إنْ أمَرَك شخص ذو سلطة بأن تصعق شخصًا آخر بـ 400 فولت، فهل ستطيع الأوامر؟ سيجيب معظم الأشخاص بالرفض، لكن أتت تجربة ميلغرام لتثبت العكس! في ستينيات القرن الماضي، أجرى ستانلي ميلغرام -عالم نفس في جامعة ييل- سلسلة من تجارب الطاعة أدت إلى نتائج مفاجئة. وتعطي هذه النتائج نظرة مقلقة حول تأثير السلطة والطاعة. وأثارت أبحاث حديثة الشك في مدى شمولية نتائج ميلغرام وشككت في النتائج والإجراءات. ورغم عيوبها، كان للتجربة آثار واضحة في علم النفس.

ما تجارب ميلغرام؟

«أعطي علم النفس الاجتماعي لهذا القرن درسًا مهمًّا: ما يحدّد كيفية تصرف الشخص حيال أمرٍ ما ليس طبيعة الشخص ذاته وإنما طبيعة الموقف الذي يوضَع فيه». ستانلي ميلغرام- 1974.

باشر ميلغرام تجاربه عام 1961 بعد بداية محاكمة مجرم الحرب العالمية الثانية أدولف إيكمان بوقت قصير. دافع إيكمان عن نفسه بالقول إنه كان ينفّذ الأوامر حينما أمر بقتل ملايين اليهود، الأمر الذي أثار اهتمام ميلغرام، وطرح في كتابه (الانصياع للسلطة) التساؤل: هل كان إيكمان ومساعدوه يتبعون الأوامر؟ هل بالإمكان تسميتهم جميعًا شركاء في الجريمة؟

تجربة بحيثيات صادمة:

كان المشاركون 40 رجلًا طوِّعوا باستخدام إعلانات. طوّر ميلغرام مولد صدمات هائل مع مستويات صدمة بدءًا من 30 فولت وحتى 450 فولت. وصُنِّفت القواطع بمصطلحات تضمنت: صدمة خفيفة ومتوسطة وخطيرة أو شديدة، وسُمي القاطعان الأخيران (XXX).

أخذ كل مشارك دور الأستاذ الذي سيعطي تلميذه صدمة عند كل إجابة خاطئة. في حين كان التلميذ شريكًا ممثلًا في التجربة وتظاهر بالتألم وتلقي الصدمة. ومع تقدّم التجربة سيسمع المشاركُ الطالب يترجى الانعتاق أو يشتكي آفة قلبية. وعندما يصل الأمر إلى 300 فولت سيطرق التلميذ على الحائط ويطلب الإعفاء، وبعد هذه النقطة سيصمت التلميذ ويرفض الإجابة عن أي أسئلة أخرى. سيشير مدير التجربة إلى المشارك بالاستمرار.

هل أعطى الأغلبية الصدمة القصوى؟

عندما طرح ميلغرام السؤال على مجموعة من طلاب جامعة ييل، توقعوا أن ما لا يزيد عن 3% سيوافقون على إعطاء الصدمة القصوى. لكن في الواقع فإن 65% من المشاركين أعطوا الصدمة القصوى. ومن المهم الانتباه إلى أن الكثير من المشاركين أصبحوا مشوشين ومذهولين وغاضبين من مدير التجربة ومع ذلك استمروا في اتباع الأوامر حتى النهاية.

ومراعاةً لمستويات القلق التي عاناها الكثير من المشاركين، كوشف كلٌّ منهم عند نهاية التجربة. وفسّر الباحثون الإجراءات والتضليل الحاصل.

الأسئلة الأخلاقية التي أثارها ميلغرام:

أثار بحث ميلغرام أسئلة أخلاقية جدية حول استغلال الإنسان في التجارب النفسية، وأُكِّدت نتائجه في تجارب لاحقة.

أجرى توماس بلاس عام 1999 بحثًا أكبر حول الطاعة، ووجد أن نتائج ميلغرام صحيحة.

لمَ أظهر الكثير من المشاركين فعلًا ساديًا عندما أمرهم رمزٌ سلطوي بذلك؟ وفقًا لميلغرام، تفسِّر بعض العوامل الظرفية هذه المستويات العالية من الطاعة:

  •  زاد الحضور المادي للرمز السلطوي من الانصياع.
  •  قادت حقيقة أن ييل المؤسسة الأكاديمية الموثوقة والمهنية هي الراعي للدراسة الكثير من المشاركين للاعتقاد بأن التجربة آمنة.
  •  ظهرت عملية توزيع أدوار المعلم والطالب على أنها عشوائية.
  •  افترض المشاركون أن مدير التجربة مختص مؤهل.
  •  قيلَ إن الصدمات مؤلمة لكن ليست خطيرة.

أظهرت الدراسات اللاحقة التي أجراها ميلغرام أن وجود نظراء متمرّدين خفف كثيرًا من مستويات الطاعة. فعند رفض أشخاص آخرين الانصياع للأوامر، فإن 36 من أصل 40 رفضوا إعطاء الصدمة القصوى.

وفسَّر ميلغرام ذلك في كتابه (الانصياع للسلطة): بإمكان الناس العاديين الذين يؤدون أعمالهم ببساطة ودون عدائية أن يصبحوا مشاركين في عملية مدمِّرة مروِّعة. وحتى عند استجلاء التأثيرات الهدّامة لأعمالهم والطلب منهم القيام بأعمال تتعارض مع المعايير الجوهرية للأخلاق، فإن القليل من الناس يمتلكون الإرادة الكافية التي تحول دون انصياعهم للسلطة.

تحولت تجربة ميلغرام إلى تجربة كلاسيكية في علم النفس في إثباتها مخاطر الطاعة.

يقترح البحث أن للمتغيرات الظرفية اليد العليا في تحديد مستوى الطاعة أكثر من العوامل الشخصية.

لكن يجادل علماء نفس آخرون بأن لكل من العوامل الداخلية والخارجية تأثيرٌ قوي في الطاعة مثل المعتقدات الذاتية والمزاج العام.

هل سيستمر الناس في الطاعة؟

أجرى باحثون عام 2009 دراسة صُمِّمت لمحاكاة تجربة ميلغرام، وفي مقال نُشر في مجلة APS Observer وصف عالم النفس جيري بيرغر مدى صوابية دراسة ميلغرام اليوم: من الصعب إبعاد الصور المرعبة لمواطنين عاديين يضربون بصعقات كهربائية خطيرة، إن لم تكن مميتة. إضافةً إلى نتائج أعمال قبيحة مثل الهولوكوست أو سجن أبو غريب. لكن، ولأن إجراءات ميلغرام لا تتوافق مع المعايير الأخلاقية اليوم، فإن الكثير من أسئلة البحث بقيت دون إجابة. وأهمها سؤال يطفو عندما أعرض نتائج ميلغرام على الطلاب: هل سيتصرف الناس اليوم بالطريقة ذاتها؟

أجرى بيرغر الكثير من التعديلات على تجربة ميلغرام، وأظهرت النتائج أن المشاركين استجابوا بالنسبة ذاتها التي أظهرتها تجربة ميلغرام منذ 40 سنة.

ووفقًا لآرثر جي ميللر البروفسور في جامعة ميامي، توجد ببساطة الكثير من الاختلافات بين هذه الدراسة والبحث السابق حول الخضوع، تسمح بمقارنات تصورية دقيقة ومفيدة.

يقول آلان سي إيلمز البروفسور بجامعة كاليفورنيا إن للمحاكاة الكثير من المزايا. وأشار إيلمز إلى أنه من غير الممكن المقارنة بين مستويات الطاعة القصوى في إعطاء صدمة تصل إلى 150 فولت بتجربة بيرغر و450 فولت بتجربة ميلغرام. إلا إن إجراءات بيرغر قد تُستَخدم لاكتشاف بعض المتغيرات الظرفية التي درسها ميلغرام، إضافةً إلى البحث عن متغيرات أخرى مثل الاختلافات الشخصية والبيئية.

انتقادات حديثة ونتائج جديدة:

تقترح عالمة النفس جينا بيري أن معظم ما نعتقد معرفته عن تجربة ميلغرام الشهيرة هو جزء من القصة فقط. فقد وجدت في أثناء بحثها في مقال حول الموضوع مئات التسجيلات الصوتية في أرشيف جامعة ييل توثِّق عدة نسخ من تجربة ميلغرام.

هل أجبِر المتطوعون على تنفيذ الأوامر؟

بينما تشير تقارير ميلغرام عن تجربته إلى إجراءات منهجية وموحَّدة، فإن التسجيلات تظهر ما هو مختلف. فخلال الجلسات التجريبية، غالبًا ما خرج المجرِّب عن السياق وأجبر المتطوع على الاستمرار في إعطاء الصعقات. وتقترح بيري: «عند الاستماع لتلك التسجيلات، يبدو الخضوع للسلطة الموظف في تجارب ميلغرام، شبيهًا بالتنمُّر والإجبار».

منذ وقت طويل ظلت تجارب ميلغرام مصدر انتقادات وسببًا في الجدل. ومنذ البداية كانت أخلاقيات تجربته موضع شك، وعانى المشاركون ضيقًا عاطفيًّا ونفسيًّا.

اقترح ميلغرام أن المشاركين كانوا في مرحلة التخلص من الخدعة بعد التجارب. لكن أظهرت معطيات بيري أن قلّةً فقط هم من تبينوا فعلًا حقيقة التجربة من بين 700 شخص شاركوا في أنواع مختلفة لتجاربه. ففي مرحلة المكاشفة، تُشرح للمشاركين أهداف التجربة وتُكشف حقائقها من أن الصعقات غير حقيقية وأن الشخص الآخر لم يُمَّس بأذى. وبدلًا من ذلك تركزت مكاشفات ميلغرام على تهدئة المشاركين قبل السماح لهم بالذهاب، وغادر بعضهم في حالة ضيق شديد. ورغم أن الحقيقة اكتُشفت بعد عدة أشهر أو سنوات، فإن الكثيرين لم يعلموا حقيقة الأمر.

التنويعات ونتائجها المختلفة:

المشكلة الأخرى هي أن نسخة ميلغرام من الدراسة والنسخة التي أعيدت روايتها لا تعطي صورة كاملة. إذ إن الإحصائية المشهورة التي تفيد بأن 65% من الأشخاص نفذوا الأوامر، ظهرت في نسخة واحدة فقط من التجربة، بينما في النسخ الأخرى، كانت نسبة المستعدين لطاعة الأوامر أقل بكثير، وفي بعض الروايات لم يُنفذ أي من المشاركين الأوامر.

تابعت بيري بعض المشاركين ومساعدي ميلغرام، واكتشفت أن الكثير من المتطوعين قد استنبطوا نية ميلغرام وعرفوا أن التلميذ كان يدّعي الألم. وتضع هذه الموجودات نتائج ميلغرام تحت منظور جديد. وتقترح ليس فقط انخراط ميلغرام عمدًا في تضليل كبير للحصول على النتائج التي أراد، وإنما أن الكثير من المشاركين كانوا يجارونه. وصرَّحت بيري لاحقًا أن تتبُّع خطوات بحث ميلغرام قلب مواقفها واعتقاداتها حيال إحدى أشهر الشخصيات في علم النفس وأكثرها إثارةً للجدل.

يعتمد الخضوع على بعض العوامل الحاسمة:

تقترح نتائج حديثة أنه رغم ميل الناس لطاعة الرموز السلطوية، فإن العملية ليست بالضرورة بالشكل الذي صوره ميلغرام. وفي تقرير نُشِر في (Plos Biology) اقترح عالما النفس أليكس هاسلام وستيفن رايشر أن درجة استعداد الناس لطاعة أوامر مريبة لرمز سياسي تعتمد على عاملين أساسيين:

  •  مقدار موافقة الشخص على هذه الأوامر.
  •  مدى ثقتهم بمن يصدر الأوامر.

وبرغم أن الناس غالبًا حساسون للتأثير والإقناع والخضوع دون إرادتهم، فإنهم ليسوا آلاتٍ بلا أدمغة تتلقى الأوامر.

لمَ ما تزال تجربة ميلغرام بهذه القوة؟

تعتقد بيري أنه رغم الكثير من تبعاتها الأخلاقية وعدم القدرة على تكرارها مجددًا، فقد أخذت الدراسة مكانة ما تسميه هي مَضرب المَثل.

قد لا تجيب تجارب ميلغرام عن سبب طاعة الناس أو درجة طواعيتهم. إلا إنها ألهمت باحثين آخرين لاكتشاف الأسباب وراء تنفيذ الناس للأوامر، وربما والأهم ما يدفعهم إلى التشكيك في السلطة.

اقرأ أيضًا:

عشر تجارب نفسية غير أخلاقية

تجربة سجن ستانفورد: عندما يمنح البشر سلطة الطغيان!

ترجمة: سوار قوجه

تدقيق: عون حدّاد

المصدر