لُقِّب الدماغ البشري بأنه أكثر الأشياء تعقيدًا في الكون نظرًا لامتلاكه أكثر من 86 مليار خلية عصبية تتواصل فيما بينها بفضل مئات الآلاف من الألياف العصبية. إذن ليس من الغريب أن تكون تلافيف الدماغ بنفس درجة التعقيد. ورغم عشرات السنين من التكهنات والأبحاث إلا أن الآلية الكامنة وراءها ما تزال غير مفهومة.

أمضى مجموعة من الباحثين في الميكانيكا الحيوية وعلوم الكمبيوتر عدة سنوات في دراسة آليات عمل تلافيف الدماغ لإيجاد طرق جديدة تمكننا من تصوّر ورسم خريطة دقيقة للدماغ.

قد يساعدنا فهم هذا التعقيد على تشخيص وعلاج اضطرابات نمو الدماغ مثل الدماغ الأملس والصرع. زِد على ذلك فإن هذا الفهم قد يوضّح لنا وظائف الدماغ الطبيعية والمرضية، خاصةً وأن العديد من الاضطرابات العصبية تظهر في المراحل الأولى من النمو.

آليات عمل تلافيف الدماغ:

يتكون الدماغ من طبقتين:

الطبقة الخارجية تسمى القشرة الدماغية وتتكون من المادة الرمادية الملفوفة؛ هذه المادة مكونة بدورها من أجسام مليارات الخلايا العصبية ومجموعة من الأوعية الدموية الصغيرة.

الطبقة الداخلية تتكون من المادة البيضاء التي تحتوي على محاور الخلايا العصبية المغطاة بمادة (الميلين).

أظهر الباحثون في السنوات الأخيرة أن الميكانيكا، أو القوى التي تمارسها الأشياء على بعضها تلعب دورًا مهمًا في نمو الدماغ وتلافيفه.

من بين الفرضيات العديدة التي اقترحها العلماء لشرح كيفية عمل تلافيف الدماغ، فإن “النمو التماسي التفاضلي” هي الأكثر قبولًا لأنها مدعومة جيدًا بالملاحظات التجريبية.

تفترض هذه النظرية أن الطبقة الخارجية للدماغ تنمو بمعدل أسرع من الطبقة الداخلية بسبب طريقة تكاثر الخلايا العصبية وهجرتها أثناء التطور. يؤدي هذا الاختلاف في معدلات النمو إلى زيادة الضغط على الطبقة الخارجية، ما يؤدي إلى عدم الاستقرار العام لبنية الدماغ النامية وبالتالي فإن تلافيف الدماغ تساعد على إزالة الضغط عن القشرة الخارجية.

لتفسير أفضل لهذه النظرية، صنع الباحث جليل رضوي نموذجًا ميكانيكيًا للدماغ خصص فيه معدل نمو أكبر للطبقة الخارجية. تسبب هذا الاختلاف في معدلات النمو في قيام الطبقة الداخلية بمنع الطبقة الخارجية من الانتشار وخلق ضغط عليها. فلم يكن لها خيار آخر غير الالتفاف داخل الطبقة الداخلية للوصول إلى بنية أكثر استقرارًا.

أظهرت دراسة أخرى من جامعة هارفرد الأمريكية أن اختلاف معدلات النمو يؤدي فعلا إلى ظهور الالتفافات. استعملت هذه الدراسة نموذجًا للدماغ مطبوعًا بتقنية ثلاثية الأبعاد من مادة هلامية الخصائص.

يحدث هذا الالتفاف لأن الطيّ يزيد من نسبة مساحة سطح الدماغ بالنسبة إلى حجمه. تسمح هذه الزيادة بتجمع المزيد من الخلايا العصبية في مساحة معينة مع تقليل المسافة النسبية بينها.

وجد فريق جليل أيضًا أن هناك عوامل ميكانيكية أخرى تؤثر على الشكل النهائي الذي سيتخذه الدماغ، بما في ذلك سماكة الطبقة الخارجية الأولية ومدى صلابة الطبقتين بالنسبة لبعضهما.

أظهرت الدراسات التي أجراها الخبراء أن المحاور العصبية -وهي جزء من الخلايا العصبية التي تساعدها على نقل الإشارات الكهربائية- تلعب دورًا في تنظيم عملية تكوّن تلافيف الدماغ. إذ إن حواف الدماغ في تجارب المحاكاة تشكلت في مناطق بها عدد كبير من المحاور العصبية، بينما تشكلت الوديان في مناطق ذات كثافة منخفضة.

تم تأكيد هذه الملاحظات بالتصوير العصبي لعينات حقيقية من الدماغ البشري، وهذا ما قد يساعدنا على اكتشاف الأسباب وراء الأمراض العصبية التي لها بنية دماغية مختلفة كالتوحد والفصام.

يعمل الباحثون الآن على تطوير نماذج أكثر تعقيدًا للدماغ، بناءً على التصوير العصبي، التي ستوفر محاكاة أكثر دقة لنمو الدماغ.

آليات اضطرابات الدماغ:

توفر نماذج الدماغ الحالية تفسيرًا محتملًا لسبب تشكل الدماغ بشكل غير طبيعي أثناء النمو، ما يسلط الضوء على الدور المهم الذي تلعبه بنية الدماغ لضمان صحته.

تؤدي أنماط تلافيف الدماغ غير الطبيعية إلى حالات مرضية. على سبيل المثال، يشكل الدماغ ذو الطبقة الخارجية الأكثر سماكة من المعدل الطبيعي حواف أقل ووديان أكبر من دماغ ذي سمك عادي، في الحالات المرضية القصوى قد يؤدي هذا الاختلاف إلى حالة تسمى الدماغ الأملس، أي أن يفتقر الدماغ تمامًا إلى الالتفاقات.

يعاني العديد من الأطفال المصابين بهذه الحالة من التخلف الذهني الشديد ويموتون قبل سن العاشرة. لاحظ العلماء أيضًا التفافات غير طبيعية في المرضى الذين يعانون الفصام والصرع.

الخطوات التالية في دراسة آليات تلافيف الدماغ هي فهم الآليات الكامنة وراءها، وستوفر للباحثين الأساسيات للكشف عن اضطرابات نمو الدماغ، وقد يساعد هذا على توضيح العلاقة بين بنية الدماغ ووظيفته على التشخيص المبكر للأمراض العصبية. وقد يلعب الذكاء الاصطناعي في المستقبل دورًا هامًا في توضيح النمو الطبيعي للدماغ وتشكل التفافاته.

ولكن حتى مع كل هذه التطورات في علم الأعصاب، فإن الباحثين ما يزالون يحاولون فك لغز أكثر الهياكل تعقيدًا في الكون.

اقرأ أيضًا:

ما الذي تخبرنا به بصمة الدماغ حول كيفية عمل الدماغ البشري؟

لماذا لأدمغتنا طيّات؟

ترجمة: محمد سامي القطوفي

تدقيق: آلاء رضا

المصدر