خلال معظم القرن العشرين حكم جنوب أفريقيا نظام الفصل العنصري، أو «الأبرتهايد» (الأبارتايد)؛ وهي كلمة أفريقانية (أفريكانية) تعني: «التحديد»، استند على مبدأ تفوّق العرق الأبيض على غيره.

متى تأسس الأبرتهايد؟

ظهر مصطلح الأبرتهايد في حملة «الحزب الوطني المتحد» الانتخابية لترشيح دانيال فرانسوا مالان عام 1948 م، لكن الفصل العنصري كان قد طُبِّق لعقود طويلة في جنوب أفريقيا، ولو نظرنا إلى الأمر الآن بحكمة متأخرة لرأينا أن ظهور السياسات المتطرفة كان حتميًا؛ فحين تشكل اتحاد جنوب أفريقيا في 31 مايو 1910، مُنح الوطنيون الأفريقانيون حرية نسبية لإعادة تنظيم حق الانتخاب في البلاد اعتمادًا على معايير جمهوريتي البوير اللتين دُمجتا ضمن الاتحاد الجديد؛ وهما جمهورية جنوب أفريقيا أو ترانسفال ودولة البرتقال الحرة أو أورنج فري ستيت. وقد كان لغير البيض في مستعمرة كيب بعض التمثيل في الحكومة، لكن ذلك لم يدم طويلًا.

يبقى السؤال: كيف استطاع البيض التسلط إلى هذه الدرجة في بلد تقطنه غالبية من السود؟ يكمن الجواب في قرون من الاستعمار والعبودية والعنف الذي مارسه الأوروبيون البيض منذ القرن السادس عشر، فعبر قرون احتكر المستوطنون الأوروبيون (من هولندا وبريطانيا أساسًا) موارد جنوب أفريقيا واستغلوا بقسوة أنظمة الفصل العنصري وأعمال العنف التي أيّدتها الحكومة؛ لقمع سكان جنوب أفريقيا الذين عاشت قبائلهم في هذه المنطقة منذ آلاف السنين.

أهمل المستوطنون الأوروبيون المعاهدات التي وقعوها مع القبائل المحلية كلما شعروا أنها لم تعد مناسبة لهم، واحتازوا الأراضي بحجة «فراغها» من السكان، في حين أنها كانت موطنًا للأفارقة السود في الحقيقة، وكذلك استولوا على الموارد واستغلوها وقابلوا السكان المحليين حين قاوموهم بالعنف والاستعباد أو الإبادة العرقية، فلما مُنح الفصل العنصري تسمية «الأبرتهايد»، كانت أسسه قد وضعت منذ مئات السنين.

من ساند الأبرتهايد؟

دعمت صحف أفريقانية عديدة سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وكذلك فعلت حركات «ثقافية» أفريقانية؛ مثل رابطة الأخوة الأفريقانيين (أفريكانر برودربوند) ومنظمة الأوسيبراندواغ (أوسيبراندواج أي حرس عربات الثيران). أما خارج البلاد فقد دعم العالم الغربي\الأوروبي برمته هذه السياسة ضمنًا أو صراحةً؛ لضمان مصالحه السياسية والفكرية في جنوب أفريقيا، إذ كانت هذه البلاد مهمة من ناحية الموارد كالذهب والفحم، إضافةً إلى أهميتها بصفتها سوقًا للبضائع المصنعة في الغرب، وفي تلك الحقبة التي كانت فيها أولوية الدول الغربية هي معاداة الشيوعية كان من المهم لها ألا تخسر جنوب أفريقيا للشيوعيين.

اعتمدت حكومة الأبرتهايد على كل ذلك بالطبع؛ لكي تتأكد من غياب الدعم الكافي لنجاح أية حركة تعارضها، في البلاد أو خارجها.

كيف وصلت حكومة الأبرتهايد إلى السلطة؟

في الواقع، نال الحزب المتحد أغلبية الأصوات في انتخابات 1948 العامة، لكن استطاع الحزب الوطني المتحد الفوز بسبب استغلاله حدود الدوائر الانتخابية الجغرافية قبل إجراء الانتخابات، ففاز في معظمها. وفي 1951، اندمج الحزب الوطني المتحد رسميًا مع الحزب الأفريقاني، فشكّلا الحزب الوطني الذي أصبح مرادفًا للأبرتهايد.

شكل البرلمان البريطاني نظام الحكم في جنوب أفريقيا عبر قانون جنوب أفريقيا لعام 1909، وبموجبه تأسس نظام برلماني مشابه لذاك الموجود في بريطانيا، لكن اقتصر حق التصويت على الرجال البيض في معظم المناطق، بينما حُرم السود من التصويت ومن الترشيح للانتخابات، ونتيجة عزل السود المتعمد هذا، لم تعكس أي انتخابات -بما يشمل انتخابات 1948- إلا مصالح الأقلية البيضاء.

ما كانت أسس الأبرتهايد؟

قُدمت تشريعات عديدة عبر عشرات السنين تمدد للفصل العنصري الموجود ضد السود والهنود وباقي المجتمعات غير البيضاء، وكان أهم هذه التشريعات قانون مناطق المجموعة رقم 41 لعام 1950، الذي قاد إلى إعادة توطين أكثر من ثلاثة ملايين شخص بالقوة، وقانون قمع الشيوعية رقم 44 لعام 1950 الذي صِيغ بعبارات فضفاضة إلى درجة إمكانية حضر أي جماعة معارضة، وقانون سلطات البانتو رقم 68 لعام 1951 الذي أدى إلى خلق البانتوستانات (ثم لاحقًا إلى خلق الأوطان «المستقلة»)، وقانون المحليين (منع الاجتياز وتوافق الوثائق) رقم 67 لعام 1952، الذي أدى رغم عنوانه إلى تطبيق صارم لقوانين الاجتياز.

ما هو الأبرتهايد الكبير؟

إبان ستينيات القرن العشرين، طُبِّق التمييز العنصري بضراوة على معظم جوانب الحياة في جنوب أفريقيا، وخُلقت البنتوستانات للسود، إذ تطور النظام إلى «الأبرتهايد الكبير». كانت البلاد قد هُزّت بمجزرة شاربفيل، وحُظر حزبا المؤتمر الوطني الأفريقي والمؤتمر الأفريقاني، وأخيرًا أدت المعارضة البريطانية لنظام الفصل العنصري دورًا كبيرًا في انسحاب جنوب أفريقيا من الكومنولث البريطاني وإعلانها نفسها جمهورية.

كان الأبرتهايد في جنوب أفريقيا حينها كأنه إبادة جماعية بصورة غير مباشرة؛ إذ عنى الفصل العنصري المشدد تحديد وصول السود إلى ما يلزمهم من رعاية صحية وطعام جيد وبيوت آمنة، مثلما حرمهم من حقوق أخرى أساسية لعيش الإنسان. ولم تكن جنوب أفريقيا الدولة الوحيدة التي جعلت العنصرية الشديدة قانونًا شرعيًا؛ ففي الوقت نفسه كان لقوانين جيم كرو وقوانين السود في أمريكا الهدف نفسه من منع السود من الحياة الجيدة، بل أساسيات الحياة؛ لجعلهم -بالقوة- طبقةً أدنى قانونيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.

ما الذي حدث في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين؟

أُعيد تشكيل الأبرتهايد في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين نتيجة الضغوط المتزايدة داخليًا وخارجيًا، إضافةً إلى المشكلات الاقتصادية التي مرت بها جنوب أفريقيا، وتعرض الشباب الأسود لتسييس متصاعد؛ الشباب الذي عبر عن غضبه من «نظام البانتو التعليمي» عبر انتفاضة سويتو عام 1976.

استُهدف الناشطون المعارضون للأبرتهايد والقادة السياسيون السود وسُجنوا واغتيلوا بغير تحفّظ، فقد اعترفت الشرطة الأفريقانية بقتل الناشط ستيف بيكو، وسجنت الحكومة نيلسون مانديلا نحو 30 سنة؛ لإدانته نظام الفصل العنصري، وعُذِّبت ويني مانديلا في أحد السجون، وما هذا إلا غيظ من فيض، وباختصار فعلت حكومة جنوب أفريقيا كل ما استطاعت فعله لتصفية السود الذين تحدوا سلطتها وقاتلوا ضد الفصل العنصري.

متى انتهى الأبرتهايد؟

أعلن الرئيس فريدريك وليم دي كليرك إطلاق سراح نيلسون مانديلا في فبراير 1990، وبدأ بتفكيك نظام الأبرتهايد ببطء، وفي 1992، وافق البيض في استفتاء عام على العملية الإصلاحية، وبعدها بعامين أُجريت أول انتخابات ديمقراطية في جنوب أفريقيا، حيث شارك الشعب بمختلف أعراقه في التصويت، ثم شُكِّلت حكومة وحدة وطنية يرأسها نيلسون مانديلا، وكان نائباه هما الأبيض دي كليرك والأسود تابو إيمبيكي.

اقرأ أيضًا:

خلق أوروبا: خطاب الحضارة

كيف اندلعت أحداث أيرلندا الشمالية؟

ترجمة: الحسين الطاهر

تدقيق: إيناس خير الدين

مراجعة: نغم رابي

المصدر