تتطور الفيروسات باستمرار، وينطبق ذلك خاصة على الفيروسات الجائحة كفيروس سارس-كوف-2 المسبب لجائحة كوفيد 19. يمكننا توقع ظهور الطفرات الفيروسية بشكل متكرر عند افتقار الأشخاص إلى المناعة، حيث يكون انتقال العدوى واسع النطاق، نتيجة عدد الفيروسات التي يمكنها التكاثر خلال فترة زمنية قصيرة. الوجود المتزايد للأفراد المنيعين يعني أن الفيروسات التي ما يزال بإمكانها الانتقال بين السكان المنيعين جزئيًا ستكون مميزة عن الفيروسات الأصلية. من المؤكد أن هذا ما رأيناه، فقد حذرت التقارير الإخبارية من ظهور متغيرات جديدة (فيروسات عديدة الطفرات، ما يجعلها تتميز عن أسلافها) وسلالات أخرى (متغيرات تم التأكد من تصرفها بشكل مختلف عن الفيروسات الأصلية).

الطفرات هي أخطاء عشوائية تحدث أثناء تكاثر الفيروس. في حالة سارس-كوف-2 الذي يملك جينوم RNA المؤلف من قواعد الأدنين والستوزين والغوانين واليوراسيل، تحدث أخطاء أحيانًا في حال غيّرت الطفرة البروتين المشفر بوساطة هذا الجزء من تسلسل الحمض النووي الريبي RNA، فيُشار إليه على أنه طفرة غير مرادفة، ويشار إلى الطفرات التي لا تؤدي إلى تغيير البروتين على أنها طفرات مرادفة أو طفرات صامتة.

من حسن الحظ أن معدل تحور فيروسات كورونا يعد بطيئا نسبيًا، نظرًا إلى قدرة الفيروس على تصحيح الأخطاء التي تمكنه من تجاوز أخطاء النسخ. عادة ما يقوم فيروس سارس-كوف-2 بمراكمة طفرتين شهريا بين أزواج قاعدة الجينوم التابعة له التي يبلغ عددها 30 ألف زوج. يشكل هذا نصف معدل الإصابة بفيروس الإنفلونزا وربع معدل الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية. لكن مع إصابة أكثر من 100 مليون شخص حتى اليوم، فإن الطفرات غير المرادفة أمر حتمي.

تكمن المشكلة الأكبر في تحديد الطفرات التي توفر للفيروس صفة مميزة تساعده على زيادة انتشاره بين السكان. لحسن الحظ، لدينا في هذه المرحلة المعرفة الكافية للإجابة على بعض الأسئلة الأكثر أهمية.

متى بدأت السلالات المختلفة من فيروس سارس-كوف-2 بالظهور؟

كانت الطفرة الأولى التي عرفناها هي طفرة D614G التي أُبلغ عنها لأول مرة في آذار عام 2020. قامت هذه الطفرة بتبديل الحمض الأميني الأسبارتات الموجود في الموقع 614 للبروتين الشوكي الخاص بالفيروس إلى الغليسين (G).

البروتين الشوكي هو البروتين الذي يمكّن الفيروس من الارتباط بالخلايا المضيفة، ولذلك فإن التغيير مهم هنا، إذ يمكن أن تساعد الطفرات على الارتباط بكفاءة أكبر بمستقبل المضيف (المسمى ACE2).مع ذلك، ليس من الواضح بعد إن كان هذا هو الحال في الطفرة D614G.

اقترح مؤلفو ورقة بحث متعلقة بالطفرة أن الانتشار السريع للمتغيرات الحاملة لهذه الطفرة مترافق مع التحاليل المخبرية المتعلقة بالسلوك الفيروسي والبيانات السريرية التي تتضمن الأشخاص المصابين بهذه الفيروسات، ما يعني أن الطفرة D614G قد قدمت ميزة انتقائية لهذه المتغيرات، وبذلك كانت الطفرة تنتشر. آخرون لم يقتنعوا، مقترحين أساسًا منطقيًا بديلًا لهيمنة الطفرة D614G، يشير إلى التحول في التركيز الجغرافي للوباء من الصين إلى أوروبا (خاصة إيطاليا) وإلى الولايات المتحدة الأمريكية، فكانت النسخة الأصلية من الفيروس موجودة في الصين والتي أصبحت الأكثر انتشارًا في أوروبا ومن ثم في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كانت هذه النسخة تحتوي على الأسبارتات (D) في الموقع 614، وكانت النسخة الجديدة تحتوي على الغليسين.

مع حدوث حالات التصدير الإضافية بما فيها طفرة D614G يرجح أن هذا المتغير قد هيمن ببساطة لكونه أول متغير يملأ تلك المنطقة، عوضًا عن وجود ميزة انتقائية. ما زلنا غير متأكدين من ذلك.

منذ سبتمبر عام 2020، رُصدت العديد من طفرات سارس-كوف-2 حول العالم. بعض المتغيرات المنتشرة حاليًا بين السكان تبدو أنها أكثر قدرة على التطور من نظيراتها الأكبر سنًا، لامتلاكها انتقالًا وفتكًا أسرع أو أحدهما. حاليًا بعد أن انتشر الفيروس في كل مكان تقريبًا، وعندما نرى متغيرات جديدة تتفشى في السكان، فمن المرجح أن يكون ذلك نتيجة تأثير الانتقاء بدل كونه نتيجة تأثير المؤسس. ذلك مدعوم بحقيقة أن العديد من المتغيرات تظهر علامات التطور التقاربي: أي حصلت لدى الفيروسات بشكل مستقل نفس الطفرات التي تجعلها أكثر قابلية للانتقال، ما يمنحها ميزة تطورية عن السلالات الموجودة مسبقًا.

بعض السلالات الأكثر شهرة

السلالة الأكثر شهرة هي على الأرجح المتغير B.1.1.7، الذي اكتشف لأول مرة في المملكة المتحدة في سبتمبر 2020. يحتوي المتغير B.1.1.7 على 23 طفرة تميزه عن سلفه. اقترحت دراسة أن المتغير أكثر قابلية للانتقال بنسبة تتراوح بين 35% و45% واحتمالية انتقاله إلى الولايات المتحدة عبر السفر الدولي ثمانية أضعاف على الأقل. في حين يبدو أن زيادة الانتقال -وليس الفتك- هي الصفة المميزة لهذا المتغير، أبلغت إحدى المجموعات بأن يكون B.1.1.7 مرتبطًا أيضًا بزيادة خطر الوفاة.

في ديسمبر 2020، عُرف متغير آخر أُطلق عليه اسم B.1.351 لأول مرة في جنوب أفريقيا، وبعد فترة قصيرة عُثر على متغير يسمى P.1 في ماناوس البرازيلية خلال موجة ثانية من الإصابات في تلك المدينة. يبدو أن كلا المتغيرين يساعدان الفيروس على الإصابة بسهولة أكبر.

نظرًا إلى أن جميع السلالات تتمتع بميزة انتقال على السلالات الثابتة، فمن المحتمل أن نرى هذه المتغيرات تستمر في الانتشار.

كيف تختلف هذه المتغيرات عن الفيروس الأصلي؟

كما هو الحال عند المتغير D614G، تتضمن العديد من الطفرات تغييرات في البروتين الشوكي، فالطفرة الرئيسية في المتغير B.1.1.7 والتي تسمى N501Y تحوِّل بقايا حمض أميني يسمى الأسباراجين إلى حمض آخر يسمى التيروزين في الموضع 501 على طول البروتين الشوكي.

لم يُفهم بعد على وجه الدقة السبب الذي يجعل هذا الفيروس أكثر قابلية للانتقال، ربما لأنه قادر على القيام بارتباط أفضل بالخلايا المضيفة، ووجود كميات أعلى من الفيروس في الجهاز التنفسي، إضافة إلى تحسين تكاثر الفيروس، أو مزيج من هذه المواصفات، أو يمكن أن يكون السبب مختلفًا تمامًا. التجارب ما زالت جارية في مختبرات العالم لمعرفة ذلك.

يحتوي المتغيران B.1.351 و P.1 على طفرة تسمى N501Y وطفرة أخرى تسمى E484K، التي تحول الحمض الأميني الجلوتاميك إلى ليزين في موضع البروتين الشوكي رقم 484. هذه الطفرة مثيرة للقلق خاصة لأنها تبدي قدرة أكبر على الهروب من المناعة المتواسطة بالأضداد (المناعة التي تجعل من الصعب على الأضداد الموجودة في الجسم الالتصاق بالبروتين الشوكي ومن ثم منع الفيروس من دخول الخلايا).

إضافة إلى هذه التغييرات المحددة، تحتوي سلالتي B.1.351 و P.1 على نحو 20 طفرة فريدة إضافية لكل منهما. إذا كان كلا المتغيرين أفضل بالفعل من الفيروسات القديمة في المناورة ضد الجهاز المناعي، فقد يفسر ذلك الموجة الثانية في ماناوس، وقد يترك الأفراد المصابين سابقًا عرضة لخطر الإصابة مرة أخرى بهذه المتغيرات. في الواقع، لقد وثّقت العديد من التقارير مثل هذه الحالات في البرازيل مع متغيرات تحتوي على طفرة E484K.

هل ما تزال اللقاحات فعالة ضد هذه المتغيرات؟

نعم، لكنها قد لا تكون بنفس الفاعلية.

في وثيقتين حديثتين، فحص مطورو لقاح Moderna و Pfizer-BioNTech ما إذا كانت الأضداد لدى الأفراد المطعمين ستبطل مفعول (تمنع تكاثر) الفيروسات التي تحتوي على أشكال متحولة من البروتين الشوكي سارس-كوف-2 في المزرعة الخلوية.

تعمل الأضداد بشكل جيد ضد فيروس يحمل طفرات B.1.1.7، لكنها عملت بكفاءة أقل عند ظهور طفرات B.1.351. مع ذلك، تتوقع كلتا الشركتين أن تعمل اللقاحات بفاعلية حتى ضد هذا المتغير، ما يزال يعتبر المستوى الأدنى من الأضداد الواقية كافيًا لمنع حدوث العدوى. وقد تبين أن لقاحات Novavax و Johnson&Johnson أقل فاعلية ضد متغيرات B.1.351 و P.1 في التجارب.

من أين أتت هذه النسخ الجديدة من الفيروس؟

لسنا متأكدين من الأمر. في سلالة B.1.1.7 في المملكة المتحدة، لا يبدو أن هناك أي متغيرات فيروسية (وسيطة) واضحة لإثبات أن هذه السلالة تطورت من السلالات السائدة السابقة، فقد تراكمت الطفرات ببطء مع مرور الوقت.

بدأ العلماء بالاعتقاد بوجود قفزة تطورية هائلة قد تحدث في فرد معروف يعاني من عدوى مزمنة. إذ يصف تقرير حالة يعود إلى ديسمبر 2020 عدوى سارس-كوف-2 لرجل يعاني من ضعف شديد في المناعة. مع مرور الوقت، وجد العلماء أن مجموعة الفيروسات التي كان يحملها خضعت إلى تطور فيروسي متسارع، ويرجع ذلك على الأرجح إلى عدم قدرة جهاز المناعة لديه على إبقاء الفيروس تحت السيطرة. عند فحص الطفرات المحددة ، اكتشف الأطباء كلًا من N501Y و E484K وهو أيضًا جزء من المتغيرات B.1.351 و P.1 التي ظهرت في نفس الوقت تقريبًا، على الرغم من أن الرجل لم يكن لديه أي متغير بنفسه.

تخيل أن هذه العملية تحدث مرارًا وتكرارًا في جميع أنحاء العالم. الأمر لا يتطلب سوى متغير واحد يتكرر في الشخص المناسب وفي المكان المناسب لكي ينطلق وينتشر بين السكان.

ما الذي علينا فعله لإيقاف هذه المتغيرات؟

علينا مواصلة ما كنا نفعله طوال الوقت: ارتداء الكمامات، والحفاظ على التباعد الاجتماعي، والبقاء في المنزل، وغسل اليدين. يمكننا الآن أيضا أخذ اللقاح عندما يتوفر. يعد هذا الأمر هامًا، حتى لو كانت المتغيرات تقلل إلى حد ما من فاعلية اللقاح، فإن الفاعلية المنخفضة ما تزال أفضل من عدم وجود أي فاعلية، وحتى اللقاحات الأقل فاعلية في الوقاية من العدوى يمكنها أن تحمي من الأمراض الخطيرة.

المفتاح هو توفير أقل قدر ممكن من العوامل المساعدة على انتشار الفيروس، كتقليل المضيفات المعرضة للمتغيرات، ووقف تكرارها باتباع إجراءات الصحة العامة الأساسية وتلقي اللقاح. عندما يصادف الفيروس طفرات مفيدة، يبدو الأمر كما لو أنه ربح اليانصيب.

اقرأ أيضًا:

ما يجب أن تعرفه عن متغيرات فيروس كورونا الخمسة المنتشرة في العالم

لماذا تفشت سلالات فيروس كورونا الجديدة حول العالم بهذه السرعة؟

اكتشاف ست سلالات جديدة من فيروس كورونا في الخفافيش

الغسولات الفموية قد تثبط فيروسات كورونا البشرية بحسب الدراسات

ما مدة المناعة المكتسبة بعد الشفاء من فيروس كورونا ؟

ترجمة: ديانا بريمو

تدقيق: عبد الرحمن داده

المصدر