أُجرِي بحث تعاوني حلل المعلومات الجينية من مشروع الألف جين، وكشفت النتائج عن وقوع جائحة فيروس كورونا منذ 20,000 سنة مضت في شرق آسيا. نُشرَت نتائج البحث في مجلة Current Biology.

منذ وقت مضى

هل تجد نفسك تستذكر الأيام التي كنت ترحب فيها بأصدقائك بالعناق وتشتكي من الالتصاق بالأجساد المتعرقة الأخرى في الميترو خلال رحلتك الصباحية إلى العمل، والتي لم يكن المعقم موجودًا إلا في التجمعات الكبيرة المنظمة مثل المهرجانات؟ نعم، إنها الحياة قبل الجائحة. لكن الحقيقة هي أن جيلنا لا يعرف الحياة قبل الجائحة.

إن سارس-كوف-2 ليس الفيروس التاجي الأول الذي نواجهه، ومن المحتمل جدًا أنك سمعت بالنسخة “الشقيقة” لهذا الفيروس التي تنتمي إلى نفس عائلة الفيروسات التاجية. تسبب هذه الفيروسات عادةً عدوىً تنفسيةً وتترافق مع نزلة البرد الشائعة.

أثبتت الفيروسات التاجية قدرتها على التطور بمرور الوقت لتصبح أَقدَرَ على العدوى وأخطر على الإنسان، وهذا بعد جائحة سارس-كوف في عام 2003 والتي حصدت حياة 774 شخصًا، وجائحة ميرس-كوف في عام 2012، وجائحة كوفيد-19 الحالية.

يشير البحث الجديد إلى أن أجداد الإنسان الحديث في شرق آسيا اضطروا إلى مكافحة جائحة لفيروس كورونا وقعت منذ 20,000 عام. هذا البحث نتيجة عمل تعاوني بين عدد من المؤسسات منها جامعة كوينزلاند للتقنية وجامعة أريزونا وجامعة ستانفورد وجامعة كاليفورنيا، سان فرانسيسكو.

قال كيريل ألكسندروف، بروفيسور البيولوجيا التخليقية، علم الأحياء التركيبي، في جامعة كوينزلاند للتقنية وقائد البحث: «بدأ التواصل البدئي بين المؤسسات البحثية في الأيام الأولى لجائحة كوفيد-19 وصبّ الاهتمام على جمع الخبرات المشتركة لفهم التآثرات بين فيروس سارس-كوف-2 والخلية المضيفة في الجسم».

فهم هذه التآثرات هو الأساس الذي يمكننا من صنع الدواء الوقائي والشافي. في الوقت نفسه شمل قسم من هذا البحث إجراء تحليل للمعلومات الحيوية في الجينوم البشري لتحديد مكان وقوع الطفرات في الجينات التي تتفاعل مع سارس-كوف-2.

بروتينات VIPs: بروتينات شديدة الأهمية للعوامل الممرضة

دعونا نفهم أولًا عمل بروتين مهم يسمى بروتين VIP (البروتين المتفاعل مع الفيروسات virus-interacting protein). هذه البروتينات، مثلما يشير الاسم، هي جزء من الآلية الخلوية التي تتفاعل مع الفيروسات الداخلة إلى الجسم. أدى الاصطفاء خلال المسيرة التطورية للبشرية إلى منع حدوث التغيرات الجينية في الجينات المرمزة لبروتينات VIPs. معدل ثباتية هذه البروتينات أكثر بثلاث مرات من باقي الجينات. يُبقي التطور على هذه الجينات في الجينوم البشري لسبب ما.

قال الباحثون: «تشير الدلائل المتراكمة إلى وقوع جائحات قديمة لفيروسات حمضها النووي هو الحمض النووي الريبي (RNA) مرارًا وتكرارًا خلال التطور البشري، لكننا لا نعلم حاليًا إذا أَحدَث الانتخاب الطبيعي مساهمةً فاعلةً في تطور الجينات التي تتفاعل مع الفيروسات التاجية تحديدًا».

من المهم معرفة تأثير الانتخاب الطبيعي من عدمه على تطور هذه الجينات، لأن هذا يمنحنا فهمًا أوسع لمساهمة الفيروسات في التطور البشري وللجينات التي يحملها الإنسان اليوم.

ولكن كيف نقيس هذا التأثير؟

يقول ألكسندروف: «تتراكم الطفرات في الجينات باستمرار، وتكون معظم هذه الطفرات غير مؤذية وغير ذات تأثير على وظيفة الجين التي تحدث ضمنه. يمكنك تخيل معدل حدوث الطفرات على أنها ساعة جينية تدق باستمرار. يسبب الضغط الاصطفائي -عند حصول جائحة مثلًا- زيادة سرعة بعض الجينات ويحفزها على إحداث الطفرات النافعة».

إشارات قوية على التكيف الجيني لفيروسات كورونا في شعوب شرق آسيا، وتوجد هذه الإشارات في جينات عدة تتفاعل مع فيروسات كورونا، ومنها فيروس سارس-كوف-2. المصدر: جامعة أديلايد.

إشارات قوية على التكيف الجيني لفيروسات كورونا في شعوب شرق آسيا، وتوجد هذه الإشارات في جينات عدة تتفاعل مع فيروسات كورونا، فيروس سارس-كوف-2. المصدر: جامعة أديلايد.

دليل تطوري

حلل ألكسندروف وزملاؤه التسلسلات الجينية لستة وعشرين شعبًا مختلفًا من ضمن مشروع الألف جينوم، وبحثوا عن دليل على زيادة سرعة التغيرات في الجينات التي ترمز لبروتينات VIPs. وشرح ألكسندروف الأمر قائلًا: «وجدنا عند مقارنة عدد كبير جدًا من التسلسلات الجينومية البشرية أنه منذ 20,000 سنة مضت، بدأت ساعة الكثير من الجينات البشرية التي يستخدمها فيروس سارس-كوف-2 للتحكم بالخلايا البشرية تدق بمعدل أسرع، وبصورة متزامنة، ما يرجح احتمالية وقوع جائحة فيروسية سبّبها فيروس مشابه».

درس معدل الدق في المعلومات الجينومية من شعوب شرق آسيا بالتحديد. ذكر الباحثون: «يدل هذا على وقوع جائحة قديمة لفيروس كورونا -أو لفيروس آخر يستخدم بروتينات VIPs مشابهة- وهو الأمر الذي حرّض استجابةً تكيفيةً لدى شعوب شرق آسيا».

استخدم ألكسندروف وزملاؤه بعد ذلك سبل البيولوجيا التخليقية لاكتشاف أيّ تفاعل محتمل بين بروتينات VIPs البشرية التي ترمزها الجينات التي يبلغ عمرها 20,000 عام مع بروتينات سارس-كوف-2. أكد البحث هذا التفاعل بينهم، ويظن العلماء أن هذا يشير إلى الطبيعة التطورية المحافظة للآلية التي تخترق بها فيروسات كورونا الخلايا البشرية.

استدلّ العلماء من بيانات الدراسة المُجراة على ضخامة جائحة فيروس كورونا شرق الآسيوية وعلى استمرارها لعدة أجيال. يعتقد العلماء أن هذه الجائحة ساهمت إسهامًا جديًا في تشكيل جينوم الشعب المصاب.

تدفع هذه النتائج المرء إلى التساؤل عن الكيفية التي تؤثر بها جائحة سارس-كوف-2 على الجينوم البشري للأعوام القادمة. يؤكد ألكسندروف أن هذا البحث لا يزعم معرفة السبب وراء الظواهر المذكورة، ويقول: «من المرجح جدًا أن التغيرات في الجينوم البشري تعود إلى وقوع جائحة فيروس كورونا، لكن هذا البحث لا يقدم دليلًا مباشرًا».

يهدف العلماء لاحقًا إلى إجراء تحليل جيني لمجموعات سكانية أكبر، ويأمل العلماء أن يقودهم هذا إلى الكشف عن تفشي جائحات معدية قديمة أخرى، وإلى تتبع العلاقة التاريخية بين الفيروسات وتطور الإنسان. يضيف ألكسندروف: «تستطيع السبل التي طورناها في هذه الدراسة أن تقود جهود الاستعداد للجائحة».

لم يكن المشروع ممكنًا لولا جهود الفريق، إذ يختتم كلامه قائلًا: «كان هذا الجهد الدولي جامعًا للتخصصات المختلفة من المؤسسات المختلفة. جمعت الدراسة بين عمل فريق المعلوماتية الحيوية الذي يقوده ديفيد إينارد من جامعة أريزونا وفريق البيولوجيا التخليقية من جامعة كوينزلاند للتقنية».

اقرأ أيضًا:

تأكد الأمم المتحدة على ضرورة مكافحة التغير المناخي على اعتباره كارثة مثل جائحة كورونا

متى ستنتهي جائحة فيروس كورونا ؟

ترجمة: ربا كيال

تدقيق: نور عباس

المصدر