاريخية، إلى معيار القيمة السوقية (MTM). حصلت إينرون على موافقة هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية على هذا التحول عام 1992.

يُقصَد بمعيار القيمة السوقية قياس القيمة العادلة للحسابات المُتغيرة بمرور الوقت، كحسابات الأصول والالتزامات. يهدف هذا المعيار إلى تقديم تقييم واقعي للوضع المالي لمؤسسة أو شركة ما، وهو معيار قانوني ومستخدم على نطاق واسع. لكن يمكن التلاعب بهذا المعيار الذي لا يستند إلى التكلفة الفعلية، بل إلى القيمة العادلة التي يصعب تحديدها. يرى البعض أن استخدام هذا المعيار كان بداية النهاية لإينرون، لسماحه للشركة بتسجيل الأرباح التقديرية بوصفها أرباحًا فعلية.

الإشادة بابتكار إينرون

في أكتوبر 1999، أنشأت إينرون موقع إينرون أونلاين الإلكتروني المتخصص في تجارة السلع. كانت إينرون الطرف المقابل لكل عملية فيه بوصفها بائعًا أو مشتريًا. وظّفت إينرون خبرتها وسمعتها والثقة التي تتمتع بها في مجال الطاقة لإغراء المساهمين والشركاء التجاريين. حازت إينرون على الثناء لتوسع أعمالها ومشاريعها الطموحة، وأسمتها مجلة فورتشن «الشركة الأمريكية الأكثر ابتكارًا»، في الفترة 1996 – 2001.

دور شركة بلوك بستر

كانت شركة بلوك بستر، عملاق متاجر التجزئة المتخصصة في استئجار الفيديو، أحد اللاعبين غير الواعين في فضيحة إينرون. في يونيو عام 2000، أسست شركة إينرون برودباند سيرفيسز مع بلوك بستر شراكة هدفها دخول سوق توفير الفيديو عند الطلب المزدهرة حينها. كان اختيار هذه السوق منطقيًا، إلا إن إينرون بدأت بتسجيل الإيرادات انطلاقًا من النمو المتوقع لهذه السوق، ما أدى إلى تضخيم الأرقام.

وصل حجم المعاملات التجارية على موقع إينرون أونلاين إلى 350 مليار دولار منتصف عام 2000. عندما أوشك وهج الإنترنت على التلاشي، قررت إينرون بناء شبكات اتصالات بسرعات عالية ونطاق تردد واسع. أُنفقت مئات ملايين الدولارات على هذا المشروع، إلا إنها لم تحقق منه أي عائد تقريبًا.

عندما حل الكساد عام 2000، كانت إينرون معرضة للخطر الشديد في عدة أجزاء متقلبة من السوق. نتيجةً لذلك، وجد العديد من الدائنين والمستثمرين الواثقين أنفسهم يقتربون من خسارة قيمة رأس المال السوقية.

سقوط مدلّلة وول ستريت

بدأت إينرون بالانهيار بحلول خريف عام 2000. أخفى سكلنغ خسائر الأعمال التجارية والعمليات الأخرى المختلفة للشركة مستخدمًا معيار القيمة السوقية للمحاسبة، الذي يقيس قيمة ورقة مالية على أساس قيمتها السوقية الحالية بدلاً من قيمتها الدفترية. هذا المعيار يفي بالغرض عند تبادل الأوراق المالية، إلا إنه يشكل كارثة للأنشطة التجارية الفعلية.

في حالة شركة إينرون، كانت الشركة تخلق أصولًا -على سبيل المثال بناء محطة طاقة- ثم تُسجل الأرباح المتوقعة منها في دفاترها التجارية، وإن لم تحقق الشركة إيراداً يُذكر من هذا الأصل. لا تعترف الشركة بالخسائر حال كانت الإيرادات الفعلية أقل من المتوقعة، بل تنقل هذا الأصل إلى شركة غير مسجلة في سجلات الشركة، وبهذا لا تُسجل الخسارة. تمكنت إينرون بهذه الطريقة من شطب الأصول غير المربحة دون التأثير في الإيراد الصافي للشركة.

أدى تطبيق معيار القيمة السوقية إلى أنظمة مصممة لإخفاء الخسائر وإظهار الشركة أكثر ربحية مما هي عليه في الواقع. عام 1998، سعيًا لتجاوز عقبة الالتزامات المتراكمة، طوّر آندرو فاستو، الذي رُقي إلى منصب مدير مالي، خطة مدروسةً لإظهار الشركة بوضعٍ مالي سليم رغم خسارة العديد من فروعها للمال.

كيف أخفت إينرون ديونها

صمّم فاستو وآخرون في شركة إينرون نظامًا يستخدم شركات بوصفها غير تابعة لسجلات الشركة أو ما يُعرف بشركات ذات غرض خاص، مهمتها إخفاء ديون إينرون الضخمة وأصولها متردية القيمة عن أعين المستثمرين والدائنين. هدفها الأساسي كان إخفاء الحقائق المحاسبية ونتائج نشاط الشركة.

تمّت العمليات بين إينرون وتلك الشركات على النحو التالي:

تنقل إينرون بعضًا من أسهمها الصاعدة بسرعة إلى تلك الشركات بمقابل نقدي أو بسند مالي، ثم تستخدم تلك الشركات الأسهم للاستثمار في أصل من الأصول المدرجة في ميزانية إينرون. في المقابل، تضمن إينرون قيمة تلك الشركات لتقليل الخطورة المقابلة الظاهرة.

مع أن الهدف من هذه الشركات كان إخفاء الحقائق المحاسبية، فإنها كانت قانونية. لكنها كانت مختلفة من عدة نواح عن الشركات الاعتيادية التي تهدف لتأمين الديون، هذه الاختلافات كانت ترقى لمستوى اختلافات مُدمِّرة. أحدها كون رأس مال هذه الشركات قائمًا على أسهم إينرون بالكامل، ما يؤدي إلى تهديد قدرة هذه الشركات على الاستثمار حال انخفض سعر سهم إينرون. الخطر الثاني هو عدم التصريح عن تضارب المصالح. رغم تصريح إينرون عن وجود هذه الشركات للمستثمرين -القليل منهم فهم كيفية عملها- لم تصرح إينرون عن التعاملات المتحيزة بينها وبين هذه الشركات.

اعتقدت إدارة إينرون أن سعر السهم سيواصل الارتفاع، وهو اعتقاد مشابه لما اعتقدته إدارة شركة الاستثمارات لونغ تيرم كابيتال، قبل انهيارها عام 1998. انهار سهم إينرون في نهاية المطاف وانهارت تلك الشركات تباعًا.

شركة آرثر أندرسون وإينرون

كانت شركة المحاسبة المعروفة بآرثر أندرسون الشريك الذي راقب حسابات إينرون، ديفيد بي دنكان، من اللاعبين الكبار في فضيحة إينرون. اشتهرت آرثر أندرسون بمعاييرها العالية وجودة إدارة المخاطر بوصفها واحدة من شركات المحاسبة الخمس الأضخم في الولايات المتحدة. مع ذلك، فقد صدقت على تقارير الحسابات المالية لإينرون لسنوات، رغم ممارسات إينرون المحاسبية الضعيفة. بحلول أبريل 2001، بدأ العديد من المحللين التشكيك في عائدات إينرون وشفافيتها.

انتشار الصدمة في وول ستريت

بحلول صيف 2001، كانت إينرون تمر بحالة سقوط متسارع. تقاعد لاي في فبراير، ليخلفه سكلنغ في المنصب مديرًا تنفيذيًا، حتى استقال في أغسطس 2001 لأسباب شخصية كما قال. في الوقت ذاته، بدأ المحللون بتخفيض تصنيف سهم إينرون ليصل في الأسبوع 52 إلى 39.95 دولار للسهم الواحد. بحلول 16 أكتوبر، أفصحت الشركة عن أول خسارة ربعية لها وأغلقت شركاتها الوهمية، ما أثار انتباه هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية.

غيّرت إينرون بعد عدة أيام مسؤولي برنامج المعاشات، ما منع الموظفين بيع أسهمهم مدة لا تقل عن ثلاثين يومًا. بعدها بفترة قصيرة أعلنت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية عن إجرائها تحقيقات حول شركة إينرون والشركات التي أنشأها فاستو، الذي طُرد من الشركة في اليوم ذاته. أيضًا أعادت الشركة التصريح عن عائدات تعود لسنة 1997.

تكبدت إينرون خسائر بقيمة 591 مليون دولار، وراكمت ديونًا بقيمة 690 مليون دولار بنهاية عام 2000. جاءت الضربة الأخيرة عند إعلان شركة دينرجي التي كانت قد أعلنت سابقًا نيتها للاندماج مع إينرون، عن انسحابها من الصفقة في 28 نوفمبر. وبحلول 2 ديسمبر 2001، قدمت إينرون طلبًا لإشهار الإفلاس.

الإفلاس

فور إقرار محكمة الإفلاس الأميركية خطة إعادة تنظيم إينرون، أعلن مجلس إدارة الشركة عن تغيير اسمها إلى شركة إينرون لاسترداد الدائنين (ECRC). كانت المهمة الوحيدة والجديدة للشركة إعادة تنظيم وتصفية عمليات وأصول محددة ترجع لما قبل إعلان الإفلاس، لمصلحة الدائنين. دفعت الشركة لدائنيها ما يزيد على 21.7 مليار دولار في الفترة 2004 – 2011. كانت الدفعة الأخيرة في مايو 2011.

التُهم الجنائية

كانت شركة آرثر أندرسون أول ضحايا السقوط السيء لشركة إينرون. فقد أُدينت أندرسون في يونيو 2002 بجريمة عرقلة العدالة، للتستر على حسابات إينرون المالية وحجبها عن هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية. نُقضت هذه الإدانة لاحقًا في مرحلة الاستئناف، مع ذلك، تلطخت سمعة الشركة بشدة نتيجةً للفضيحة وتراجعت لتصبح شركة قابضة. اشترى عدة شركاء سابقين اسمها في 2014 لإنشاء شركة أندرسون غلوبال.

وُجهت إلى الموظفين التنفيذيين لإينرون تهم التواطؤ والاتجار بالمعلومات الداخلية والاحتيال في السندات المالية. وأُدين لاي -المؤسس والرئيس التنفيذي السابق لإينرون- بست تهم احتيال وتواطؤ وأربع تهم احتيال مصرفي. توفي في كولورادو بسكتة قلبية قبيل الحكم.

أقرّ فاستو، المدير المالي السابق بالذنب في تهمتي الاحتيال المصرفي والاحتيال في السندات المالية لأغراض تسهيل أنشطة إينرون التجارية غير القانونية. في نهاية المطاف، أبرم اتفاقًا مع السلطات الفدرالية للتعاون في القضية، وقضى أكثر من خمس سنوات في السجن، حتى أُطلق سراحه عام 2011.

من بين المتورطين في فضيحة إينرون، تلقى سكلنغ أشد الأحكام. إذ أُدين عام 2006 بجرائم التواطؤ والاحتيال والاتجار بالمعلومات الداخلية. حُكم عليه بالسجن 17 سنة. خُفّض الحكم إلى 14 سنة عام 2013، مقابل دفعه 42 مليون دولار لضحايا أعمال الاحتيال، وتوقفه عن الطعن على الحكم الصادر ضده. أُطلِق سراحه في 22 فبراير 2019.

اقرأ أيضًا:

لماذا تصل الشركات إلى إغلاق الأعمال

كل ما تود معرفته عن المؤسسات المالية غير البنكية

ترجمة: علي حميد

تدقيق: سماح عبد اللطيف

المصدر