كانت دراسة اللغة سببًا مهمًا لوضع نظريات مختلفة عن الطبيعة البشرية، لذلك قدم المختصون في الفلسفة وعلوم النفس والأعصاب والإنسانيات نظريات حول طبيعة اللغة وكيف تعمل، ونعني علماء عظام مثل أرسطو وأفلاطون وهيوم ولوك وفرويد وسكينر.

إذا كنت ترغب في صياغة نظرية حول ماهية البشر وكيف يعملون، فعليك أن تشرح اللغة. نريد أن نوضح نقطة قبل الخوض في التفاصيل، عندما نتحدث عن اللغة، نعني أنظمة التواصل مثل الإنجليزية والهولندية والإيطالية. يمكنك استخدام مصطلح «اللغة» أيضًا لوصف ما تستخدمه الكلاب أو الشمبانزي أو الطيور لتتواصل فيما بينها، وكذلك لوصف الموسيقى أو أي نظام تواصل آخر.

لا توجد قاعدة حول كيفية استخدام مصطلح «اللغة»، لكن المشكلة هي أن استخدام مصطلح اللغة بتوسع يجعلنا عاجزين عن طرح تعميمات مؤثرة أو إجراء دراسة جيدة حول الموضوع.

سنناقش في هذا المقال المفهوم العلمي للغة، وسنحصر حديثنا بدايةً في أنظمة التواصل مثل الهولندية والإنكليزية ولغة الإشارة الأمريكية، ونضع تعميمات حول اللغة ضمن مجالٍ ضيق، ما سيمكّننا من السؤال عن مدى ارتباط الأنظمة الأخرى مثل أنظمة التواصل الحيواني بهذا التعريف، وما هي الخصائص التي تمتلكها اللغات عمومًا، بمعنى أوسع، يمكننا السؤال عن أنظمة التواصل الأخرى التي تمتلك نفس الخصائص.

ما أصل اللغة وكيف تطورت عبر الأجيال - نظريات مختلفة عن الطبيعة البشرية - الخصائص التي تمتلكها اللغات بشكل عام - ماهية اللغة

حقائق مهمة عن اللغة

توجد حقيقتان مهمتان جدًا عن اللغة. الحقيقة الأولى اشتراك جميع اللغات في بعض المسلمات العميقة والمعقدة، خاصةً قدرة جميع اللغات على نقل الأفكار المجردة، أي أنها تتحدث عن الأفكار والعلاقات المكانية بين الأشياء.

الحقيقة الثانية هي كيفية اختلاف اللغات، إذا كنت تعرف لغةً فذلك لا يعني بالضرورة أن تعرف غيرها. ليست المشكلة فقدان القدرة على الفهم فقط، ويبدو الأمر غريبًا وغير معتاد في حالة لغة الإشارة، ما يعني أن أي نظرية يجب أن تفسح المجال أمام جميع الخصائص المشتركة والاختلافات بين اللغات، ويُعد هذا الأمر لغزًا أمام علم النفس وعلم اللغة المعرفي.

زعم داروين وجود نزعة فطرية إلى التحدث، مثل مناغاة الأطفال، في حين لا يوجد لدى الطفل نزعة إلى الكتابة مثلًا. يُعد ادعاء داروين مثيرًا للجدل لأنه يفترض وجود نوع من الميل أو القدرة أو الغريزة فطريًا.

اقترح داروين أن اللغة من الأمور الفطرية. ما الدليل على ذلك؟ تدعم بعض الحقائق فرضية داروين. لدى كل مجتمع بشري لغة، تواجه في أثناء سفرك ثقافات مختلفة، لكن الثابت أن الجميع لديه لغة، قد يكون الأمر نتيجة ثقافية بدهية. مثلًا، تستخدم كل الثقافات تقريبًا أدوات لتناول الطعام مثل السكين والشوكة وعيدان الطعام وغيرها، ليس لأن استخدامها طبيعة بشرية بل لأنها شيء مفيد اكتشفته الثقافات، قد لا يكون هذا صحيحًا، من أسباب هذا الافتراض دراسات الحالة المثبتة، إذ تنشأ اللغة في غضون جيل واحد، وقد أُجريت دراسات الحالة عبر التاريخ.

المثال القياسي على ذلك هو تجارة الرقيق، إذ كان التجار يتعمدون مزج العبيد من خلفيات ثقافية مختلفة لتجنب التمرد، ما يؤدي إلى تطوير العبيد نظام تواصل مؤقت ليتمكّنوا من التحدث فيما بينهم، وهذا ما يسمى «اللغة المبسّطة». لم تكن هذه اللغة المبسّطة لغةً حقيقية، بل كانت سلسلة من الكلمات المجمعة عشوائيًا من لغات مختلفة.

السؤال هنا: ماذا سيحدث لأطفال تربوا في مثل هذه البيئة؟ لن يتحدثوا لغةً مبسّطة، بل سيطورون لغتهم الخاصة في غضون جيل واحد، لغةً غنية بالتراكيب والتشكيلات وعلم الأصوات. تُسمّى هذه اللغة «الكريول»، واللغات التي نعرفها حاليًا هي نوع من الكريول. يشير المصطلح إلى التاريخ، أي إنها لغة تطورت من لغة مبسّطة، ما يؤكد بدوره أن للغة طبيعة فطرية لا تتطلب تاريخًا ثقافيًا واسعًا.

لدى أي إنسان طبيعي عصبيًا لغة، بشرط أن يتشاركها مع شخص آخر لتتطور. افتراض أن اللغة جزء من الطبيعة البشرية تدعمه دراسات عصبية تتحدث عن أجزاء من الدماغ مسؤولة عن اللغة، يسبب ضرر هذه الأجزاء عجزًا في اللغة أو حبسة، إذ تُفقد القدرة على فهم الكلام أو تشكيله.

توجد بعض الدراسات عن الأساس الجيني للغة، وأحد الأدلة على دور هذه الجينات وجود طفرات نقطية في هذه الجينات لدى بعض الأشخاص، ما يجعلهم غير قادرين على استخدام اللغة.

إن الإبداع صفة أصيلة في كل اللغات، ما يعني أمرين، الأمر الأول أكده ديكارت عندما ناقش فكرة أننا لسنا مجرد آلات، وأفضل دليل قدمه هو قدرتنا اللغوية الحرة غير المحدودة. يمكننا إنشاء وفهم جمل لم نسمع بها من قبل، فإذا كنت تريد تقدير عدد الجمل التي يمكن صياغتها من عشرين كلمة، سيكون الجواب: «الكثير من الجمل». لقد تعلمت ما تعنيه الكلمات لديك بواسطة قواعد مجردة غير واعية تساعدك على فهم جمل لم تسمعها من قبل.

الأمر الثاني أن لجميع اللغات علم أصوات ونظام كلمات، إضافةً إلى الوحدات الأساسية للمعنى التي تشير إلى القواعد والمبادئ التي تجمع الكلمات ذات المغزى. أما فيما يتعلق بعلم الأصوات، فلا توجد فترات توقف بين الكلمات، لكن عقلك يدرجها إدراجًا صحيحًا لأنك تعرف أين تبدأ الكلمة وأين تنتهي. يأتي الأطفال إلى هذا العالم دون معرفة أي لغة محددة، لذلك عليهم أن يتعلموا فترات التوقف، وتفسير الأصوات في سياقها، ويرتكبون الأخطاء أحيانًا، ويواجهون مشكلات في التجزئة.

يوضح الفهم الصوتي جميع جوانب معالجة اللغة، ستملأ الفراغات لتفهم الكلام حال وجود شيء غير واضح. يعرف المتحدث العادي أكثر من 60 ألف كلمة. يتعلم الأطفال يوميًا 9 كلمات وسطيًّا، وترتفع النسبة أو تنخفض حسب العمر. يمتلك متعددو اللغات نحو 200 – 300 ألف كلمة.

يشير بناء الجملة إلى القواعد التي تسمح لنا بدمج الكلمات في عبارات وجمل، لذلك يمكن إنتاج عدد لا نهائي من الجمل بعدد محدود من الكلمات.

‌بعض الحقائق الأساسية حول تطوير اللّغة:

يتعلّم كل الأطفال عادةً اللغة، لكن قد يفقد الإنسان اللغة بسبب اعتلال معين في الدماغ ناجم عن حبسة أو ضربة على الرأس أو سكتة دماغية، إضافةً إلى اضطرابات وراثية يفقد فيها الأطفال القدرة على تعلم الكلام.

‌ماذا تعرف عن الدورة الزمنية للغة؟ يميل الأطفال إلى سماع أنغام لغتهم. أُجريت دراسة على أطفال فرنسيين بعمر 4 أيام استخدموا فيها طريقة المص. كان الأطفال يمصون اللاهية عند سماع الفرنسية، وفضلوا سماع الفرنسية على الروسية. اقترح الباحثون أن ذلك نتيجة سماعهم الفرنسية في الأيام الأربعة الأولى من حياتهم، اعترض المراجعون وقالوا: «ربما لأن الفرنسية أفضل، الجميع يحب اللغة الفرنسية». أُعيدت التجربة في روسيا وفضّل الأطفال سماع الروسية على الفرنسية.

لا يستمع الأطفال إلى الكلمات، إنهم لا يعرفون الكلمات ولا بناء الجملة، بل إلى إيقاع اللغة. حتى لو لم تكن تعرف شيئًا عن الفرنسية والروسية، فاللغتان مختلفتان من وجهة نظرك، الأمر ذاته موجود لدى الأطفال. الطفل الذي تربّى في فرنسا أو روسيا يعرف ما يكفي لتمييز لغته.

في البداية، يكون الأطفال حساسين لجميع الأصوات، لقد كنتَ طفلًا متعدد اللغات، لكن نطاق حساسيتك يضيق فيما بعد لتصبح حساسًا للغة التي تسمعها فقط، يحدث ذلك بعمر 12 شهرًا، يبدأ الأطفال في هذا السن تقريبًا باستخدام كلماتهم الأولى، هذه الكلمات التي تصف أشياء وأفعال مثل كلب وفوق وحليب، ثم يظهرون بعض الحساسية لترتيب الكلمات فيميزون بين «عضّ كلب قطة» و «عضّت قطة كلب».

يتسارع تعلم الكلمات في سن 18 شهر، إضافةً إلى القدرة على بناء الجمل الصغيرة مثل: «أريد بسكويتًا» أو «انسكب الحليب». تبدأ القدرة على تعلم اللغة بالتلاشي عند بلوغ السابعة من العمر تقريبًا، أُجرت إليسا نيويورك وسام سوبالا دراسة على الأشخاص المقيمين في الولايات المتحدة مدة 30-40 سنة وراقبوا مدى قدرتهم على تعلم اللغة، فاتّضح أن المحدد الأساسي لجودة لغتهم الإنجليزية ليس الذكاء أو الدافع، بل التقدم في العمر.

تبين أنك إذا تعلمت اللغة في سنواتك الأولى ستتحدث مثل أي شخص آخر، لكن بعد ذلك يبدأ الوضع بالتدهور، وفور وصولك إلى سن البلوغ سيوجد فرق كبير في قدرتك على تعلم اللغات، وستحافظ غالبًا على لهجتك الأصلية.

اقرأ أيضًا:

اكتساب اللغة

كيف تتحكم اللغة في إدراك العقل للوقت؟

ترجمة: تيما الحسن

تدقيق: علي البيش

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر