محاولة لتفسير السادية والمازوخية

يمكن تعريف السادومازوخية بأنها مَنح اللذة -الجنسية عادةً- أو الحصول عليها عند الإيلام أو الإذلال أو التعرض لهما.

ويمكن أن تُمارَس السادومازوخية تعزيزًا للذة الجنسية أو -في بعض الحالات- كبديل لها أو كشرط لا بد منه للتمتع بها.

ويُستخدَم الإيلام لإثارة اللذة الجنسية، بينما يمكن لمحاكاة العنف أن تمثّل نوعًا من الارتباط وتعبّر عنه.

وتبدأ، بالتأكيد، الأنشطة السادومازوخية، عادةً بناءً على طلب الشخصية المازوخية وتحقيقًا لمصلحتها، وهي الشخصية التي توجّه الأنشطة باستخدام إشارات عاطفية بارعة.

ويجب عدم الخلط بين السادومازوخية التي تحدث بالتراضي بين الطرفين، وأعمال الاعتداء الجنسي.

وبالرغم من أن السادومازوخيين يلتمسون الألم والإذلال في سياق الحب والجنس، فإنهم لا يفعلون ذلك في مواقف أخرى، ويمقتون العنف والاعتداء الذي يحدث ببساطة ودون قيود، شأنهم شأن أي شخص عادي.

باختصار وبوجهٍ عام، السادومازوخيون ليسوا معتلّين نفسيًّا.

ففي الوقت الذي يمكن فيه تشخيص الاعتلال النفسي واضطراب الشخصية المعادية للمجتمع بالاضطراب العقلي، لا يمكن تشخيص السادومازوخية بذلك إلا إذا تسببت في ابتئاس أو إعاقة للفرد أو ضرر للآخرين.

وأشارت بعض الدراسات إلى أنّ درجة شيوع التخيّلات السادية بين النساء تساوي شيوعها بين الرجال بالضبط.

لكن يبدو أن الرجال ذوي الدوافع السادية تتطور لديهم هذه الدوافع في سنّ أصغر من النساء.

وعلى الرغم من أنّ بعض الأشخاص السادومازوخيين ساديون فقط والبعض الآخر مازوخي فقط، يجمع الكثيرون منهم بين درجات مختلفة من السادية والمازوخية معًا، ويمكن وصفهم بأنهم “قابلون للتحوّل من هذه الحالة إلى تلك”.

أصل مصطلح “السادومازوخية”

“السادومازوخية” هي لفظ منحوت من مصطلحي “السادية” و”المازوخية”، وهما المصطلحان اللذان نحتهما الطبيب النفسي الألماني ريتشارد فون كرافت إيبنج، الذي أشار إلى نزعات طبيعية جوهرية للسادية بين الرجال، وللمازوخية بين النساء.

نحت كرافت إيبنج لفظ “السادية” من اسم ماركيز دي ساد الذي عاش في القرن التاسع عشر وألّف رواية “جوستين أو نوائب الفضيلة” وكتبًا أخرى.

وفيلم “الريشات”، بطولة جيوفري راش وكيت وينسلت ومايكل كين، مستوحى أيضًا من قصة ساد.

“كم هي مبهجةٌ ملذّات الخيال! في تلك اللحظات الممتعة، يصبح العالم كله ملكنا؛ لا يقاومنا أي مخلوق، ندمر العالم، ونُعيد تعميره بكائنات جديدة نقدمهم بعد ذلك أضحية.

نملك كلَّ سُبُلَ الجريمة، نستخدمها جميعها، ونضاعف الرعب مئات المرات”.

ماركيز دي ساد، رواية “جولييت أو ازدهار الرذيلة”.

أما المازوخية، فنحتها إيبنج من اسم ليوبولد فون زاخر-مازوخ، مؤلّف رواية “فينوس في الفراء”، الذي عاش في القرن العشرين.

“الرجل هو الذي يرغب، والمرأة هي المرغوب فيه.

تلك هي ميزة المرأة الوحيدة، لكن الحاسمة في الوقت نفسه.

فبفضل مشاعر الرجل، جعلت الطبيعة المرأة متحكّمة فيه.

والمرأة التي لا تعرف كيف تجعل الرجل عبدًا خاضعًا لها ولعبة تتحكم فيها كما تشاء، وكيف تخدعه بابتسامة في النهاية، ليست امرأة حكيمة”.

ليوبولد فون زاخر-مازوخ، “فينوس في الفراء”

على الرغم من أن مصطلحي “السادية” و”المازوخية” يعودان إلى الفصل التاسع عشر، فإن الظواهر التي يعبّران عنها ليست بهذه الحداثة.

ففي كتابه “الاعترافات” (1782)، تحدث جان جاك روسو بجرأة عن المتعة الجنسية المازوخية التي شعر بها عند ضربه في طفولته.

وأضاف قائلًا: “بعد أن تجرأت على التصريح بكل ذلك، لن أخشى أي شيء بعد الآن”.

وفي زمان ومكان مختلفين، وصف فيلسوف عصر النهضة، جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا، رجلًا كان يحتاج إلى ضربه بالسوط ليشعر بالإثارة.

ويذكر كذلك نص “كاماسوترا”، الذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني، الصفع الشهواني الذي يحدث بالتراضي بين الطرفين.

نظريّات مبكرة

وضع الطبيب الألماني، يوهان هاينريش ميبوم، أول نظريّة للمازوخية في كتابه “أطروحة استخدام الضرب بالسوط في الطب والجِماع” (1639).

رأى ميبوم أن ضرب ظهر الرجل بالسوط يقوم بتدفئة المِنى في كليتيه، ما يؤدي إلى الإثارة الجنسية عند تدفق المِنى لأسفل إلى خصيتيه.

وتحدثت نظريات أخرى حول المازوخية عن تدفئة الدم أو استخدام الإثارة الجنسية للتخفيف من الألم البدني.

في كتابه “الاعتلال النفسي الجنسي” (1886)، وهو ملخص لتاريخ حالات وجرائم جنسية، لم يدمج كرافت إيبنج السادية والمازوخية معًا، إذ رأى أن كلًا منهما ينبع من منطق جنسي وشهواني مختلف.

وفي كتابه “ثلاث مقالات في النظرية الجنسية”، أشار فرويد إلى أن السادية والمازوخية يظهران معًا عادةً عند نفس الأشخاص، ولذا فقد جمع المصطلحين معًا.

رأى فرويد السادية تشوهًا للمكون العدائي في غريزة الرجل الجنسية، والمازوخية نوعًا من السادية ضدّ الذات، وشذوذًا أخطر من السادية البسيطة.

أشارَ فرويد إلى أنّ الميل لإنزال الألم أو تلقيه في أثناء الجِماع هو “أكثر صور الانحراف شيوعًأ وأهميةً”، وعزاها شأنها شأن الكثير من الأمور الأخرى إلى قصور التطور النفسي أو انحرافه في الطفولة المبكرة.

ولم يهتم فرويد كثيرًا بالسادومازوخية لدى النساء، إما لأنه من المُعتقَد أن السادية تصيب في الغالب الرجال، أو لأنه يُعتقَد أن المازوخية هي ميل عادي وطبيعي لدى النساء.

وذهب الطبيب البريطاني هافلوك إليس (1859-1939)، في كتابه “دراسات في سيكولوجية الجنس”، إلى أنه لا يوجد فارق واضح بين جوانب السادية والمازوخية.

وقَصر السادومازوخية في إطار الشهوانية، ومن ثم فصل بينها وبين الاعتداء والقسوة.

أما الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925-1995)، فكان رأيه مختلفًا.

ففي مقاله الجفاء والقسوة، ذهب دولوز إلى أن “السادومازوخية” مصطلح مصطنع، والسادية والمازوخية ظاهرتان منفصلتان في الواقع.

وقدّم آراء جديدة عن السادية والمازوخية، لكنني غير قادر للأسف على فهمه على نحو كامل.

تفسيرات

يمكن قول الأمر نفسه عن السادومازوخية بوجه عام.

فالسادومازوخية يصعب فهمها.

اطرحُ هنا بعض التفسيرات لها.

وعلى الرغم من أنّ بعض هذه التفسيرات يسري في بعض الظروف دون غيرها، فلا ينفي أيٌ منها التفسيرات الأخرى، فلا شك أنّ أقوى مشاعرنا لا تنبع من دافع واحد فقط.

فمن الجلي أن الشخص السادي قد يستقي متعته من مشاعر القوة والسلطة والسيطرة، ومن “معاناة” المازوخي.

يمكن أيضًا أن يكنّ السادي رغبة لا واعية لمعاقبة مَن يشعر تجاهه بانجذاب جنسي لأنه أثار رغبته، ومن ثم أخضعه له، أو في بعض الحالات يمكن أن يعاقبه لأنه أحبطَ رغبته أو أثار غيرته.

من خلال التعامل مع الشريك بوصفه شيئًا لا بشرًا، لا يضطر السادي إلى التعامل مع الجانب العاطفي لذلك الشريك، ويمكن أن يخدع نفسه بأن الجنس ليس ذا مغزى كبير؛ فما هو إلا تصرف نابع من الشهوة، لا من الحب الحميمي والهادف.

يصبح الشريك غنيمة، مجرد ألعوبة.

ويمكن للمرء امتلاك لعبة، وربما ضربها، لكنه لا يمكن أن يقع في حبها أو يشعر بالانجراح أو الخيانة منها.

يمكن أن تمثل السادية، أيضًا، نوعًا من الإزاحة النفسية أو التضحية بكبش فداء؛ فيُزيح السادي مشاعر مزعجة مثل الغضب والذنب ويسقطها على شخص آخر.

أما التضحية بكبش فداء، فهي دافع وسلوك قديم ومتأصل في النفس البشرية.

وفقًا لسفر اللاويين، أمر الرب موسى وهارون بالتضحية بعنزتين كل عام، على أن تُذبَح العنزة الأولى ويُرَش دمها على تابوت العهد.

ويضع الكاهن الأعلى، بعد ذلك، يديه فوق رأس العنزة الثانية ويعترف بخطايا الناس.

وعلى عكس العنزة الأولى، لا تُذبَح تلك العنزة الثانية المحظوظة، وإنما يُطلَق سراحها في البرية مع ما تحمله من خطايا، ومن هنا عُرِفت باسم “كبش الفداء”.

والمذبح الموجود في هيكل أية كنيسة هو أثر رمزي أو تذكير بهذه الممارسة المتعلقة بالتضحية، مع كون يسوع هو المثال الأعظم للتضحية، بالطبع.

أما فيما يتعلق بالشخص المازوخي، فلعب دور الخاضع والمغلوب على أمره يمكن أن يمنحه متنفسًا لما يعاني منعه من ضغوط أو أعباء المسؤولة أو الذنب.

ويمكن أيضًا، أن يثير بداخله مشاعر طفولية تتعلق بالاتكالية والسلامة والحماية، التي يمكن أن تحلَّ محل الحميمية.

علاوةً على ذلك، يمكن أن يستقي المازوخي متعة من الحصول على استحسان السادي، والاستحواذ على اهتمامه بالكامل، والتحكم فيه على نحو ما.

أما فيما يتعلق بالسادومازوخية، فيمكن اعتبارها وسيلة لإضفاء مزيد من القوة على العلاقات الجنسية العادية (فيؤدي الألم إلى إفراز الإندروفين وغيره من الهرمونات الأخرى)، من خلال إعادتها إلى حالة أكثر بدائية أو حيوانية، أو اختبار الحدود، أو اللهو.

وقد طرحت رومانا بايرن، في كتابها الجديد “الجنسانية الجمالية”، فكرة لم يذهب إليها أحد قبلها تشير إلى أن ممارسات السادية والمازوخية يمكن أن تنبع من أهداف جمالية معينة مرتبطة بالذوق والمتعة والهوية، ومن ثمَّ يمكن مقارنتها بالفن.

ماذا عنك؟

إنّ بعض السلوكيات “العادية”، مثل التعامل كالأطفال، والدغدغة وعضة الحب، تحتوي على عناصر معينة من السادومازوخية.

قد تعتقد عند قراءتك لهذا المقال أن هذا النوع من السلوكيات ينطبق على عدد صغير من “المنحرفين”، لكن الحقيقة هي أن كلًا منا يضمر نزعات سادومازوخية.

فمثلما يقول الكاتب المسرحي الروماني، ترنتيوس: “أنا بشر، ولا أعتبر أي شيء بشري غريب عني”.

في الغالبية العظمى من العلاقات، يكون أحد الطرفين أكثر انجذابًا للطرف الآخر، ما يجعل الشريك الأقل انجذابًا أكثر هيمنةً على الآخر، بينما يصبح الطرف الأكثر انجذابًا كالأطفال ويصير خانعًا في محاولة منه لتهدئة الطرف الآخر وإرضائه وإغوائه.

وفي النهاية، يشعر الطرف الأقل انجذابًا بالاختناق ويبتعد، لكنه إذا بالغ في الابتعاد، يمكن أن يشعر الشخص الأكثر انجذابًا بالجفاء ويصد الطرف الآخر أو يبتعد عنه.

ويدفع ذلك الطرف الأقل انجذابًا إلى التغيّر ويصبح الأكثر حماسًا بين الطرفين.

وأخيرًا، يُعيد التوازن تأسيس نفسه، حتى يُقضَى عليه مرة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية.

السيطرة والخضوع عنصران موجودان في معظم العلاقات، لكن ذلك لا يحول دون كون العلاقات متعبة وغير مجدية، وكما يقول فرويد “غير ناضجة”.

بدلًا من لعبة القط والفأر، يجب أن يتمتع المحبون بالثقة والشجاعة ليتساما فوق هذه اللعبة، وليس مجرّد أن يتزوجا.

من خلال تعلّم الثقة في بعضهما البعض، يمكن أن يتمكنا من رؤية بعضهما البعض على حقيقتهما بوصفهما بشرًا كاملين، وغاية في حد ذاتهما لا مجرد وسيلة لتحقيق غاية معينة.

الحب الحقيقي يتعلق بالاحترام، والمشاركة، والدعم، والتمكين، لكن كم من الناس يملكون القدرة على هذا النوع من الحب والنضج الكافي له؟

والحب، بالطبع، يحتاج إلى شخصين ليحيا.


  • ترجمة: أميرة علي عبد الصادق
  • تدقيق: لؤي حاج يوسف
  • تحرير: ناجية الأحمد
  • المصدر