الشعبوية حركة سياسية تحاول استمالة الشعوب بإقناعهم بأن قادتهم وحدهم من يمثلونهم، وأن مؤسسة نخبوية (حقيقية أو مختلقَة) تتجاهل مخاوفهم. منذ أواخر القرن التاسع، كثيرًا ما وُسِم طيف من السياسيين والأحزاب والحركات السياسية بلقب الشعبوية -التي تحمل مدلولات سلبية- على يد مناوئيهم.

تعريف الشعبوية:

قد يكون علماء الاجتماع والسياسة قد توصلوا إلى عدة تعريفات للشعبوية، ولكنهم يفسرون القوى الشعبية من ناحية أفكارها وخُطبها. تُظهِر هذه المقاربة الفكرية الشائعة والآخذة في النمو؛ الشعبوية على أنها صراع كوني بين الناس ذوي الأخلاق الحميدة ونخبة من المتآمرين الفاسدين الذين يلهثون وراء منفعتهم الذاتية.

يعرِّف دعاة الشعبوية الشعب بناءً على فئته الاجتماعية والاقتصادية وعرقيته أو جنسيته، في حين يعرّفون النخبة بأنها كيان عديم الشكل والهيئة يتكون من مؤسسة إعلامية وثقافية واقتصادية وسياسية تضع مصالحها مع مصالح جماعات أخرى كالمهاجرين واتحادات العمال والشركات الكبيرة على حساب الشعب.

ترى هذه المقاربة أن السمات الرئيسية للشعبوية غالبًا ما نجدها في أيدولوجيات وعقائد أخرى كالوطنية والليبرالية الكلاسيكية (المذهب الحر) أو الاشتراكية، ومن هذا السياق نستطيع أن نجد الشعبويين في أي مكان في الطيف السياسي، ما يفتح الطريق أمام الشعبوية المحافظة والشعبوية الليبرالية.

هنالك تعريف آخر للشعبوية يناقض المقاربة والرؤية الفكرية تحت اسم التمثيل الشعبي. يرى هذا التعريف الشعبوية بأنها قوة اجتماعية تحررية تسعى لمساعدة المجموعات المهمشة في تحدي الهيئات الحاكمة المهيمنة والثابتة.

يربط علماء الاقتصاد أحيانًا الشعبوية مع الحكومات التي تستميل الشعوب من طريق إطلاق برامج إنفاق عامة مكثفة تمولها قروض من دول أجنبية وليس الضرائب المحلية، فينتج عن هذا الإجراء تضخم مفرط يتبعه في النهاية إجراءات تقشفية طارئة.

عندما يُراد إظهار سلبيات الشعبوية ومساوئها؛ تُعرَّف أحيانًا بتعريف الديماغوجية (حكم الدهماء)، أي الإجراء المتمثل في تطبيق حلول في غاية البساطة لقضايا ومشكلات معقدة من طريق أسلوب عاطفي بالغ البهرجة. وفي أحيان أخرى يُشار إليها بالنفعية -الانتهازية- السياسية في محاولة لإرضاء الناخبين دون إيجاد حلول منطقية مدروسة للمشكلات.

الشعبوية في الولايات المتحدة:

تاريخيًا؛ ادّعت الحركة الشعبوية في الولايات المتحدة -كغيرها في أجزاء أخرى من العالم- تمثيلها الناس العاديين في صراعهم مع النخبة تحت شعار «نحن في مواجهتهم».

أغلب الظن أن تاريخ الشعبوية في الولايات المتحدة يعود إلى فترة رئاسة أندرو جاكسون وتشكيل الحزب الشعبوي في العقد الأول من القرن الثامن عشر. ومنذ ذلك الحين حصدت الشعبوية نجاحات متفاوتة في الولايات المتحدة والأنظمة الديمقراطية حول العالم.

سُمي أندرو جاكسون (1829-1837) «رئيس الشعب» وكان أول قائد أمريكي شعبوي. تميزت فترته الرئاسية بمعارضة المؤسسات الحكومية المؤسَسة سابقًا؛ إذ أنهى جاكسون استفادة الحكومة من بنك الولايات المتحدة الثاني ثم بنك البلاد الوطني، ودعا إلى التمرد وعصيان أحكام المحكمة العليا في الولايات المتحدة قائلًا: «من المؤسف أن الأغنياء وأصحاب النفوذ غالبًا ما يُطيِّعون قوانين الحكومة لغاياتهم وأهدافهم الأنانية».

الحزب الشعبوي:

يعود تاريخ الشعبوية في شكل حركات سياسة منظمة في الولايات المتحدة إلى عام 1892 عندما أبصر الحزب الشعبوي النور. للحزب الشعبوي تسمية أخرى وهي حزب الشعب.

تبنى الحزب الشعبوي -الذي استمد قوته من المناطق الزراعية في جنوب الولايات المتحدة وغربها- أفكارًا ومبادئ من أجندات حزب غرين بارك التي كان من بينها منع تملك الأجانب للأراضي الزراعية الأمريكية، وتطبيق الحكومة قوانين غرانجر التي تتحكم بالأسعار التي تضعها سكك الحديد لنقل محاصيل المزارعين إلى الأسواق، ونظام عمل مدته ثماني ساعات في اليوم.

كان للنساء دور مهم في عمل الحزب الشعبوي الذي تراوح بين التنظيم والتحدث في الاجتماعات، إلى كتابة المقالات حول أجندة الحزب. دعم الحزب الشعبوي حركات المنع والاعتدال، وأيَّد حظر الشركات الاحتكارية والتآمر على المستهلك، في حين تجنب قادة الحزب استمالة الناخبين السود خوفًا من الظهور بمظهر المناوئ للبيض. أمل قادة الحزب أنهم بترويجهم للسياسات الاجتماعية والاقتصادية التي يفضلها كلا العرقين، فسيمثل ذلك تأكيدًا للناخبين البيض أنهم لا يلمحون إلى دعم المساواة العرقية.

فاز مرشح الحزب الشعبوي لمنصب رئيس الولايات المتحدة جيمس بي ويفر -الذي كان في ذروة شعبيته- باثنين وعشرين صوتًا انتخابيًا في انتخابات عام 1892.

جاءت جميعها من ولايات الجنوب الأمريكي، في حين فشل الحزب بكسب الدعم من الناخبين في مدن الشمال الكبرى، وبذلك انهار الحزب وحُلَّ عام 1908.

لاحقًا اعتُمِدت الكثير من برامج الحزب وأجندته؛ بوصفها قوانين أو تعديلات دستورية؛ فمثلًا اعتُمِد نظام ضريبة الدخل التصاعدية عام 1913، ونظام الديمقراطية المباشر من طريق مبادرات الاقتراع والاستفتاءات في عدة ولايات.

الشعبوية في القرن الحادي والعشرين:

شهد القرن الحادي والعشرين تصاعدًا لافتًا في نشاط الحركات الشعبوية لكل من الشعبويين المحافظين والليبراليين.

حزب الشاي:

ظهر حزب الشاي عام 2009 وهو حركة شعبية محافظة نشطت في مواجهة سياسات الرئيس باراك أوباما الاجتماعية والاقتصادية. ركز الحزب على مجموعة من الخرافات ونظريات المؤامرة التي حُبكت حول أوباما، دافعًا الحزب الجمهوري إلى الليبرالية.

بيرني ساندرز:

تميز سباق الترشح لمنصب الرئيس الديمقراطي عام 2016 بمعركة من البيانات والصراعات الشعبوية الليبرالية. عارض السيناتور بيرني ساندرز -عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فيرمونت- وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة والسيناتور هيلاري كلينتون. ساندرز مرشح مستقل عادة ما يصوت مع الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، وعلى الرغم من أنه خسر الترشيح في نهاية المطاف، ولكنه صمد أمام موجات النقد التي طالته لارتباطه مع الاشتراكية من أجل إدارة حملة شعبية كبيرة يدعمها برنامج انتخابي يروج لتحقيق المساواة في الدخل وفرض ضرائب أكثر على الأثرياء.

دونالد ترامب:

في الانتخابات الرئاسية عام 2016 هزم المليونير الجمهوري والمطور العقاري دونالد ترامب منافسته هيلاري كلينتون على حين غرة، وفاز بغالبية التصويت الانتخابي على الرغم من خسارته التصويت الشعبي. وتحت شعار «لنجعل أمريكا عظيمة ثانية»، أدار ترامب إحدى أنجح الحملات الشعبوية في تاريخ الولايات المتحدة، ووعد بالتراجع عن كل أوامر الرئيس باراك أوباما التنفيذية وتشريعاته الفيدرالية التي أضرت أمريكا، ووعد أيضًا بتقليل الهجرة القانونية، وبناء جدار أمني على طول الحدود الأمريكية المكسيكية لمنع الهجرة اللاشرعية، واتخاد موقف انعزالي مع الدول الأخرى وحتى مع حلفاء الولايات المتحدة.

الشعبوية اليمينية:

تدفع الحركات الشعبوية اليمينية تدريجيًا نحو القومية والتحفظ الاجتماعي والقومية الاقتصادية (أي حماية اقتصاد الأمة من الشركات الأجنبية)؛ غالبًا من طريق إجراء الحماية التجارية.

يميل الشعبويون اليمينيون المحافظون إلى تشجيع مبدأ الشك في العلم كما نرى مثلًا في قضايا الاحترار العالمي أو التغير المناخي.

يركز عالم السياسة الهولندي كاس مود على التطرف السياسي ويجادل في أن المفهوم الجوهري للشعبوية اليمينية هو «الأمة»، ويرى أن هذا المفهوم من الأفضل التعبير عنه بمفهوم الأصلانية، وهو تعبير معادٍ للأجانب، يؤكد ضرورة إقصائهم وإبعادهم من البلاد.

في مجال السياسة الاجتماعية؛ يميل الشعبويون اليمينيون لرفض زيادة الضرائب على الأثرياء والشركات الكبيرة لمواجهة عدم المساواة في الدخل. وعلى هذه الشاكلة، يعارض الشعبويون اليمينيون تشريعات الحكومة التي تحد من نفوذ الشركات الخاصة لممارسة الأعمال التجارية.

في أوروبا ترتبط الشعبوية اليمينية بالأحزاب السياسية والسياسيين الذي يعارضون الهجرة (وخصوصًا من البلدان المسلمة)، وينتقدون الاتحاد الأوروبي والتكامل الأوروبي.

في الغرب وحتى في الولايات المتحدة؛ غالبًا ما ترتبط الشعبوية اليمينية بالقومية الثقافية ومعارضة العولمة والنزعة القومية (الأصلانية). وبينما يعارض الشعبويون اليمينيون الرعاية الاجتماعية، فإنهم يفضلون توسيع برامج الرعاية لتشمل طبقة مختارة ومستحِقَة، ويُعرَف هذا الإجراء بشوفينية الرعاية.

الشعبوية اليسارية:

تجمع الشعبوية اليسارية -التي يُطلَق عليها أيضًا الشعبوية الاجتماعية- السياسة الليبرالية التقليدية والمواضيع الشعبوية.

يزعم الشعبويون اليساريون التحدث عن قضية «عامة الناس» في نضالات طبقتهم الاجتماعية والاقتصادية في مواجهة «المؤسسة». إلى جانب معاداة النخبوية، غالبًا ما تتضمن برامج الشعبوية اليسارية المساواة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية ورؤيتها بوصفها أداة للنخبة الثرية والتشكيك في العولمة. يُعزى هذا النقد للعولمة جزئيًا إلى المشاعر المناهضة للنزعة العسكرية ومناهضة التدخل التي نمت لتصبح أكثر شيوعًا بين الحركات الشعبوية اليسارية نتيجة العمليات العسكرية للولايات المتحدة، في الشرق الأوسط مثلًا.

قد تكون حركة «احتلوا» عام 2011 أحد أوضح مظاهر الشعبوية اليسارية التي عبرت أحيانًا بعنف عن أن الافتقار إلى «ديمقراطية حقيقية» هو السبب في عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية في جميع أنحاء العالم.

تركز الحركة جلَّ اهتمامها على كيفية تقويض الشركات الكبرى والنظام المصرفي والاستثماري العالمي للديمقراطية من طريق استفادة غير متناسبة من نخبة الأقلية الثرية. وعلى عكس الشعبوية اليمينية، تميل الأحزاب الشعبوية اليسارية إلى الادعاء بدعم حقوق الأقليات والمساواة العرقية والصورة المثالية التي تؤكد أن القومية لا يحددها العرق أو الثقافة.

الشعبوية حول العالم:

يرى معهد توني بلير للتغير العالمي أن عدد الشعبويين الذين وصلوا إلى الحكم والسلطة حول العالم قد ازداد من أربعة إلى ما يصل إلى عشرين منذ عام 1990. لم يصل الشعبويون إلى مواقع النفوذ والسلطة في بلدان في أمريكا اللاتينية ووسط أوروبا وشرقها فحسب -حيث تسود الشعبوية- بل حتى في آسيا وغربي أوروبا.

بين عامي 1950 و2000 أصبحت الشعبوية حاضرة وواضحة في برامج قادة أمريكا اللاتينية وطروحاتهم السياسية كخوان بيرون في الأرجنتين، وهوغو شافيز في فنزويلا. في بدايات القرن الحادي والعشرين، برزت الأنظمة السلطوية الاستبدادية في بلدان في أمريكا اللاتينية وأوروبا وأشهرها في هنغاريا (المجر) والبرازيل.

المجر – فيكتور أوربان:

بعد انتخابه للمرة الثانية لشغل منصب رئيس وزراء هنغاريا في مايو عام 2010؛ باشر فيكتور أوربان (عن حزب فيدسز الشعبوي أو الحزب السلافي الهنغاري) بالتخلي تدريجيًا عن المبادئ الأساسية لأنظمة البلاد الديمقراطية. يؤيد أوربان -كما يعرف عن نفسه- حكومة ليبرالية أي نظام تجري فيه انتخابات، ولكن يبقى المواطنون فيه دون أن يعرفوا تفاصيل ومعلومات عن أنشطة قادتهم بسبب قلة الحريات المدنية. فرض أوربان -في منصبه رئيس الوزراء- سياسات عدائية تجاه مجتمع الميم (المثليين) والمهاجرين، وضيق الخناق على الصحافة والمؤسسة التعليمية والقضاء. وفي انتخابات عام 2022، سيواجه أوربان ستة أحزاب معارضة من جميع الأفكار والأجندات والأيدولوجيات تشكلت جميعها لهدف واحد: إسقاطه وتنحيته.

البرازيل – جاير بولسونارو:

فاز اليميني المتطرف الشعبوي جاير بولسونارو في الانتخابات الرئاسية التي جرت في أكتوبر عام 2018. يتخوف بعض المراقبين من إبداء بولسونارو بصراحة وعلانية إعجابًا واستحسانًا بالمؤسسة الدكتاتورية العسكرية الوحشية التي حكمت البرازيل بين عامي 1964 و1985، ما يعرض الديمقراطية في البرازيل -التي تحصل علها الشعب بجهد جهيد- لخطر جلي. من جهة أخرى، يؤكد مراقبون آخرون أن صحافة البلاد الشرسة والمناضلة والقضاء المستقل سيبددان أية سياسات استبدادية قد يحاول بولسونارو تطبيقها.

ستجري الانتخابات الرئاسية في البرازيل عام 2022، وسيعيد بولسونارو ترشيح نفسه مجددًا، وفي أعقابه، يلاحقه سيل من الانتقاد المتزايد، أجّجه فشله في إدارة الاقتصاد والتعامل مع وباء كوفيد-19. قبل مدة وجيزة من دخول البلاد في إحدى أسوأ الكوارث التي كان سببها وباء كوفيد-19، طمأن بولسونارو البرازيليين بأن هذا المرض التنفسي لا يعدو أن يكون أكثر من إنفلونزا وحسب. وباستمراره على هذا الافتراض الخاطئ -الذي تحركه دوافع سياسية- عارض عمليات الإغلاق لصالح الإبقاء على تشغيل اقتصاد البلاد، واستخف بفكرة ارتداء الكمامات وأعرب عن شكوكه بلقاحات كوفيد-19. مؤخرًا أمرت المحكمة العليا البرازيلية بإجراء تحقيق رسمي على إثر تصريحات ألقاها بولسونارو في الرابع والعشرين من أكتوبر عام 2021 يزعم فيها –كذبًا وزورًا- أن أخذ اللقاح المضاد لفيروس كورونا سيزيد من فرص إصابة الشخص بمرض الإيدز.

اقرأ أيضًا:

ما هي الأوتوقراطية؟

قائمة بالعلوم التي ينكرها دونالد ترامب

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: عبد الرحمن داده

مراجعة: حسين جرود

المصدر