تُعد التدفقات الراديوية السريعة المتكررة FRBs إحدى أغرب الظواهر في كوننا الحالي وأكثرها غموضًا، ويتجلى التدفق الراديوي السريع كومضة راديوية عابرة في الفضاء تصعب ملاحظتها أو رصدها من قبل الفلكيين والعلماء، إذ تدوم لجزء من الثانية وتولد طاقةً تصل إلى 500 مليون مرة أكثر من الطاقة التي تطلقها شمسنا في الفترة الزمنية نفسها.

في أحدث ما وصل إليه العلماء حول هذه الظاهرة، رصدوا تدفقًا راديويًا سريعًا متكررًا أطلق عليه اسم ‏FRB 20200120E أقرب بأربعين مرة إلى كوكب الأرض من أقرب تدفق راديوي سابق لاحظه العلماء.

عند تتبع مصدر التدفق الراديوي الأخير، وجدوا أنه قادم من مجرة تبعد 11.7 مليون سنة ضوئية عن مجرتنا وينبع من عنقود نجمي مغلق وهو نوع من أنواع التجمعات النجمية. شكل الأمر مفاجأةً لدى العلماء إذ لا يحتوي هذا النوع من التجمعات النجمية على نجوم تُصدر تدفقات راديوية سريعة متكررة.

استنادًا إلى ذلك، اقترح الباحثون نظريةً جديدة لتفسير آلية تشكل تلك النجوم، وأن التدفقات الراديوية السريعة المتكررة قد تنبثق من أماكن غير متوقعة.

تحير العلماء بأصل التدفقات الراديوية وطبيعتها منذ أول ظهور لها عام 2007. تتألف هذه التدفقات من إشارات قوية تنبع من الفضاء الخارجي، إذ تعبر ملايين السنين الضوئية قبل وصولها إلينا، وتصدر طاقةً تفوق 500 ضعف طاقة ما يصدر من شمسنا، ولا يمكن التقاطها سوى بأطوال الموجات الراديوية.

إضافةً إلى ندرة تكررها، تُعد مدة وجود هذه التدفقات قصيرة جدًا، إذ تعادل ما يقل عن جزء من الألف من الثانية، ما يجعل مهمة مراقبتها وتحديدها وفهمها صعبة جدًا.

رصد أقرب تدفق راديوي من الفضاء من مكان غير متوقع - ما هي التدفقات الراديوية السريعة المتكررة FRBs التي يهتم العلماء برصدها؟

يحاول العلماء توقع الأجرام التي قد تصدر هذه التدفقات عبر دراسة وتحليل بنية التدفقات. حاليًا، تتصدر النجوم النيوترونية لائحة هذه الأجرام.

في السنة الماضية، رصد فريق من الباحثين تدفقاتٍ راديوية من داخل مجرة درب التبانة، تصدر من نجم مغناطيسي.

تُعد النجوم المغناطيسية حالة شاذة لنجم نيوتروني، والجدير بالذكر أنها نادرة، إذ لم يُكتشف سوى 24 نجمًا مغناطيسيًا فقط حتى اللحظة.

يتكون النجم النيوتروني من النواة المنهارة لنجم منطفئ. تتميز النجوم النيوترونية بصغر حجمها وكثافتها العالية، إذ يعادل قطرها 20 كيلومترًا، إلا أن كتلتها تعادل ضعفي كتلة الشمس.

إضافةً إلى هذه الخاصيات، تتميز النجوم المغناطيسية عن النجوم النيوترونية بحقل مغناطيسي قوي جدًا يساوي مليارات ضعف قوة الحقل المغناطيسي الأرضي وآلاف قوة الحقل المغناطيسي للنجوم النيوترونية.

عودةً إلى التدفق الراديوي (FRB 20200120E)، فإنه يحاكي تمامًا النجوم المغناطيسية وخصائصها.

ونظرًا إلى تكرر هذا التدفق، كانت عملية دراسته وفهم طبيعته سهلةً، إذ تمكن العلماء من معرفة طول المسافة التي قطعها، إذ تبين لاحقًا أنها قصيرة نسبيًا.

وعبر هذه الدراسة، تمكن الباحثون من تتبع مصدر التدفق، إذ ينبع من مجرة (M81) الحلزونية، وتحديدًا من عنقود مغلق هناك. إلا أن هذه البيانات تُمثل معضلةً للباحثين، إذ تُعد العناقيد المغلقة تجمعًا لنجوم قديمة ذات كتلة منخفضة نسبيًا، تعادل كتلة شمسنا. ومن المرجح أن هذه النجوم قد تكونت جميعها في ذات الفترة الزمنية من ذات السحابة الغازية.

تتكون النجوم النيوترونية من نجوم كتلتها كبيرة، ومن جهةٍ أخرى، تتميز الأخيرة بفترة حياة قصيرة مقارنةً بنجوم ذات كتلة أقل.

لذا، فمن النادر جدًا وجود النجوم النيوترونية ضمن العناقيد المغلقة التي تحتوي على نجوم قديمة الوجود.

وكتب الباحثون في الدراسة التي أُجريت، أن التدفق الراديوي (FRB20200120E) ينبع من العنقود المغلق الموجود في مجرة (M81)، ما يعني أنه أقرب تدفق يصلنا حتى اللحظة.

في ذات السياق، يجد العلماء في هذه العناقيد المغلقة نجومًا نيوترونية سرعة دورانها عالية جدًا تُعرف باسم النجوم النابضة (millisecond pulsars).

يسبب وجود أعداد كبيرة من النجوم داخل العناقيد المغلقة الكثير من التصادمات والتفاعلات بين هذه النجوم، ما قد يولد أجرامًا ذات طبيعة مختلفة، كثنائيات الأشعة السينية منخفضة الكتلة (low mass x-ray binary) والنجوم النابضة.

يؤكد فريق البحث أن هذه البيانات تعطي نظرياتٍ جديدة حول أصل النجوم المغناطيسية وتكوّنها فمثلًا، قد يتفاعل القزم الأبيض منخفض الكتلة low-mass white dwarf مع مواد نجم آخر، ما يعطيه كتلةً كافية لانهيار نواته وتحولها إلى نجم نيوتروني، أو قد يصطدم قزمان أبيضان معًا ويندمجان للتحول إلى نجم نيوتروني أيضًا.

تقترح نظرية أخرى أن أصل هذه التدفقات الراديوية ليست النجوم المغناطيسية، بل ثنائيات الأشعة السينية منخفضة الكتلة. تتكون هذه الثنائيات من قزم أبيض ونجم نيوتروني، أو من نجم نيوتروني وكوكب خارجي.

ومن ناحية أخرى، يرى بعض الباحثين أن أصل التدفقات ينبع من الثقوب السوداء المتنامية.

ما تزال مجرد نظريات ينقصها دليل، إذ لا توجد أشعة سينية أو أشعة غاما مترافقة مع هذه التدفقات.

يرى العلماء أن تدفق (FRB20200120E) يمثل فرصةً لاكتشاف جديد حول هذه الإشارات ومصدرها والأجرام المسؤولة عن إصدارها، وبما أن هذا التدفق ذو طبيعة متكررة، فإنه يمثل فرصةً نادرة لمراقبة ومعرفة سر هذه التدفقات بالتفصيل.

اقرأ أيضًا:

رصد انفجارات راديوية فائقة السرعة قد تمثل الحلقة المفقودة بين النجوم الراديوية والنجوم المغناطيسية

الإشارات المغناطيسية الغريبة تدفعنا لإعادة التفكير في الاندفاعات الراديوية السريعة

ترجمة: محمد علي مسلماني

تدقيق: لبنى حمزة

المصدر