لسنا النوع الوحيد الذي طور اضطرابات النطق، إذ تكشف دراسة جديدة ظاهرة التلعثم في بعض أنواع الطيور. وُضعت العشرات من طيور الحمار الوحشي الصغيرة تحت الملاحظة في مختبر إريك جارفيس في المركز الطبي بجامعة ديوك في دورهام. يشتهر ذلك النوع من العصافير بصخب أغانيه وتعقيدها، لكن تلك المجموعة لم تستطع الغناء كما ينبغي، إذ ظلوا عالقين على نغمة واحدة بسبب التلعثم. بوسع تلك العصافير الاستثنائية مساعدتنا على فهم كيفية إصدار العصافير المغردة أغانيها المعقدة والمذهلة، وكيفية تطوير قدرتها على الغناء. ما يساعد على إلقاء الضوء على تطور اللغة البشرية.

ربما يبدو تغريد العصافير العذب بعيدًا كل البعد عن تعقيدات الكلام البشري. بطريقة ما يُعد ذلك صحيحًا، فالفارق بيننا وبين الطيور أكثر من 300 عام من التطور. مع هذا، بوسع أصدقائنا الطيور تعليمنا أمرًا أو اثنين عن أنفسنا.

جادل أرسطو قبل أكثر من 2000 سنة بأن تغريد العصافير ربما يكون نموذجًا مفيدًا لدراسة اللغة البشرية، إذ إن تغريد العصافير واللغة البشرية مكتسبتان من الاستماع إلى الآخرين وتقليدهم.

كتب أرسطو عن طبائع الحيوان: «تصدر العصافير عمومًا أغلب أغانيها وأكثرها تنوعًا عندما تنشغل بالتزاوج. بملاحظة أم طائر العندليب في أثناء إعطائها دروسًا غنائية لصغيرها، نستنتج أن الأغنية كانت قابلة للتعديل والتحسين».

في نهاية القرن التاسع عشر أدى المزج بين نظرية التطور والعقيدة الدينية إلى اعتقاد العلماء أن الحيوانات محدودة القدرة العقلية. لكن الأبحاث الحديثة تشير إلى أن أرسطو على الأرجح كان محقًا.

تتضمن كل لغة بشرية مجموعة محدودة من الكلمات يمكن دمجها للتعبير عن عدد لا نهائي من المعاني، وتتضمن كل لغة مجموعة من القواعد يمكن بناءً عليها دمج الكلمات لتعطي جملًا ذات معنى. كنا نظن أن نوعنا ينفرد بتلك القواعد، البنية التركيبية للجملة، إلا إن عصفور القرقف الياباني يستخدم بناء الجملة لدمج النغمات في مخزونه الصوتي بطرق مختلفة لصياغة معانٍ مختلفة وفقًا لدراسة نُشرت في مارس 2016.

لكن أحيانًا يخفق ذلك النظام الدقيق عند البشر، ما يسبب عوائق كالتلعثم. من يتلعثم يكرر المقاطع لا إراديًا ويطيل أصواتًا معينة في الكلمات، وغالبًا ما يتردد ويتوقف في أثناء الحوار. ويكون أكثر شيوعًا لدى الأطفال بعمر 3-6 سنوات في مرحلة تعلمهم التحدث. تقول عالمة الأعصاب صوفي سكوت: «يتعافى غالبية الأطفال المتلعثمين في النهاية، وتقريبًا 80% منهم يتحدث بطلاقة عندما يكبر، في حين يعاني الباقون تلك المشكلة مدى الحياة».

في دراسة نُشرت عام 2014، استخدم جارفيس وزملاؤه تيارات كهربائية وسمومًا عصبية لتدمير خلايا عصبية منتقاة من منطقة واحدة من أدمغة عصافير الحمار الوحشي، تعرف باسم المنطقة X نظيرة ما يعرف باسم الجسم المخطط في الدماغ البشري، الذي ينشط عند تقليد الناس حديث الآخرين.

أثر التلف في دماغ العصافير في سرعة إيقاع أغانيها وتسلسل المقاطع بداخلها، في كثير من الأحيان كررت العصافير المقاطع، وبعد نحو شهر من إلحاق الضرر بها بدأت بإصدار أصوات شبيهة بالتلعثم. قال جارفيس: «عندما تفعل ذلك بصغار الحيوانات فهي تفقد قدرتها على التقليد خلال مرحلة التعليم الصوتي بالغة الأهمية، لكن عندما يحدث ذلك للعصافير البالغة فهي لا تتلعثم فحسب، بل تفقد كذلك قدرتها على تعلم أغانٍ جديدة». لم يكتشف جارفيس أوجه التشابه بين تلعثم البشر والعصافير فحسب، بل وجد دليلًا على احتمالية تشابه الآلية الكامنة وراء ذلك.

ربما يكون التلعثم في البشر ناتجًا عرضيًا مؤسفًا لشخص يحاول تصحيح عجز يكمن في حديثه. تقول صوفي: «في كثير من الأحيان، ما يبدو لنا تلعثمًا، في الواقع هو محاولة الفرد التغلب على عدم طلاقته، يحدث التكرار لأن الناس يجربون أشياء مختلفة لتخطي المشكلة والاستمرار في حديثهم».

اكتشف جارفيس وزملاؤه أن ما يحدث لدى العصافير تالفة الدماغ قد يكون مشابهًا لما يحدث لدى الإنسان المتلعثم، ربما هو نتيجة محاولة أدمغة العصافير إصلاح نفسها. يقول: «نعتقد أن ذلك يحدث بسبب تكوين الدماغ خلايا عصبية جديدة، عندما تدخل الخلايا الجديدة المنطقة X تحاول تكوين روابط جديدة لكنها لا تنجح في البداية، ما يسبب التلعثم». ويعتقد أن ذلك ينطبق على البشر المتلعثمين.

تُنتج الكثير من المناطق في الدماغ البشري طوال حياة الإنسان عددًا قليلًا من الخلايا الدماغية الجديدة، يتضمن ذلك جزء الجسم المخطط.

يقول جارفيس: «يتلعثم الأشخاص المصابون بتلف في العقد القاعدية. أتوقع أن ذلك نتيجة إنتاج خلايا عصبية جديدة داخل الجسم المخطط».

عدلت مجموعة البحث الثانية تحت قيادة وان تشون ليو عصافير الحمار الوحشي وراثيًا، ما جعل العصافير تحمل طفرات جينية بشرية مرتبطة بداء هنتنغتون، وهو اضطراب تنكسي عصبي يتسبب في حركات لا إرادية ومتكررة تشبه الرقص، إلى جانب مشكلات خلال التحدث والتواصل. نشأت الطيور حاملة طفرات المرض بعجز صوتي حاد، إذ تلعثمت وعانت في تقليد أغاني العصافير الأخرى. وتدهورت كل مقاطعها الغنائية وبنيتها.

عانت عصافير وان تشون من تلف في الشبكة الدماغية المنتجة للأغاني، خصوصًا المنطقة X. وعندما نظر الباحثون بتمعن، لاحظوا خروج النظام الغنائي للعصافير بأكمله عن مساره.

يُعد جزء من جذع الدماغ مسؤولًا عن إصدار الأصوات لدى كل من الطيور والبشر، تنسق الخلايا العصبية بداخله نشاط العضو الصوتي –الحنجرة- ووتيرة التنفس الضرورية لإصدار الأصوات. في المقابل يجري التحكم في تلك الخلايا العصبية من قبل شبكة عصبونية تمر بجزئين آخرين من الدماغ، القشرة المخية، والعقد القاعدية، اللذين يتحكمان في المهارات الحركية، والتعلم الحركي عمومًا.

لاحظ فريق وان تشون عند فحص أدمغة العصافير بدقة، افتقارها إلى الروابط التي تمتد من القشرة المخية إلى العقد القاعدية، ما أدى إلى اضطراب توقيت دخول الإشارات إلى العقد القاعدية، ومن ثم إنتاج صوت غير منتظم.

وجدت دراسة مستقلة نُشرت في مارس 2016 أن تعطيل الخلايا العصبية مؤقتًا بداخل القشرة المخية يعيد انتظام الإشارات وتنظيم أغاني العصافير حاملة الطفرات الجينية. ما يشير إلى أن اضطراب التوقيت يعود إلى حدوث تلف بالعقد القاعدية، وأن تعطيل خلايا القشرة يعيد التسلسل الزمني الصحيح.

يمكن كذلك لأنواع تصدر أصواتًا أقل حمل شبكات عصبونية مشابهة، وجدت دراسة عام 2005 أن الفئران تصدر موجات فوق صوتية تشترك بالكثير من الخصائص مع أصوات العصافير. إذ إن صريرها عالي النبرة غير المسموع من قبلنا يعد أعقد مما كان يُعتقد سابقًا. إذ يتكون من مقاطع يتنوع ترتيبها وفقًا للسياق.

يقول جارفيس: «اكتشفنا وجود خلايا عصبية في القشرة المخية لدى الفئران تبلغ منطقة الجذع». إذ وجد جارفيس وزملاؤه عام 2012 أن أدمغة الفئران تحتوي نسخة مبسطة من الشبكة العصبونية الموجودة في أدمغة العصافير. ولكن ذلك لا يعني أنهما متطابقان، إذ إن الروابط بين أدمغة العصافير والبشر قوية للغاية، إذ تحتوي المئات -إن لم تكن الآلاف- من الألياف العصبية، بينما في الفئران يوجد القليل منها. لكن الشبكة عمومًا مماثلة. ويمكن للمسارات الصوتية لدى الفئران أن تتعطل بنفس الطريقة تمامًا لدى البشر والعصافير.

اكتشف فريق جارفيس في دراسة نشرت عام 2015 «أن الفئران تظهر مستويات منخفضة من المرونة في أصواتها، إذ تستخدم مقاطع مبسطة عند مطاردة أنثى، ثم تنتقل إلى مقاطع أعقد عند محاولة جذبها».

أفاد باحثو كلية الطب بجامعة واشنطن في أبريل 2016 بأنهم عدلوا مجموعة فئران وراثيًا لتحمل طفرة مرتبطة بالتلعثم البشري. أصدرت الفئران حاملة الطفرات أصواتًا عالية النبرة أقل من غير حاملي الطفرة، مع توقفات أطول بينها. تشابهت نداءات الفئران مع تلعثم الحديث لدى الإنسان حامل الطفرة.

توصل جارفيس إلى أن الحيوانات طورت الشبكة العصبونية مبدئيًا للتعلم الحركي، ثم طورت الأنواع نسخة أخرى من أجل التعلم الصوتي. ويقول: «الخلايا العصبية في الفئران هي جزء لا يتجزأ من المسار الحركي، بينما في العصافير والبشر تنفصل عنه، مع وجود الكثير من الروابط التي تبلغ الجذع وتمكنها السيطرة على الشبكة العصبونية منتجة الأصوات الفطرية».

ويعتقد أن الشبكة تضاعفت مرة أخرى في الأنواع الأكثر تعبيرًا، ومنها الإنسان. يقول: «إن المسار أكبر كذلك في الأنواع التي تقلد حديث البشر، لذلك نلاحظ هذا التضاعف المزدوج أيضًا عند الببغاوات».

يرتبط تعقيد تركيبات الدماغ المنتجة للصوت بمدى تعقيد الصوت ودرجة إمكانية تعديله. إذا كانت حقًا قدرة التعلم الصوتي تزداد بزيادة قوة الروابط بين القشرة والجذع، فمن المحتمل زيادة قدرة التعلم الصوتي لدى الأنواع الأقل مهارة من طريق تعزيز تلك الروابط. أخذ جارفيس تلك التجارب إلى معمله في محاولة لحمل الفئران على تقليد الأغاني بواسطة ربط مسار التعلم الحركي بخلايا جذعية لتعزيز مسارات الدماغ. النجاح في تلك التجارب سيصبح تكرارًا لواحدة من أهم الخطوات في تطور الدماغ.

اقرأ أيضًا:

ما أصل اللغة ؟ وكيف تطورت عبر الأجيال؟

أصول اللغة البشرية تعود إلى 25 مليون سنة!

ترجمة: سامية الشرقاوي

تدقيق: عون حدّاد

المصدر