أبدعت أفكار إيبنزر هاورد فكرة «مدن الحدائق» في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ وهي مراكز عمرانيةٌ جديدةٌ، رأى هاورد أنها ستحظى بأفضل مميزات المدينة والريف، ولكن من دون مشكلات أي منهما. مثلما نسمع بالأخبار الجديدة عن اتحاد شركاتٍ من وادي السيليكون يسمى «شركاء فلانري» الذي اشترى قطعة أرض في مقاطعة سولانو شمالي ولاية كاليفورنيا، ويخطط لبناء مدينة جديدة فيها تُسمى كاليفورنيا فوريفر (كاليفورنيا إلى الأبد) نسبةً إلى الشركة الأم للصندوق الاستثماري الممول للمشروع.

فكرة مثل كاليفورنيا فوريفر قد تبدو غير مسبوقة، لكنها من الأسس التاريخية لنظم التخطيط الحالية. وبالفعل، كان كاتب الخيال العلمي ايتش. جي. ويلز -وهو روائي مستقبلي سيرجع صدى أفكاره إلى الكثيرين في وادي السيليكون- معجبًا بأفكار هاورد لدرجة أنه انضم إلى «جمعية مدن الحدائق» ودعم تأسيسها.

خطط مدن الحدائق:

إن أي نموذج جديد للمدن يميل للتعبير عن التوجهات السياسية لمؤسسيه، إذ إن الرؤية والخطط تتجاوز أشكال المباني فتصوّر نمطًا أرقى للحياة؛ للتفاعل بين البشر والطبيعة وبين بعضهم بعضا.

تُظهر العروض الفنية المصاحبة لمشروع كاليفورنيا فوريفر مشهدًا جذابًا ومنسجمًا يحاكي التفكير الطوباوي: حدائق وفيرةٌ وفضاءاتٌ مفتوحة وطاقةٌ متجددة، إذ إنها تعبر عن سياسةٍ تعتمد الحياة الحضرية وتؤكد الحاجة إلى إعادة بناء علاقتنا بالطبيعة.

على هذا النحو، تتضمن هذه الأفكار في حد ذاتها قدرًا هامًا من الهندسة الاجتماعية، إذ ليست غايتها خلق بيئة مبنية جديدة فقط، بل إن لها تصورًا عن مجتمع جديد فريد من نوعه وأفضل من المجتمع الحالي.

لكن مدن الحدائق التي تأسست في نهاية المطاف كانت بعيدة عن رؤية هاورد الأولية. في الحقيقة، إن أفكاره التي تعود إلى أكثر من مائة عام تجعل من أفكار وادي السيليكون قديمة بلا أي شك.

فيما يخصّ هاورد، كان الأمر يتعلق بالتنظيم والإصلاح الاجتماعي وبالتخطيط العمراني على حدٍ سواء، إذ نادى بدعم الإنتاج المحلي وبتأسيس مستوطنات مكتفية ذاتيًا حتى تقل الحاجة إلى السفر، بالإضافة إلى طرق مبتكرة للتعامل مع الفضلات تحاكي تفكير الاقتصاد الدائري الحديث.

التخطيط والأرباح:

تخيّل هاورد أيضًا مدينة قد تتحدى بعض أسس الرأسمالية بدرجة أقل مما يطرحه منطق الاستثمار في كاليفورنيا فوريفر، ونظرًا للحرمان الكبير والتفاوت الاجتماعي بين الفقراء والأغنياء، دعا هاورد إلى تنظيم مدن الحدائق بطريقة تعاونية بغاية توزيع الثروة والتقليص من الفقر.

كانت الحاجة إلى جلب المستثمرين إحدى الأسباب التي كبّلت سياسة هاورد الطموحة، لأن شراء أرض واسعة كهذه يتطلب رأس مال معتبرًا، وأصحاب رأس المال هذا سيبحثون عن مقابل دون شك، فإذا تحقق مشروع كاليفورنيا فوريفر، فإن التاريح يحذرنا من ظهور فجوةٍ مماثلة بين الحقيقة والخطاب.

مع أن أفكار هاورد قد طُبّقت جزئيّا في أماكن مثل «ليتشوورث» غير أن التركيز على البيئة المبنية كان أكثر من التركيز على العدالة الاجتماعية أو التنمية المستدامة.

انتقل هاورد إلى المدينة الجديدة لكن تأثيره كان مهمشًا بسبب حاجة أصحاب القرار إلى ملاءمة مصالح أصحاب الأسهم.

مع أننا لا نعلم كيف عُرض مشروع كاليفورنيا فوريفر على المستثمرين، لكن من المعقول أن نفترض أن هذا العرض قد أثّر عليه دافع الربح، إذ يتضمن شراء أراضٍ زراعية أرخص وإعادة التقسيم من أجل السكن والتطوير وجلب التمويل الحكومي للبنية التحتية والزيادة في قيمة الأرض.

وبينما تبدو الصور مُعبرة عن التنمية المستدامة، قد يكون التنقل لمسافات طويلة مشكلة نظرًا لطبيعة سوق العمل في كاليفورنيا، وقد تكون التوقعات عن مشاركة حقيقية للمجموعة المحلية مشكلة أيضًا. طالما تُنتقد المخططات الطوباوية بسبب نزعتها نحو السلطوية -وهي تهمةٌ لم تعد بغريبة عن قطاع التكنولوجيا في الآونة الأخيرة.

كانت أفكار هاورد تُنتقد أيضًا بحجة أنها غير حضرية. أليس علينا السعي إلى تحسين المدن الموجودة سلفًا بدل تركها والبدء من جديد، ما يمكن أن يخلق مقاطعاتٍ حبيسة يأتي إليها الأكثر ثراءً ويهجرها ساكنوها الأصليون؟

أما القطاع التكنولوجي، فهنالك نزعةٌ طوباوية للسعي إلى الهروب -سواء إلى المستعمرات على المريخ أو إلى المدن الجديدة- بدل استعمال الثروة الطائلة والتأثير الهائل للقطاع من أجل معالجة المشاكل العمرانية الحالية.

التخطيط والتطور:

في نهاية الأمر فإنه من المُشجع رؤية مجموعاتٍ مثل مستثمري وادي السيليكون تُشيّد بمنافع التخطيط العمراني الجيد وما يمكن أن يقدمه للأجيال القادمة.

إن المشكلة الأكبر هي أن نُظم التخطيط الحالية ليست تقدمية بنفس القدر على الإطلاق، وفي عديد من البلدان، ينتقد المستثمرون ذوو النفوذ التخطيط العمراني بحجة أنه يخلق مزيدًا من التعقيدات الإدارية والضوابط غير الضرورية، أو لأنه يزيد من تكاليف التنمية، أو لأنه يمنع الأسواق من العمل بنجاعة!
غير أن الطريقة التي يقدمها مشروع كاليفورنيا فوريفر لبناء المدينة يتطلب سلطة تعديلية أقوى، وضربًا من الطموح السياسي الذي كان أكثر انتشارًا قبل قرن مضى. كما يطرح السؤال عن أحقّية القطاع الخاص بمثل هذه المشاريع.

في الحدّ الأدنى، ربما توفر مثل هذه المبادرات فرصة لإعادة تقييم إمكانيات التخطيط العمراني وتسليط الضوء على المشكلات الاجتماعية الحالية. وقد صُمِّمت رؤية هاورد الطوباوية لحل إشكاليات عصره: الاستغلال المسلط من طرف الملاك العقاريين، والأحياء القصديرية، والمدن الملوثة، والتفاوت الهائل في الثراء.

سواء بُني مشروع كاليفورنيا فوريفر أم لا، تظهر الأسباب التي وراء الفكرة أن التاريخ وإن لم يُعد نفسه فهو ينظم نفس القافية أحيانًا.

اقرأ أيضًا:

ماذا يعني انهيار بنك سيليكون فالي للقطاع المصرفي

فقاعة التكنولوجيا: هل ستفلس شركات التكنولوجيا؟

ترجمة: زياد نصر

تدقيق: غفران التميمي

المصدر