كان القرن الماضي دمويًا بحق؛ إذ شهد حربين عالميتين قُتل فيهما عشرات ملايين الأشخاص، وانهارت اقتصادات دول لا تُحصى، وسقطت بعض أقوى الإمبراطوريات في العالم. الحرب العالمية الأولى والثانية صدمتا العالم أجمع، واستغرقت محاولات منع اندلاع الحرب العالمية الثالثة ما تبقى من ذلك القرن. لكن هل الاحتياطات التي اتخذت كافية؟ وإن لم تكن كذلك، فما الذي قد يسبب اندلاعها؟

ما الذي قد يشعل الحرب العالمية الثالثة؟

الحرب -للأسف- جزء لا يتجزأ من التاريخ البشري؛ فالبشر ما فتئوا يخوضون الحروب مذ وجدوا على الأرض، كما سبقتهم الحيوانات في خوض الصراعات. أحد أقدم الأدلة على الحرب عُثر عليه في كينيا، حين وجد علماء الإنسان بقايا بشر قتلوا بعنف منذ (9500 – 10500) سنة مضت، وهو أول دليل موثق علميًا على العنف البشري المنظم.

قد يكون الدافع للحرب كامنًا في خلايانا، وقد يكون نتيجة عيشنا في مجتمعات منظمة، والأرجح أن الأسباب الحقيقية وراء الحرب -كمعظم الأمور في الحياة- مزيج من الفكرتين. تتنوع الأمور التي تشعل فتيل الحروب، لكنها تتمحور عمومًا حول مواضيع شائعة، مثل: الحاجة إلى الموارد، والأفكار المتضادة، والرغبة في التوسع، والانتقام من المخطئين بحق الآخرين، وشعور الإحباط من الوضع الراهن (الثورة).

تتضمن الحربان العالميتان جوانب من هذه الأسباب كلها، مع تعقيد آخر هو أن الحرب العالمية الأولى لم تكن نهاية مرضية للضغوط القوية بين الأطراف المعنية. ما أدى إلى تعبيد الطريق نحو الحرب العالمية الثانية بل الحرب الباردة وما بعدها أيضًا، حسبما يرى بعضهم.

العالم اليوم مكان مختلف، على الأقل عند النظرة الأولى، مقارنة بأربعينيات القرن العشرين، لكن للناس -وبالتالي الأمم- ذاكرة قوية لا تنسى الماضي بسهولة. إذ إن نار الحرب العالمية الثالثة قاربت من الاشتعال مرات عدة منذ انتهت الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال لا الحصر؛ الحرب الكورية، وأزمة برلين سنة 1961، وأزمة الصواريخ الكوبية سنة 1962، وحرب يوم كيبور سنة 1973.

وجدت بعض الدراسات الحديثة أن خطر اندلاع حرب عالمية جديدة يتزايد، ويعتقد نحو نصف جيل الألفية أنهم سيرون العالم ينغمس في حرب عالمية خلال حياتهم. لا أحد يستطيع معرفة ما قد يقدح زناد الحرب العالمية الثالثة، ولكن هنالك بعض النقاط الساخنة حول العالم يُعتقد أن إحداها الشرارة التي ستشعل النيران.

1- انحسار وسريان القوة العظمى و«فخ ثوقيديدس»

يفترض كثيرون أن صدامًا عالميًا عظيمًا لا بد أن يحدث في وقت قريب عبر ظاهرة تسمى «فخ ثوقيديدس»، كان أول من روج لذلك هو العالم السياسي الأمريكي غراهام تي أليسون.

تعتمد هذه الفرضية على وجود نزعة نحو الحرب عبر التاريخ البشري، كلما هددت قوة صاعدة بالحلول محل قوة عظمى موجودة بالفعل، سواءً أكان استبدال الزعامة هذا في منطقة محددة أم عالميًا. ينطبق هذا الوضع اليوم على جمهورية الصين الشعبية، المتنامية قوةً ونفوذًا وتراجع قوة الولايات المتحدة الأمريكية.

مصطلح «فخ ثوقيديدس» يرجع إلى ما قاله المؤرخ والقائد العسكري الإغريقي القديم ثوقيديدس عن حرب البيلوبونيز بين أثينا وإسبارطة، فكتب أنها كانت محتمة الوقوع بسبب تنامي قلق إسبارطة من زيادة قوة أثينا، الأمر الذي أدى إلى اندلاع النزاع بينهما.

يرى أليسون أن ما يشبه هذا السيناريو قد تكرر نحو 16 مرة خلال الخمسمئة سنة الماضية، 12 منها أدت إلى حروب كبيرة. في الحالات الأربع الأخرى، كانت الحنكة السياسية الخلاقة أو الصدفة المحضة هي السبب وراء تجنب الحرب. مثال على إحدى هذه الحالات الأربع هو بين أمريكا المتنامية قوة والإمبراطورية البريطانية في بداية القرن العشرين، تفوقت الولايات المتحدة على بريطانيا أخيرًا وحلت محلها بصفتها قوة عالمية مهيمنة، لكن بصفة حليف لا عدو.

لهذه النظرية نقادها بالطبع لكن طرحها مقنع، وقد تتنبأ باندلاع حرب شاملة، إذ يستمر اقتصاد الصين بالنمو وقوتها بالتعاظم منافسةً أمريكا باقتصادها وقوتها. فهل سيكون هذا هو سبب اندلاع الحرب العالمية الثالثة؟

2- قد تكون تايوان هي القشة التي ستقسم ظهر البعير

تُعد تايوان نوعًا من العمل غير المنتهي بالنسبة إلى الحزب الشيوعي الصيني. بعد انتهاء الحرب الأهلية الصينية في أربعينيات القرن العشرين، لجأ بقايا الكومينتانغ (الحزب القومي الصيني) المهزوم إلى جزيرة تايوان، وحافظوا على إدارة مستقلة عن إدارة البر الصيني التي أصبحت بيد الحزب الشيوعي.

تَعد جمهورية الصين الشعبية تايوان جزءًا من الصين حتى اليوم ولا تعترف بشرعية جمهورية الصين (وهو الاسم الرسمي لتايوان)، فإذا قررت الصين غزو الجزيرة ستبدأ سلسلة من الأحداث المتصاعدة بسرعة.

بدأت الصين باتخاذ خطوات عدائية مؤخرًا، ومنها انتهاك المجال الجوي لتايوان، ويدفع هذا بعض المحللين إلى الاعتقاد أنها إشارة إلى أمور أخطر ستحصل قريبًا.

لا يخفى أن هناك أجزاء أخرى من العالم مرشحة بالدرجة نفسها لتكون الشرارة التي تشعل نيران الحرب العالمية الثالثة، كإيران وكوريا الشمالية.

3- استعدوا لحروب المياه!

حاليًا، يبلغ تعداد سكان العالم نحو 8 مليارات نسمة، ويُتوقع نموه إلى نحو 10 مليارات على الأقل بحلول سنة 2050 إذا استمر التزايد السكاني بمعدلاته الحالية، ما يعني ٢ مليار من الأفواه الجديدة التي ستحتاج إلى الطعام والماء.

يثق بعضهم بأن التقدم التقني واستراتيجيات الإدارة سيفيدان في التعامل مع هذه المشكلة، بينما يقلق آخرون من الوصول إلى مرحلة يتجاوز الطلب فيها العرض، فينقص الغذاء والماء. لن تكون عواقب الأمور حينئذ بسيطة في الكثير من أنحاء العالم. دعونا لا ننسى أن قلة الطعام كانت أحد أهم أسباب الثورة الفرنسية.
تراكب العديد من المشاكل، بدءًا بالقضايا البيئية والصناعات المتعطشة للمياه وصولًا إلى الإدارة الحكومية الضعيفة للموارد، قد يخلق عاصفة مثالية عندما تعجز مصادر المياه والغذاء عن مواكبة النمو السكاني المتوقع، ناهيك عن تأثير التغير المناخي الكبير على الأحداث المفاجئة والجفاف.

إن صح هذا التنبؤ قد نكون على وشك بدء حقبة قلق أهلية وثورات وحتى صراعات دولية للتحكم بالسلع الأولية. لا تصعب رؤية كيف يمكن لهذه الصراعات أن تكون سببًا لاندلاع الحرب العالمية الثالثة، التي ستتجاوز في فظاعتها كل الحروب التي رأيناها أو سمعنا عنها من قبل.

لكن الخبراء يعتقدون أن الصراعات الداخلية أكثر ترجيحًا من الصراعات الدولية، لا يجب أن نرتاح إلى ذلك بالطبع. لكن قد يكون التقدم التقني على قدر المسؤولية مثلما كان في أغلب فترات الماضي، فالحاجة أمُّ الاختراع.

4- لا يترافق الانهيار الاقتصادي مع السلام عمومًا

لا يمر يوم لا يظهر فيه خبير مالي على شاشات التلفاز أو في الصحافة، متحدثًا عن انهيار اقتصادي وشيك سيكون الأسوأ على الإطلاق، هذا ليس أمرًا جديدًا، وتحمل هذه التنبؤات -عادةً- بعض المبالغة أو حتى تكون عارية عن الصحة.

حدثت الانهيارات الاقتصادية من قبل، بل وتظهر في دورات مشؤومة يمكن التنبؤ بها إلى حد ما. عمومًا ينهار الاقتصاد كل عقد من الزمن أو نحو ذلك، وحين يحصل الانهيار غالبًا ما يتبعه عدم الاستقرار.

لم تكن الانهيارات الاقتصادية سببًا رئيسيًا لاندلاع صراعات عالمية من قبل، لكن الركود الاقتصادي قد يخلق نوعًا من عدم الاستقرار الاجتماعي يمهد الطريق للحرب.

شغلت حكومات كثيرة حول العالم مطابع نقودها محاولةً اجتياز الأزمة الاقتصادية الحالية بضخ المال في السوق، سيكون لهذا عواقب وخيمة في المستقبل القريب. تأثير هذا في الاقتصاد العالمي أمر علينا الانتظار لنرى نتائجه، لكنه لا يبدو جيدًا حتى الآن.

5- احتمال الحروب الإلكترونية

لم يكن لعالمنا الإلكتروني الحديث أن يوجد لولا بعض الموارد الرئيسية اللازمة لصنع العديد من الأجهزة الإلكترونية التي نستعملها يوميًا؛ فكل شيء من الهواتف الذكية حتى أجهزة توجيه الإنترنت (الراوتر) يحتاج إلى عناصر إلكترونية أولية ليعمل.

جميع الإلكترونيات تقريبًا تحتاج إلى كمية لا بأس بها من المواد الأولية المعدنية والمواد الكيميائية، التي إن توقف إمدادها سيدخل إنتاج الإلكترونيات في مشكلة عويصة. من المواد الأولية المطلوبة؛ عناصر كالنحاس والليثيوم والفضة والذهب والنيكل والألمنيوم.

الضغط على هذه الموارد يزداد أيضًا بسبب اتجاه العالم بعيدًا عن الموارد الهيدروكربونية في إنتاج طاقته والتحول إلى تقنيات الطاقة المتجددة، إضافةً إلى التحول إلى الآليات الكهربائية. بعض هذه الموارد الأولية كالليثيوم مثلًا، ليست وفيرة ولا موزعة بعدل في العالم، وأصبح الحفاظ على إمكانية الحصول عليها أمرًا يتعلق بالأمن القومي في دول عدة، وأحد الأماكن التي تفيض بثروة من هذه المعادن هي أفغانستان.

تولّد شك جديّ في إمكانية الوصول المستقبلي إلى هذه الموارد بعد انسحاب القوات الأمريكية والدولية من أفغانستان، هذا الانسحاب المتأخر والجدلي للأسف. إذا أعيق الوصول إلى هذه الموارد لسبب من الأسباب المصطنعة قد يؤدي ذلك إلى توترات جدية حول العالم. هل تكون كافية لقدح زناد الحرب العالمية الثالثة؟

6- قد تشعل الهجرة الجماعية شرارة الحرب العالمية الثالثة أيضًا

كانت الهجرة الجماعية -عبر معظم التاريخ البشري- نتيجة للصراعات لا سببًا لها، الغزوات الهونية في القرن الخامس للميلاد مثال أساسي على ذلك، ورغم ذلك حذر بعضهم من أن نوع الهجرة الجماعية الذي رأيناه في العقد الأخير قد يعد سببًا لصراع في المستقبل القريب، يُعتقد بأن العالم يقف على عتبة عصر نستطيع تسميته «عصر حروب الهجرة».

تتنوع أسباب هذه الهجرات الضخمة التي نشهدها، من الحروب الأهلية إلى الكوارث البيئية أو القنوط الاقتصادي، ويبدو أن هذه المشاكل ستزداد سوءًا بزيادة عدد السكان.

وصل عدد اللاجئين إلى عشرات الملايين بسبب الحرب المشتعلة في سوريا في الفترة الأخيرة، باحثين عن الأمان في الدول المجاورة والغرب، مغامرين في رحلات خطيرة عبر اليابسة والبحر، لكن ذلك لا يؤثر في الغرب وحده.

فمنذ سنة 2017، هرب نحو نصف مليون روهينغي من الاضطهاد في ميانمار باحثين عن الأمان في الدول المجاورة، خاصةً في بنغلاديش وتايلند وإندونيسيا وماليزيا. الهجرة الجماعية أصبحت مشكلة أيضًا بالنسبة لمنطقة غرب أفريقيا.

تزداد حدة المشكلة أيضًا بسبب التكنولوجيا، التي تعد نافذة على المعلومات المتعلقة بنوعية الحياة أو جودة الحياة المتصورة في أجزاء أخرى من العالم، فأصبحت هذه المعلومات متوفرة بسهولة.

يسبب هذا التدفق الهائل من المهاجرين الجدد ذعرًا مفهومًا وضغوطًا جدية على اقتصاد الشعوب المحلية وبناها التحتية، قد يقود ذلك الأمم المستقبِلة للمهاجرين إلى التدخل خارج حدودها محاولة لجم هذا السيل المنهمر من اللاجئين. ومثل هذه التدخلات، تخاطر بإشعال أمر أكثر جسامة، وجعل المشكلة أسوأ.

ليس بإمكاننا الجزم إن كانت الحرب العالمية الثالثة ستحصل في المستقبل القريب أم لا، ومن المؤكد أن العالم مر بتجارب كثيرة ومحن عدة في الماضي، ولم ينتج عن ذلك إلا حربين عالميتين شاملتين (يجادل بعضهم في كونهما حربًا واحدةً تخللتها هدنة استمرت مدة عقدين). من الممكن إيجاد حل سلمي لبعض الأسباب المحتملة المذكورة أعلاه، لكن في نهاية المطاف يُنسب إلى آينشتاين قوله المحزن: «لا أعلم ما الأسلحة التي ستستخدم في الحرب العالمية الثالثة ، لكن القتال في الرابعة سيكون بالعصي والحجارة».

اقرأ أيضًا:

ثمانية أحداث أدت إلى الحرب العالمية الأولى

العصر البرونزي: نقطة تحول في التاريخ البشري

ترجمة: الحسين الطاهر

تدقيق: سماح عبد اللطيف

مراجعة: حسين جرود

المصدر