يتفوق مستشعر جديد مبنى على التشابك الكمومي على نظيره من المستشعرات الضوئية.

بنى الباحثون بجامعة كوينزلاند مجهرًا كموميًا قائمًا على الظاهرة التي سماها آينشتاين في يوم من الأيام الحدث الشبحي عن بعد.

يتميز الجهاز الجديد بأنه يستغل التشابك الكمومي لتسليط الضوء على عينات الكائنات الحية على نحو آمن، وهو على عكس ما تفعله المجاهر التقليدية التي تدمر العينات بسبب شدة الضوء.

يقول وارويك بوين، عالم فيزياء الكم بجامعة كوينزلاند: «إن هذا المستشعر المبنى على التشابك هو أول مستشعر يحل محل المستشعرات العادية وأول اختراع كمومي يحل محل نظيره غير الكمومي».

يضيف بوين، المؤلف الرئيسي للورقة البحثية الجديدة التي نُشرت في مجلة نيتشر: «هذا أمر مثير، إذ يعد هذا سابقة كونه أول دليل على قدرة التشابك الكمومي الكامنة التي يمكن تطبيقها في تكنولوجيا الاستشعار ما يفضي إلى تحول فكري».

منذ اختراع المجاهر في القرن السابع عشر، أحدثت المجاهر التقليدية القائمة على الضوء ثورة في فهمنا للحياة عبر الكشف عن الهياكل والسلوكيات المجهرية للأنظمة الحية، فحقق مجال الفحص المجهري قفزةً هائلةً عندما أُدخل الليزر وجعل العينات أكثر سطوعًا وإنارة، حتى أن بعض التقنيات الحديثة استطاعت أن تتفحص بدقة تصل إلى مستوى الذرات تقريبًا.

لكن أفضل المجاهر محدودة بسبب ضجيج الفوتونات -وهي حزم الطاقة الصغيرة التي تؤلف الضوء، فتسبب المرات العشوائية التي تضرب فيها الفوتونات المفردة المكشاف ضجيجًا- ما يؤثر في حساسية المجاهر ودقتها وسرعتها، لكن يمكن الحد من الضجيج بزيادة شدة الإضاءة التي تفسد عينة الخلايا بسبب ارتفاع درجة الحرارة كأنه يقليها.

يوضح بوين: «تستخدم أفضل المجاهر الضوئية أشعة الليزر الساطعة التي تفوق شدة إضاءته إضاءة الشمس بمليارات المرات، فلا يمكن للأنظمة البيولوجية الضعيفة كخلية الإنسان أن تحتمل إلا فترة وجيزة تحت ضوء تلك المجاهر».

نصل إلى حدود ما يسعنا فعله فقط بزيادة شدة الإضاءة.

قد يؤدي مجهر بوين وفريقه الجديد إلى اندلاع الثورة القادمة في مجال الفحص المجهري ، لأنهم تخطوا قيود المجاهر القديمة بتوظيف التشابك الكمي.

لكن كيف يعمل هذا الجهاز بالفعل؟

يرجع الأمر إلى فيزياء الكم، لذا سنذهب في رحلة إلى عالم فيزياء الكم الغريب.

يُعد التشابك الكمومي ظاهرةً لا يسعنا فهمها إن أمعنا التفكير فيها كأنها قصة وحش أسطوري، ببساطة، الفكرة هي أن جسيمين يمكن أن يصبحا متشابكين، أو متصلين، وبعد ذلك سيعكسان دائمًا تصرفات بعضهما؛ فما يصيب أحدهما ينعكس على الآخر على الفور، حتى لو فصلت بينهما سنوات ضوئية، يبدو لنا أن هذا التغيير الفوري مخالف لما تمليه علينا قواعد البداهة. لا يعرف الفيزيائيون حتى الآن على وجه التحديد كيف يحدث هذا، لكنه يحدث. وقد تسخر هذه الظاهرة في مجال الفحص المجهري.

عرف الفيزيائيون منذ فترة من الزمن أنه يمكن استخدام الارتباطات الكمية لاستخراج المعلومات من الفوتونات، بل تستخدم هذه الارتباطات لتحسين مراصد الأمواج الثقالية مثل (ليغو) LIGO، أضف إلى ذلك العديد من التطبيقات الأخرى للارتباطات الكمية، ما جعلهم يتشككون في إمكانية الارتباطات الكمية في تحسين الفحص المجهري، لكنهم لم يتمكنوا آنذاك من بناء مصادر ضوء ساطعة لدرجة كافية بها ارتباطات كمومية موصلة بمجهر ما.

يوضح مؤلفو الدراسة في ورقتهم البحثية: «ومع ذلك، استخدمت جميع التجارب السابقة شدة إضاءة أكثر من 12 قيمة أسية وهو أقل من القيمة التي يبدأ عندها حدوث الضرر الفيزيائي-الحيوي التقليدي، وأقل بكثير من الشدة المستخدمة عادةً في المجاهر الدقيقة».

يستخدم هذا الجهاز المجهري الجديد تشتت رامان المتماسك وهي تقنية موجودة بالفعل تتفحص الجزيئات الحية عبر الإشارات الاهتزازية، لتقدم معلومات محددة ودقيقة حول تركيبها الكيميائي.

صمم الفريق المجهر خصيصًا لجعل الارتباطات الكمية تحسن مصدر الضوء الذي يضيء العينة، إذ يكون الضوء خافتًا للغاية.

يقول بوين: «ما يتيح لنا التشابك فعله هو ترويض فوتونات هذا الضوء حتى تصل إلى الكاشف على نحو موحد ومتجانس».

يتحقق ذلك باستخدام بلورة لا خطية تغير الضوء العابر، وبالمخالفة لشعاع الليزر العادي، استُخدم ضوء مضغوط لترتبط الفوتونات ارتباطًا وثيقًا لتحقيق التشابك الكمومي، ما أفضى إلى تقليل اتساع الضوء، ومن ثم تقليل الضجيج.

ينتج المجهر الجديد، وبسبب ثبوت كثافة الضوء، نسبة إشارة إلى ضجيج أعلى ومن ثم تباين أعلى في المجهر، ما مكنهم من تصوير جدار خلوي لفطر الخميرة سمكه نحو 10 نانومتر.

يوضح بوين: «يمكننا تحليل نطاق أكبر بكثير من جدار الخلية باستخدام الارتباطات الكمومية دون تدمير الخلية نفسها، وهو ما كان ممكنًا في السابق عبر الفحص المجهري التقليدي لكنه كان مدمرًا للخلية».

تمكن الفريق من تحسين نسبة الإشارة إلى الضجيج بنسبة تبلغ 35٪.

كتب الباحثون في ورقتهم: «يزيل هذا حاجزًا أساسيًا كان يحول دون تقدم مجهر رامان المتماسك والفحص المجهري عالي الأداء والدقة على نطاق أوسع».

يعلق بوين: «تغمرنا بحق الحماسة حيال ذلك لأنه يظهر، لأول مرة، أنه قد يُستغل الضوء الكمي للحصول على ميزة لا مثيل لها في الفحص المجهري ، لقياس شيء لا يسعك قياسه بأي طريقة أخرى».

يقول سيرجي سلوسارينكو، عالم فيزياء الكم بجامعة غريفيث الذي لم يشارك في الدراسة: «إن هذا الإنجاز لعظيم».

ويعلق قائلًا: «لقد عمل مجتمع علماء بصريات الكم لوقت بالغ الطول على ابتكار طرق جديدة لتحسين دقة القياس عبر حالات غريبة من الضوء، ومن الصعوبة بمكان تحقيق مثل تلك التحسينات بالتجربة».

وأردف قائلًا: «إن حدوث التحسين بسبب التأثيرات الكمية هنا مهم جدًا لأنه لا توجد طريقة أساسية لتحسين حساسية القياس إلا بزيادة الطاقة فقط. إن اللجوء إلى الكم لإحداث تغير جذري في القياس هو الطريقة المثلى والوحيدة».

يقول بوين: «إن هذا مجرد خطوة أولى في هذا الميدان الشاسع». إن التحسن بنسبة 35 ٪ ليس بكثير، ويظن أنه يمكنهم القيام بعمل أفضل عبر تطوير مصدر أكثر إشراقًا للضوء الكمومي.

يقول بوين: «إحدى المشاكل الضخمة المتعلقة بالمجاهر الدقيقة هي أنها بطيئة حقًا. إذا كنت تريد تصوير فيروس، فقد يستغرق الأمر دقيقة للحصول على لقطة واحدة».

قد يؤدي تحسين المصدر الكمومي للضوء إلى تسريع التصوير بعشرة أضعاف. لذلك عوضًا عن دقيقة برمتها، قد يستغرق الأمر ست ثوان فحسب.

ويعد هذا من الأهمية بمكان، كما يصرح بوين، إذ إنه في أثناء التقاط الصورة، ثمة العديد من العمليات البيولوجية المتغيرة التي قد تطرأ لهذا الفيروس الذي نعيش جائحته أو بسببه، ومن ثم فتقليل مدة التصوير إلى ست ثوان قد يسمح بالتقاط التغييرات البيولوجية عوضًا عن تفويتها.

تعد الخطوة القادمة في بناء مثل هذه الأجهزة المجهرية في مختبرات علماء الفيزياء الحيوية وغيرهم من علماء الأحياء لاختبار ما هو قيد الإمكان، وهي العملية التي ستتم خلال السنوات الخمس المقبلة أو نحو ذلك. يعمل فريق بوين البحثي أيضًا مع مكتب البحث العلمي التابع للقوات الجوية الأمريكية لبناء هذه التركيبات في مختبراتهم في سان أنطونيو، بولاية تكساس.

يقول بوين: «يكمن الهدف في الوصول إلى النقطة التي يمكننا فيها حقًا طرح أسئلة جديدة في علم الأحياء، هناك الكثير مما هو غير مكتشف بعد، ففي كل تحسن في هذا المجهر، ستُكتشف سلوكيات وظواهر جديدة، لذا فإن الفكرة القابعة وراء هذا المجهر هي المساهمة في فتح باب جديد من التساؤلات».

اقرأ أيضًا:

مجهر كمومي جديد يكشف عن عوالم رؤيتها مستحيلة بأدواتنا الحالية

صناعة مجهر عالي الدقة باستعمال قطع الليغو

ترجمة: مي مالك

تدقيق: حسام التهامي

المصدر