مقدمة:

فيزياء القرن العشرين غالباً ما يحددها زوج من الرموز الكاسحة، والقوى الطبيعية، ألا وهي نظريات النسبية العامة وميكانيكا الكم، التي عرضت على العالم في عامي 1915 و 1925 على التوالي.

ولكن نجد أن عام 1918 انطوى بين على ظهور رمزا آخرا قادرا على تحديد توازن الفيزياء في القرن العشرين، وهذا الرمز، ريتشارد فاينمان.

كيفية بدء فاينمان:

ترعرع فاينمان في مجتمع صغير ضمن “فار روكاوي”، جنوب مانهاتن، وسط عائلة متوسطة الحال، كان والده ميلفيل رجل أعمال، عمل في عدة مهن ولكنه لم يكن ناجحاً للغاية، وذلك لأنه لم يستطع أن يعتاش من العلم الذي كان مفتونا به.

بعد زواج ميلفيل ووالدة ريتشارد “لوسيل”؛ انتقلا إلى شقة في منهاتن، وفي السنة التي تلت ذلك ولد ابنهما الأول ريتشارد، لقد أراد ميلفيل أن يكون ولده الأول صبياً وأن يصبح عالماً، وبذلك، فرحا بابنه الأول، حاول ما استطاع أن يجذب انتباه ريتشارد إلى العلم، فكما يقول لنا جليك: “هبة ميلفيل إلى الأسرة كانت المعرفة والجدية، أما حس الفكاهة ورواية القصص فهي من لوسيل”.

ولكن للأسف ضربت المأساة عائلة فاينمان عندما كان ريتشارد يبلغ من العمر خمس سنوات، وذلك بوفاة ابنهم الثاني ذو الأسابيع المعدودة من العمر، وتلقائياً حل الحزن على العائلة مما أثر بشدة على الصغير ريتشارد.

بعدها بقي ريتشارد الولد الوحيد لعائلة فاينمان إلى جانب أخته جوان، والتي ولدت عندما كان ريتشارد يبلغ تسع سنوات.

ريتشارد (أو ريتي كما اعتاد أصدقاؤه مناداته) تعلم الكثير من العلوم عن طريق (الموسوعة البريطانية)، كما علم نفسه القليل من الرياضيات الأولية قبل أن يتفاعل معها في المدرسة، وأقام مختبراً صغيراً في غرفة نومه في المنزل، وأجرى تجارب على الكهرباء.

وبالتحديد قام بتوصيل دارة كهربائية مع لمبات وهاجة، واخترع إنذاراً ضد السرقة، كما قام بتفكيك راديو لتصليح داراته الداخلية المعطلة.

عندما بدأ الدراسة في ثانوية روكاوي كانت اهتماماته عملياً منحصرة في الرياضيات والعلوم، لكنه وجد ما يربطه بالفن قليلاً من وقت لآخر، “لقد كنت دوماً قلقاً من كوني مثليا، لا أريد أن أكون لطيفاً للغاية، على حد علمي، لا يوجد رجل يجذبه الشعر أو هكذا أمور”.

بعد انتهائه من الثانوية، تقدم بعدة طلبات للالتحاق بأكثر من جامعة، على الأغلب الآن يعتقد المرء أن كل جامعة تقدم لها قد عرضت عليه مقعداً، لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فعلى الرغم من أن علاماته في الرياضيات والعلوم كانت رائعة للغاية، إلا أنه لم يبلي حسناً في باقي المواد!

وكونه يهوديًّا، جعل الأمر أكثر صعوبة، لأن مقاعد اليهود في الجامعات الأمريكية كانت محدودة آنذاك.

تقدم بطلب إلى جامعة كولومبيا لكنهم رفضوه أيضا، ولم يستطع مسامحتهم على الـ14 دولاراً التي تقاضوها منه ثم رفضوا طلبه !

دراسته الجامعية:

في النهاية تم قبوله في معهد ماساتشوستس للعلوم التقنية (MIT)، عام 1935، وبعد أربع سنوات من الدراسة حصل على درجة البكالوريوس في العلوم.

لقد حضر حصصاً من الرياضيات هناك لكنه وجدها سهلة للغاية، وشعر بالقلق من جمودها وقلة التطبيقات العملية فيها.

درس في سنته الأولى النظرية الرياضية في النسبية، وشعر أن هذا هو ما يبحث عنه في الرياضيات..

دروس الفيزياء التي حضرها فاينمان في MIT لم تكن عادية أبداً، لقد كانت (مقدمة إلى الفيزياء النظرية)، والتي يحضرها عادة الخريجين وكان في حينها فاينمان في سنته الثانية.

لم يجد صفوفاً لميكانيكا الكم، وهو أمر كان فاينمان مصراً على تعلمه، وبالتالي قام هو وزميل له ت. أ. ويلتون بقراءة النصوص المتوفرة حول هذا الموضوع، وبعد أن عاد كل منهما إلى منزله في ربيع عام 1936، تبادل الاثنان سلسلة من الرسائل المميزة التي حاولا من خلالها تطوير نسخة أحدث من فكرة الزمكان، حيث وجدنا اقتباس من إحدى الرسائل:

“الظواهر الكهربائية هي نتاج مصفوفة من الفضاء، كما الأمر في الظواهر الجاذبية”.

في عام 1937 بدأ فاينمان بدراسة مبدأ ديراك في ميكانيكا الكم، ولاحظ كم أن أفكار ديراك متقدمة، وفي النهاية أصبح ديراك أكثر عالم يحترمه فاينمان.

أثناء إجازته قدم فاينمان طلبات لوظائف صيفية في “مختبرات بيل للهاتف”، ولطالما تم رفضه، على الرغم من توصيات مرموقة، وكل الظن أن ذلك لكونه يهوديا، إلا أنه لم يتم إثبات ذلك حتى الآن.

دراساته العليا:

عند اقترابه من الانتهاء من عامه الرابع في معهد ماساتشوستس، بدأ يفكر في إكمال دراسته لنيل شهادة الدكتوراه، ونظراً لمحبته لمعهد ماساتشوستس واعتقاده أنه المؤسسة العلمية الأفضل، طلب من رئيس قسم الفيزياء هناك (جون سلاتر) أن يسمح له بالبقاء وحضور صفوف الدكتوراه، لكن سلاتر نصحه بالانتقال، واقترح له جامعة برينستون.

وعلى الرغم من التوصية الشخصية التي تلقاها هاري سميث في جامعة برينستون، لم يكن واضحاً إذا كان قبول فاينمان مضموناً أم لا، صحيح أنه حصل على أفضل نتائج في الفيزياء والرياضيات وهي نتائج لم يحصل عليها أحد قبله، لكن بالمقابل كان في أسفل علامات النجاح في التاريخ، وعلى وشك الرسوب بالأدب والفنون الجميلة، ومع ذلك كان هنالك أمرا واحد يقف ضده، ألا وأنه يهودي.

بعد عدة رسائل تزكية من سلاتر، تم قبول فاينمان في جامعة برينستون، أول مناقشة قدمها في وينستون حضرها أينشتاين، بول، ونيومان، قال بول: ” على ما أعتقد، نظريته يمكن أن تكون صحيحة”.

حصل على الدكتوراه من جامعة وينستون عام 1942، وقبيل هذا الوقت كانت الولايات المتحدة قد دخلت الحرب العالمية الثانية.

أعماله:

عمل فاينمان في مشروع القنبلة الذرية في جامعة برينستون (1941-1942)، ومن ثم في لوس ألاموس (1943-1945)، في سنته الأخيرة طلب منه أن يشترك في مشروع القنبلة الذرية، ولكنه رفض بشكل قطعي كونه مشغولا في أطروحته آنذاك: “… لقد عدت إلى رسالتي- لمدة ثلاث دقائق تقريبا، وفكرت بعمق بأن الألمان لديهم هتلر وإمكانية تطوير قنبلة ذرية كان أمرا واضحا، وإمكانية صناعتها قبلنا كان مخيفا”.

فاينمان بدأ العمل على مشروع مانهاتن في برينستون، مطورًا نظرية لكيفية فصل اليورانيوم 235 عن اليورانيوم 238، بينما مشرف أطروحته – ويلر – ذهب إلى شيكاغو للعمل مع فيرمي على المفاعل النووي الأول، وأشرف ويجنر على أطروحة فاينمان في غياب ويلر، والذي نصح فاينمان بكتابة أطروحته.

وبعد فحص ويلر وويجنر العمل الذي أنجزه فاينمان، حصل على الدكتوراه في حزيران/يونيه عام 1942.

وبعد الحرب العالمية الثانية، في خريف عام 1945، عُيّن فاينمان أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة كورنيل.

في البداية كرس نفسه للتدريس ووضع أبحاثه جانبا، كان حينها قد أثر فيه ضغط العمل من مشروع لوس ألاموس، جنبا إلى جنب مع الإجهاد الناجم عن مراقبة صحة زوجته أرلين جرينبام تتراجع، حبيبته على مدى سنين مضت، وتم تشخيصها بمرض السل، وتوفيت عام 1945 قبل أول اختبار للقنبلة الذرية.

في ذاك الحين تلقى عروضًا لوظائف تدريس في العديد من الجامعات، ولكن فجأة ضربته الرغبة في إجراء الأبحاث من جديد، فعاد إلى نظرية ديكانيكا الكم الكهربائية قبيل الحرب العالمية الثانية.

في عام 1950 قبل فاينمان منصب أستاذ الفيزياء النظرية في “معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا”، ونظراً لأنه قد سبق وخطط لإجازة قبل الحصول على هذا العرض، كان قادراً على اتخاذ الترتيبات اللازمة لقضاء الأشهر العشرة الأولى من تعيينه في البرازيل.

وبقي في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا لبقية حياته، وجرى بعده تعيين ريتشارد تولمان شاس أستاذ “الفيزياء النظرية” هناك في عام 1959.

وكان الإسهام الرئيس لـ فاينمان في ميكانيكا الكم، بعد يوم من إنجازه رسالة الدكتوراة، هو عرض الرسوم البيانية (التي تسمى الآن مخططات فاينمان) التي يتم فيها الرسم بنظائر التعبيرات الرياضية المطلوبة لوصف سلوك أنظمة الجسيمات المتفاعلة، وحصل على جائزة نوبل في عام 1965، باﻻشتراك مع شفينجر وتومونوجا.

وله أعمال أخرى على الحركة الدورانية للجزيئات، والنظرية الجزيئية، والتي قادت إلى النظرية الحالية للكواركات، والتي كان لها الدور الأساسي في تقدم وفهم فيزياء الجسيمات.

وفاته:

في أوائل عام 1979، تدهورت الحالة الصحية لـ فاينمان وأجرى عملية جراحية لاستئصال سرطان المعدة، بالنجاح واعتقد الأطباء أنه لن يعاني منه مجددًا، وبعد شفائه تمتع بالأضواء كشخصية عامة مشهورة، وتعززت هذه الشخصية عندما تسلق كتابه فجأة سلم أفضل المبيعات.

وكانت مهمته الرئيسة النهائية كعضو في اللجنة التي أنشئت للتحقيق في سبب الانفجار الذي وقع في مكوك تشالنجر الفضائي يوم الثلاثاء 28 يناير 1986، كان وقتًا صعبًا للغاية بالنسبة لـ فايمن فتدهورت صحته طوال فترة التحقيق.

في نهاية عام 1987 تم العثور على السرطان مرة أخرى في معدته، وبعد وفاته، كتب تشاندلر في 17 فبراير 1988: ” فاينمان، الذي توفي في جامعة كاليفورنيا في “لوس أنجليس المركز الطبي” بعد معركة استمرت ثماني سنوات بسرطان المعدة، كان محاضراً شعبيًا وحيويًا، وعلى الرغم من مرضه، واصل التدريس في “معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا” حتى قبل أسبوعين من وفاته”.

مؤلفاته:

كتب فاينمان شملت العديد من تلك المحاضرات، فعلى سبيل المثال ديناميكا الكم الكهربائية (1961) ونظرية العمليات الأساسية (1961)، محاضرات فاينمان في الفيزياء (1963-65) (3 مجلدات) وشخصية القانون الفيزيائي (1965) و النظرية الغريبة للضوء والمادة (1985).