في الرابع من شهر تشرين الأول عام 2021 حاز كل من دايفيد جوليوس وأردم باتابوتيان على جائزة نوبل في الطب أو الفيزيولوجيا، لاكتشافهم مستقبلات الحرارة واللمس.

لطالما مكنتنا حواس البرد واللمس من التفاعل مع العالم من حولنا، وهي ضرورية لبقائنا على قيد الحياة. عادةً، لا نعيرُ اهتمامًا لهذه الحواس، ولكن السؤال هنا: كيف تبدأ النبضات العصبية التي تمكننا من إدراك درجة الحرارة والضغط؟ هذا ما أجاب عنه الفائزان بجائزة نوبل لهذا العام.

استخدم دايفيد جوليوس مركبًا مستخلصًا من الفلفل الحار، وهو الكابسيسين ذو الخواص اللاذعة الذي يسبب الإحساس بالحرقة، لتحديد مستقبل الحرارة في النهايات العصبية للجلد.

استخدم أردم باتابوتيان الخلايا الحساسة للضغط فاكتشف صنفًا جديدًا من المستقبلات التي تستجيب للمؤثرات الميكانيكية في الجلد والأعضاء الداخلية.

أدت اكتشافاته المتتابعة إلى إجراء العديد من الأبحاث وتعميق فهمنا لأسلوب جهازنا العصبي في تحسس الحرارة والبرد والمنبهات الميكانيكية. ردم الفائزان ثغرات عديدة في فهمنا للترابطات المعقدة بين حواسنا وبيئتنا.

كيف ندرك العالم؟

كيف نستشعر ما حولنا في البيئة؟ يعد هذا أحد أكبر الألغاز التي تواجه البشرية. لقد حيرتنا الآليات التي تتبعها حواسنا لآلاف السنين، مثلًا، كيف تتعرف أعيننا إلى الضوء؟ وكيف تؤثر الموجات الصوتية في أذننا الداخلية؟ وكيف تتفاعل المركبات المختلفة مع المستقبلات في أنوفنا وأفواهنا فنشتم الروائح ونتذوق الأطعمة؟

ليس ذلك فقط، بل إننا نمتلك طرقًا أخرى لإدراك محيطنا. تخيل المشي حافي القدمين على الشاطئ في يوم صيفي حار. ستشعر بحرارة الشمس وبهبوب النسيم وبكل نصل من العشب تحت قدميك. قدرتنا على استشعار حرارة الجو وملمس الأشياء وحركة الأجسام الملامسة لنا ضرورية كي نتكيف مع محيطنا المتغير باستمرار.

في القرن السابع عشر، تصور الفيلسوف الكبير رينيه ديكارت خيوطًا تصل أجزاء مختلفة من الجلد إلى الدماغ. بهذه الطريقة عندما تلمس القدم جسمًا مشتعلًا فإنها ترسل إشارةً ميكانيكية إلى الدماغ.

كشفت الاكتشافات اللاحقة وجود خلايا عصبية تعمل مستشعراتٍ وتسجل التغيرات الحاصلة في المحيط. تلقى كل من جوزيف إيرلانغر وهربرت غاسر جائزة نوبل في الطب أو الفيزيولوجيا عام 1944 لاكتشافهم أنواعًا مختلفة من الألياف العصبية التي تستشعر وتستجيب لمؤثرات مميزة، مثل أنواعٍ مختلفة من اللمسات المؤلمة وغير المؤلمة. منذ ذلك الاكتشاف تبين أن هناك خلايا عصبية متخصصة لكشف وتحويل الأنواع المختلفة من المؤثرات سامحةً لنا بإدراك الفروق الدقيقة التي تطرأ على محيطنا؛ مثلًا، قدرتنا على استشعار اختلافات القوام عبر ملامسة أطراف أصابعنا لسطح المجسم، أو قدرتنا على التمييز بين الدفء المناسب والحرارة المزعجة.

قبل اكتشافات دايفيد جوليوس وأردم باتابوتيان، كان فهمنا لكيفية استشعار الجهاز العصبي وترجمته لما يدور حوله، يحوي سؤالًا جوهريًّا: كيف تتحول المؤثرات اللمسية والحرارية إلى نبضات عصبية في الجهاز العصبي؟

الصورة 1 شرح لتصور الفيلسوف رينيه ديكارت عن انتقال الإشارات الميكانيكية إلى الدماغ.

الصورة 1 شرح لتصور الفيلسوف رينيه ديكارت عن انتقال الإشارات الميكانيكية إلى الدماغ.

اشتعال الحماسة العلمية

في أواخر التسعينيات، رأى العالم دايفيد جوليوس من جامعة كاليفورنيا احتمالية حدوث تقدم علمي بتحليل استجابة الجلد للكابسيسين المسبب للشعور بالاحتراق عند لمسنا للفلفل الحار. كان معروفًا آنذاك دور الكابسيسين في تنبيه الخلايا العصبية ما يسبب إحساس الألم، لكن اللغز هو كيف تمكنت مادة كيميائية من فعل هذه الوظيفة. أنشأ جوليوس مع مساعديه مكتبةً جينية تحوي الملايين من شدف الحمض النووي منقوص الأوكسجين DNA التي تستجيب لمنبهات الألم والحرارة واللمس. افترض جوليوس وزملاؤه أن المكتبة ستحتوي شدفةً من DNA تشفر بروتينًا يمكنه التفاعل مع الكابسيسين. عبّر الباحثون عن الجينات من طريق البروتينات الموافقة لها في خلايا أوساط الزرع وتتصف هذه البروتينات بأنها لا تستجيب ولا تتفاعل مع الكابسيسين. لكنهم لاحظوا بعد بحث حثيث أن أحد الجينات تتعلق بالاستجابة للكابسيسين لأن الخلايا الحاوية لهذا الجين الفعال حساسة للكابسيسين. وهكذا حددوا الجين الحساس للكابسيسين! وبعد إجراء التجارب اللاحقة تبين أن هذه الجين يشفر بروتينًا يعمل بمثابة قناة أيونية تستجيب لوجود الكابسيسين، سمّيَ لاحقًا TRPV1.

حاول جوليوس فهم طريقة استجابة هذه القناة الأيونية للحرارة، وأدرك أنها مستقبل يتحسس للحرارة المؤلمة.

الصورة 2 استخدم دايفيد جوليوس مركب الكابسيسين من الفلفل الحار لتحديد TRPV1، بمثابة قناة أيونية تُفعّل بالحرارة المؤلمة. وهكذا حُدِّدت العديد من القنوات الأيونية الأُخَر ونحن الآن نفهم كيف يؤثر اختلاف الحرارة في إنتاج النبضات الكهربائية التي تنتقل إلى الجهاز العصبي.

الصورة 2 استخدم دايفيد جوليوس مركب الكابسيسين من الفلفل الحار لتحديد TRPV1، بمثابة قناة أيونية تُفعّل بالحرارة المؤلمة. وهكذا حُدِّدت العديد من القنوات الأيونية الأُخَر ونحن الآن نفهم كيف يؤثر اختلاف الحرارة في إنتاج النبضات الكهربائية التي تنتقل إلى الجهاز العصبي.

شكّل اكتشاف TRPV1 سبقًا علميًا، وأدى إلى اكتشاف العديد من مستقبلات الحرارة الأخرى. ثم استخدم كل من دايفيد جوليوس وأردم باتابوتيان في بحثين منفصلين مركب المينتول لتحديد مستقبل TRPM8 الذي يُفعّل بالبرودة. من ثم اكتُشفت قنوات أيونية أخرى متعلقة بـ TRPV1 وTRPM8 وجرى تحديد المجال الحراري الذي تستجيب له كل قناة. أقامت كثير من المختبرات برامج بحثية للكشف عن دور هذه القنوات في تحسس الحرارة باستخدام الفئران المعدلة جينيًا التي تفتقر إلى الجينات المسؤولة عن إنتاج تلك القنوات الأيونية.

شكل اكتشاف دايفيد جوليوس لقناة TRPV1 النقطة الأولى التي مكنتنا من فهم انتقال الإشارات الكهربائية الناتجة عن تغير الحرارة إلى الدماغ.

بحث تحت الضغط

بينما كان علماء يكتشفون آليات تحسس الحرارة، كان اللغز حول تحول المنبهات الميكانيكية إلى إدراك للمس والضغط لا يزال بلا حل، فقد كانت المستشعرات الميكانيكية في الجراثيم معروفةً ولكن الآليات المسؤولة عن الضغط عند الفقاريات كانت مجهولة. عمل أردم باتابوتيان في بحث سكريبس في كاليفورنيا، ناشدًا إيجاد المستقبلات التي تستجيب للمنبهات الميكانيكية.

حدد باتابوتيان وزملاؤه خطًا خلويًّا ينتج إشارةً كهربائية قابلة للقياس عندما تُنكز الخلايا بوساطة الماصة الميكروية. افترضوا أن المستقبل الذي يعمل هنا استجابةً إلى القوة الميكانيكية هو قناة أيونية وفي الخطوة التالية حددوا 72 جينًا مرشحًا أن يكون المسؤول عن إحداث الاستجابة. أجرى الباحثون عملية تثبيط لتلك الجينات، الواحد تلو الآخر لاكتشاف الجين المسؤول عن الحساسية الميكانيكية. بعد بحث صعب، نجح باتابوتيان وزملاؤه في تعريف جين واحد جعل إسكاته الخلايا غير حساسة للنكز. وهكذا اكتشف الباحثون قناة أيونية جديدة مسؤولة عن التحسس للمنبهات الميكانيكية وأعطوها اسم Piezo1 نسبةً للكلمة الإغريقية píesi التي تعني الضغط. حُدِّد جين آخر Piezo2 بعد ملاحظة تشابهه مع الجين المشفِّر لـ Piezo1. وُجدَ أن العصبونات الحسية تعبر عن Piezo2 بمستويات عالية، وقد أقرّت دراسات أخرى أن Piezo1 وPiezo2 هي قنوات أيونية تُفعّل بزيادة الضغط على أغشية الخلايا.

الصورة 3 استخدم باتابوتيان الخلايا الحساسة للمنبهات الميكانيكية في أوساط الزرع لتحديد القناة الأيونية المفعلة بالقوة الميكانيكية. وبعد البحث الجاد، حُددت قناة Piezo1، ثم قناة Piezo2 اعتمادًا على تشابههما.

الصورة 3 استخدم باتابوتيان الخلايا الحساسة للمنبهات الميكانيكية في أوساط الزرع لتحديد القناة الأيونية المفعلة بالقوة الميكانيكية. وبعد البحث الجاد، حُددت قناة Piezo1، ثم قناة Piezo2 اعتمادًا على تشابههما.

أسفر اكتشاف باتابوتيان عن سلسلة من الأبحاث من مجموعته ومجموعات بحثية أخرى، مؤكدين على دور قناة Piezo2 الأساسي لحس اللمس. علاوةً على ذلك، أثبت باحثون دور Piezo2 الرئيس في تحسس توضع جسم الكائن الحي ضمن الفراغ وتحسس الحركة، يُعرف هذا النوع من الأحاسيس بإدراك الجسم وأعضائه. وفي أعمال لاحقة دُرست وظيفة Piezo1 وPiezo2 في تنظيم العديد من العمليات الفيزيولوجية الإضافية، مثل ضغط الدم والتنفس والتحكم بالتبول.

كله منطقي!

مكنتنا اكتشافات الفائزين لهذه السنة من فهم تأثير الحرارة والبرودة والضغط الميكانيكي في إنتاج النبضات العصبية وتولد الإحساس الذي يجعلنا ندرك العالم من حولنا ونتكيف معه.

تشكل قنوات TRP الجزء الرئيس لقدرتنا على إدراك الحرارة. وتزودنا قناة Piezo2 بحس اللمس والقدرة على الشعور بموضعنا وحركة أجزاء جسمنا. تسهم قنوات TRP و Piezo2 أيضًا في عدد كبير من الوظائف الفيزيولوجية الإضافية المعتمدة على تحسس الحرارة أو الضغط الميكانيكي.

انطلاقًا من الأبحاث التي نالت جائزة نوبل لهذا العام لا يزال هنالك الكثير من الاكتشافات التي تركز على توضيح الوظائف المختلفة للقنوات الأيونية في العمليات الفيزيولوجية المختلفة. تُستخدم هذه المعرفة لتطوير علاجات لمجال واسع من الحالات المرضية، مثل الآلام المزمنة.

الصورة 4 توضح اكتشافات الحائزين على جائزة نوبل لهذا العام، وكيف بإمكان الحرارة والبرودة واللمس إطلاق إشارات في نظامنا العصبي. القنوات الأيونية التي حددها هذان العالمان مهمة للعديد من الوظائف الفيزيولوجية والحالات المرضية.

وُلد ديفيد جوليوس في عام 1955 في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية. حصل على درجة الدكتوراة في عام 1984 من جامعة كاليفورنيا في بيركلي وشغل وظيفة زميل ما بعد الدكتوراة في جامعة كولومبيا في نيويورك. وُظِّف ديفيد جوليوس في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو عام 1989 حيث يعمل الآن أستاذًا.

وُلد أردم باتابوتيان عام 1967 في العاصمة اللبنانية بيروت. انتقل في شبابه من بيروت التي عانت الحرب إلى لوس أنجلوس بالولايات المتحدة الأمريكية وحصل على الدكتوراة عام 1996 من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في باسادينا. شغل وظيفة زميل لما بعد الدكتوراة في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو. منذ عام 2000، وهو عالِمٌ في معهد سكريبس للأبحاث في كاليفورنيا حيث يعمل الآن أستاذًا. هذا بالإضافة إلى عمله باحثًا في معهد هوارد هيوز الطبي منذ عام 2014.

اقرأ أيضًا:

جائزة نوبل في الطب أو الفيزيولوجيا لعام 2020

جائزة نوبل في الطب أو الفيزيولوجيا لعام 2019: كيف تستشعر الخلايا توافر الأكسجين وتتأقلم معه

ترجمة: ليلى حمدون

تدقيق: نايا بطّاح

مراجعة: نغم رابي

المصدر