تُعد الثقوب السوداء أسياد التخفي، فهي لا تبعث أي إشعاع يمكننا اكتشافه، بل وتلتهم المادة بنشاط، كما هو الحال مع معظم الثقوب السوداء ذات الكتلة النجمية. ولذلك يجب اللجوء إلى وسائل أُخرى للكشف عنها، مثل البحث عن النجوم التي تبدو وكأنها في مدار ثنائي مع «لا شيء». وقد تمكن علماء الفلك الآن ولأول مرة من تحديد مكان ثقب أسود خارج مجرة درب التبانة باستخدام هذه الطريقة.

حدد العلماء -بالاستفادة من تحركات نجم مداري- ثقبًا أسود صغيرًا نسبيًا في سحابة ماجلان الكبرى، وهي مجرة قزمة تدور حول مجرة درب التبانة على بُعد نحو 160 ألف سنة ضوئية. وُجد الثقب الأسود الذي يسمى (NGC 1850 BH1) في مجموعة (NGC 1850) التي تحوي آلاف النجوم، ويشير الاكتشاف إلى أن هذه الوسيلة قد تُثبت فاعليتها مفتاحًا لإيجاد الثقوب السوداء في المجموعات المليئة بالنجوم في مجرة درب التبانة وما ورائها.

تقول عالمة الفلك سارة ساراكينو من جامعة ليفربول جون موريس في المملكة المتحدة: «إننا ننظر إلى كل نجم في هذه المجموعة باستخدام عدسة مكبرة في محاولة لإيجاد بعض الأدلة على وجود الثقوب السوداء دون رؤيتها بوضوح، على غرار شيرلوك هولمز الذي يتعقب عصابة مجرمين مستفيدًا من عثراتهم».

مضيفةً: «وتمثل النتيجة المعروضة هنا واحدًا فقط من المجرمين المطلوبين، لكنّ عثورنا على واحد يشير إلى أننا في طريقنا لاكتشاف آخرين في مجموعات مختلفة».

تجلّت معظم الثقوب السوداء التي اكتُشفت في مجرة درب التبانة بسبب الإشعاع المنبعث منها عندما تكون نشطة. إذ لا يصدر الثقب الأسود في حد ذاته أي إشعاع؛ بل المادة التي تسقط فيه هي التي تصدر الكثير من الإشعاع في الواقع. أيضًا قد اكتُشف عدد متزايد من الثقوب السوداء بالأمواج الثقالية عام 2015، وهي التموجات التي تتولد في الزمكان عند تصادم جسمين معًا. لكنّ ذلك ما يزال مجرد قطرة في المحيط الكوني نظرًا لجميع هذه التطورات.

قدَّر علماء الفلك إمكانية وجود مئة مليون ثقب أسود ذي كتلة نجمية في مجرة درب التبانة وحدها. لكنّ العدد الذي اكتُشف لم يكن حتى قريبًا من ذلك، ما يعني وجود فجوات كبيرة جدًا في فهمنا لهذه الأجسام الغامضة. إلّا أن الطريقة التي تتصرف بها الأجسام حول الثقوب السوداء قد تشكّل علامةً منبهةً لوجودها. إذ تخلق الثقوب السوداء جاذبيةً على الفضاء المحيط بها بالرغم من أنها صغيرة ومظلمة نسبيًا، فالثقب الأسود الذي تبلغ كتلته 11 ضعف كتلة الشمس لديه أفق حدث يبلغ عرضه 65 كيلومترًا فقط.

وعندما يبدأ النجم بالتحرك بطريقة مميزة يلتقطه ثقب أسود في مدار ثنائي، ما يُغيِّرُ من ضوئه -هذا النجم- على الرغم من أنه قد يبدو ساكنًا من المسافة التي يُراقب منها، لأن طول الموجة يزداد كلما ابتعد النجم عنّا وينقص باقترابه منّا.

يقول عالم الفلك ستيفان درايزلر من جامعة غوتينغن في ألمانيا: «لا يمكن الكشف عن الغالبية العظمى من الثقوب السوداء إلا ديناميكيًا». مضيفًا: «سوف يؤثر الثقب الأسود في حركة النجم بصورة ماكرة لكن قابلة للاكتشاف عندما يشكل نظامًا معه، لذا يمكننا العثور عليه باستخدام أدوات متطورة».

جمعت ساراكينو وفريقها بيانات تعود لعامين، رصدها مستكشف الأطياف متعدد الوحدات الموجود في المرصد الهائل في تشيلي، ثم حللوا هذه البيانات بحثًا عن تغيرات في طول الموجة تشير إلى وجود نجم ثنائي، واستثنوا أي نظام مرئي مرافق له. فتكلل عملهم الشاق باكتشاف (NGC 1850 BH1) الذي تبلغ كتلة النجم المرافق له نحو 5 أضعاف كتلة الشمس وهو في نهاية عمره التسلسلي الرئيسي. إضافةً إلى أن النجم قريب جدًا من الثقب الأسود في فترة مدارية مدتها 5 أيام فقط، ويُرجّح تدفق المادة إلى داخل الثقب الأسود إلى بعد انتفاخ النجم عند بداية موته. ليس ذلك فقط ما يجعل الدراسة مذهلةً، فمجموعة النجوم NGC 1850 يافعة جدًا كونيًا ولا يتجاوز عمرها المئة مليون سنة.

يمثل (NGC 1850 BH1) إمكانية إيجاد المزيد من الثقوب السوداء اليافعة، الأمر الذي قد يساعد في فهم كيفية تشكّل هذه الأجسام وتطورها. وقد يساعد إيجاد ثقوب سوداء في مجموعات النجوم اليافعة على فهم المراحل التطورية بين نجم هائل ونجم نيوتروني أو ثقب أسود، وإحصائيات عدد الثقوب السوداء في مجموعات النجوم.

للأمر أيضًا آثار في مجال علم فلك الأمواج الثقالية نفسه نظرًا لاعتقاد العلماء بأنّ تصادمات الثقوب السوداء مع النجوم النيوترونية تحدث في مجموعات النجوم على الأرجح. يقول عالم الفلك مارك جيليس من جامعة برشلونة في إسبانيا: «سوف تكون جميع الاكتشافات مهمةً من أجل فهمنا المستقبلي لمجموعات النجوم والثقوب السوداء في داخلها».

اقرأ أيضًا:

ثقب أسود جائع قد يكشف أصل عمالقة الفضاء

هل الكون بأكمله داخل ثقب أسود عظيم؟

ترجمة: ربيع شحود

تدقيق: أحمد مهدلي

المصدر