التخصص والتجارة

دعونا في هذه الجزء نتكلم قليلا ضمن إطار تاريخي لنبحث في تطور البشرية عبر الزمن. فباستخدام مقاييس كالعمر المتوقع عند الولادة، معدل الوفيات بين الأطفال, والدخل للفرد الواحد نستطيع أن نظهر بأن حياة أغلبية البشر الذين عاشوا في السابق كانت رديئة للغاية.

إحصائيًا، انتظر البشر حتى الثورة الصناعية حتى بدؤوا يلمسون تزايدًا متناميًا في مستوى معيشتهم. تزايد عدد السكان بشكل ضخم جدا ومعه العمر المتوقع عند الولادة، مصادر الغذاء، المشافي، وأخيرا البرادات والأدوات المتطورة العديدة. وفي هذا الوقت بالتحديد ظهر أول كتاب للاقتصادي الشهير آدم سميث بعنوان “طبيعة وأسباب ثروة الدول”. شرح الكتاب بدقة مصدر الازدهار حيث استنتج من خلاله أن التخصص أو ما أطلق عليه تقسيم العمل هو الذي جعل الدول ثرية.

كي نشرح التخصص أكثر دعونا نأخذ مثالا كمصنع للبيتزا حيث يكون للعمال مهام محددة مثل تحضير المواد, صنع البيتزا, وضعها بالفرن ومن ثم إخراجها ووضعها في صندوق. تقسيم العمل هذا يجعل كل عامل أكثر إنتاجية انطلاقًا من المبدأ أن كل واحد منهم يستطيع التركيز على الشيء الذي يجيده أكثر، ولا يضيعون الوقت بالانتقال بين المهام.

مفهوم التخصص في صنع البيتزا يتعدى خط الإنتاج الذي تكلمنا عنه، فالعملية تتفرع إلى الأشخاص الذين يتولون مهمة تصنيع الجبنة مثلا، أو حتى عملية تصنيع الفرن التي تتطلب أشخاص ذوي خبرة بالهندسة. يقول لنا سميث: “في كل مجتمع متطور، الفلاح بشكل عام ليس أكثر من فلاح، المصنّع ليس أكثر من مصنّع. العمل الأساسي من أجل إنتاج أي عملية تصنيع واحدة تقريبا بشكل دائم يكون مقسمًا بين أعدادٍ كبيرة من الأيادي.” تخيل كيف ستكون العملية لو كان عليك تولي عملية تصنيع البيزا من البداية كلها ولوحدك. سيكون عليك زرع القمح والطماطم وتربية البقر، صنع الطحين,، الجبنة، والفرن. من دون التخصص, إذا كنت تريد شيئا فعليك صنعه لوحدك.

نستطيع أن ندرك بوضوح من خلال هذه الأمثلة بأن التخصص يرفع من إنتاجية البشر، ولكن تبعاً لآدم سميث، التجارة هي العامل الأساسي في رفع المستوى الاقتصادي والمعيشي. فعلى سبيل المثال لنفترض وجود دولتين تستطيع كل منهما إنتاج الأحذية والبيتزا, ولكن إحداهما ذات كفاءة عالية في إنتاج البيتزا, والأخرى ذات كفاءة عالية في إنتاج الأحذية.

التجارة تسمح لهما بتبادل المنتجات بحيث تتخصص كل دولة في تصنيع المنتج الذي تكزن هي الأكثر كفاءة في تصنيعه دون الحاجة إلى إضاعة الوقت في تصنيع منتجات يمكن استيرادها من دول أخرى وبكفاءة أعلى. لذلك الفكرة الأساسية هنا هي الآتي:
يجب على الأفراد والدول التخصص في إنتاج أشياء يتمتعون بكفاءة في إنتاجها بالمقارنة مع دول أخرى ومن ثم التجارة مع دول أخرى متخصصة بأشياء أخرى. إن هذه التجارة مفيدة لكلا الطرفين.

إذا الآن أنت قد فهمت فوائد التجارة الدولية. ولكن لا نستطيع أن ننكر بنفس الوقت مساوئ هذه العملية مثل عمالة الأطفال، ظروف العمل الصعبة، والتلوث. لن نتطرق لهذه المواضيع اليوم، ولكن أعدكم بأنني سأذكرها في المقالات القادمة.

من جهة أخرى، وبالحديث عن التجارة الدولية، يتفق معظم الاقتصاديين على نقطة أساسية: التخصص والتجارة هما اللذان يجعلان العالم أفضل.

لا يوجد دول في العصر السابق حققت تقدما في مستويات معيشة سكانها من دون تفعيلها للتجارة المفتوحة مع باقي أنحاء العالم. دول مثل كوبا، الاتحاد السوفييتي، كوريا الشمالية، فنزويلا وزيمبابوي التي قطعت تواصلها مع العالم بإرادتها أو أحيانا من دونها بقيت تعاني من نمو اقتصادي متدنٍ مقارنة بباقي أنحاء العالم. من ناحية أخرى الدول التي فتحت أبوابها للتجارة, كاليابان, تايوان, ومؤخرا الصين والهند شهدت تحسنات ضخمة في مستويات المعيشة.

نستطيع هنا أن نذكر قول آدم سميث: “إن الاكتفاء الذاتي يعد عدم كفاءة في استخدام الموارد وعدم الكفاءة من الممكن أن تقود للفقر”.

في المقال القادم, سأريكم كيف ستتحول هذه الأفكار إلى نظم اقتصادية وكيف هذه النظم تسهم في تشكيل الاختلافات بين الدول.