في ظلّ التحديات الجيوسياسية الحالية بين الصين والولايات المتحدة، بالإضافة إلى مشكلات سلاسل الإمداد المتواصلة التي تؤثر في المصنّعين والمستهلكين، نسمع كلامًا كثيرًا عن نقل التصنيع العالميّ إلى خارج الصين.

لكن رغم هذا الكلام، فإن التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة وصل إلى مستوى قياسيٍّ عام 2022، ولا شيء يشير إلى أنه سيتراجع في المستقبل القريب.

ومع أن انفتاح الصين على الغرب يُنسب إلى وزير خارجية الولايات المتحدة السابق هنري كيسنجر تحت إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون حينها، فإن إقامة الولايات المتحدة علاقاتٍ تجارية عادية مع الصين استغرق حتى عام 2000 -العلاقات التجارية العادية هي تسميةٌ قانونية تمنح للدول الأجنبية وضع الدولة الأعلى أفضلية، فتُعامل مثل الدول الأخرى الأعضاء في منظمة التجارة العالمية-. هذا الإجراء عزز دور الصين المتنامي في التجارة الدولية. ومنذ ذلك الحين، انتقل جزءٌ كبير من قاعدة التصنيع في العالم إلى الصين، بفضل اليد العاملة الرخيصة وسياسات الحكومة التفضيلية. تضمّنت هذه السياسيات استثماراتٍ ضخمة في البنية التحتية والقدرة التجارية.

الرسوم الجمركية والحروب التجارية

خلق الصعود الاقتصادي المُذهل للصين تحدياتٍ جيوسياسية عدة، من مناطيد التجسس إلى الممارسات التجارية غير العادية والاتهامات بانتهاك الملكية الفكرية. أدى ذلك إلى حربٍ تجاريّة قائمةٍ بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين.

عام 2018، فعّل دونالد ترامب المادية 301 من قانون التجارة لعام 1974 لفرض رسومٍ جمركية على بضائع صينية بقيمة مليارات الدولارات عندما كان رئيسًا.

نتيجةً لذلك، اشتدّ الضغط على الشركات العالمية لنقل صناعتها إلى وجهاتٍ أقلّ كلفةً في أنحاء آسيا، مثل الفيتنام والهند وبنغلادش.

بعد أن سببت جائحة كوفيد-19 الفوضى في سلاسل الإمداد العالمية، تعالت الأصوات المنادية بإرجاع الصناعة إلى مكان أقرب إلى الوطن إما عن طريق «تقريب مواطن الشغل» -عبر بناء المعامل في المكسيك للسوق الأمريكية مثلًا- أو إعادة نقل مواطن الشغل إلى البلدان الأصلية.

رغم هذه الضغوطات المالية والسياسية المُعتبرة، لا يزال عدد من الشركات يرفض نقل عملية الإنتاج إلى خارج الصين.

لمَ لا؟ يبدو أن الصين أتقنت حرفة الصناعة. في إطار بحثٍ مستمرٍ في التنافسية العالمية، أُتيحت لنا فرصة مراجعة البيانات الخصوصية لبعض شركات التصنيع.

تشير هذه البيانات إلى أن الانخفاض الملحوظ لكلفة اليد العاملة المرتبط بالإنتاج في أسواق أخرى مثل بنغلادش، تقترن به إنتاجيةٌ منخفضةٌ أيضًا.

إن العمال الصينيين في نفس الوقت أغلى كلفةً وأكثر إنتاجيّةً من اليد العاملة في الاقتصادات النامية الأخرى في آسيا. يجب أن يؤخذ كلا هذين العاملين بعين الاعتبار عند اتخاذ قرار نقل عملية الإنتاج إلى خارج الصين. لكن هذا جزءٌ من القصة فقط.

حقيقة التصنيع

أجرينا لقاءً مع جوزيف إيجر، وهو طالبٌ سابقٌ لدينا ومديرٌ تنفيذيّ في شركة تزويدٍ عالميّة تصنع المنتجات الاستهلاكية، وتحدثنا عن عالم التصنيع وكيف يعمل.

لنأخذ مثالًا، عملية صناعة قبعة بيسبول؛ بعض القبعات عاديةٌ للغاية، بينما الأخرى معقدةٌ أكثر وتتضمن صناعتها التطريز واستعمال أقمشةٍ أغلى ثمنًا. كما يقول إيجر: «مع أن صناعة قبعات البيسبول ليس مثل صناعة الهواتف الخلوية، فهي معقّدةٌ بعض الشيء».

إن مجال التصنيع في الصين متصلٌ باقتصاداتٍ -أو بيئةٍ- ذات مستوى عالٍ من التكتل. لنأخذ مثالًا، تصنيع سترة؛ الأمر لا يتعلق فقط بالأقمشة التي نحتاج تفصيلها وخياطتها، بل أيضًا بالتطريز والأصباغ والخيوط والقطع الأخرى الأساسية المطلوبة لتجميع المنتوج»، كما يفسر إيجر.

طبّقت الصين استراتيجيةً تضمن بقاء سلسلة الإمداد كلها داخل البلد، وقد أتقنت كل مراحل العملية. تستورد الصين نصيبًا كبيرًا من الصوف والقطن في العالم وتُعالجه، بما في ذلك كمية كبيرة من القطن المزروع في الولايات المتحدة والذي يُمثل تقريبًا 35% من القطن في العالم.

ثم يُعالج هذا القطن ويُصنع منه قماشٌ يصبغ ويُفصل على شكل ملابس ومنتوجاتٍ أخرى. ثم تُصدّر هذه المنتجات كسلعٍ نهائية إلى مختلف أنحاء العالم بما فيها الولايات المتحدة. إن البيئة التجارية لإنتاج النسيج كلها موجودةٌ في الصين، وهذا لا ينطبق فقط على القماش بل على كل المكونات كذلك.

إذا أراد بائعٌ بالتجزئة في الولايات المتحدة أو كندا نقل عملية إنتاج الأقمشة التي يبيعها إلى خارج الصين، سيكون عليه نقل البيئة التجارية برمتها معها. إما أن يفعل ذلك أو أن يؤمن مُدخلات الإنتاج اللازمة من الصين ويستعملها في بلدان أخرى مثل بنغلاديش حيث تجري عمليّة الإنتاج النهائية.

التكاليف مرتفعةٌ جدًا

يبدو أن تكاليف مغادرة الصين ببساطة مرتفعةٌ جدُا. ما دامت البيئة التجارية للبضائع باقية في الصين، سيبقى كذلك نصيبها المهم من عملية التصنيع في العالم.

هل ستكون هنالك نقطة تحول حيث تنقل الشركات إنتاجها إلى خارج الصين؟ من غير المرجّح أن تتغير الظروف فجأةً يومًا ما لصالح بلدان أخرى.

في السنوات القادمة، مع صعود قطاعات التصنيع في البلدان الآسيوية الأخرى وتطويرها لبيئتها التجارية الخاصة، ستظهر الجدوى الاقتصادية لنقل الإنتاج خارج الصين أيضًا. لكن هذا سيستغرق سنوات.

اقرأ أيضًا:

كيف تسعى الصين للسيطرة على التصنيع في العالم ولماذا يعد ذلك خطرًا؟

كيف تدير الصين معروضها النقدي؟

ترجمة: زياد نصر

تدقيق: رغد أبو الراغب

المصدر