أثناء استماعك إلى الموسيقى الرقميّة، فإنّ تركيب النغمات التي تسمعها قد يكون أعيد من الملف الذّي خزّن النغمات على شكل مكونات مختلفة في التردد، وذلك ممكن بسبب ما يعرف باسم (تركيب فورييه).

بشكل مماثل، تعيد (قوقعة الأذن – cochleae) في أذنيك الداخليتين نفس العمليّة، تقسم الأصوات لنفس المكونات الجيبيّة (تحليل فورييه) قبل إرسالها على شكل إشارات كهربائيّة إلى الدماغ، الذّي يقوم بتركيب الإشارات سويّة (تركيب فورييه).

يساعد تحليل فورييه على فهم الموجات الجيبيّة المعقدة وذلك عبر تحليلها وتقسيمها لمكوناتها الأصليّة البسيطة.

تعود جذور هذه الفكرة إلى منتصف القرن السابع عشر، عندما بحث الفيزيائي والرياضي جوزيف لويس لاغرانج وآخرون تذبذب الحلقات وانتشار الصوت، وقد كان جوزيف فورييه أحد تلامذة لاغرانج، كما واكتشف فورييه فيما بعد مجالًا واسعًا سيحمل اسمه لوقت طويل.

ولد فورييه في العام 1768 أيّ منذ 250 عامًا، ونظريًا لم يتبق أيّ فرع علمي بدايةً بالتكنولوجيا وحتّى الهندسة لم يتأثر بأفكار فورييه حتىّ اليوم، إذ تساعد النسخ الحديثة من نظريّة فورييه الباحثين على تحليل البيانات في كل تخصص تقريبًا، من فيديوهات اليوتيوب وحتّى تقنيات تعلم الآلة.

من بين العلماء الذين استفادوا من نظريته كانت عالمة الرياضيات التطبيقية إنغريد دوبيشيس، والتّي ساعدت على تطوير النظريّة في المويجات “الموجات القصيرة” وعممت تحليل فورييه بحيث فتحت المجال لحلّ مشاكل لم يسبق أن قام أحد بحلّها.

كانت المويجات أحد أهم أدوات تحليل البيانات والتّي استخُدِمَت في رصد الموجات الثقاليّة لأول مرة في العام 2015.

وقبل إلهامه ثورةً في العلوم، ساعد فورييه على قيام ثورة في بلده الأم فرنسا.

عند بلوغه سنّ الرشد في تسعينات القرن السابع عشر التحق بالثورة الفرنسيّة وكاد هذا القرار أن يودي به إلى المقصلة فيما بعد.

خلال فترة الرعب إبان قيام الجمهوريّة الأولى في فرنسا، التحق بالجيش الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت الذّي قام باجتياح الشمال الإفريقي آنذاك، وعمل فورييه إلى جانب العشرات من أهل العلم، من المهندسين والصيادلة.

في تلك الفترة كانت الأفكار الاستعماريّة تجول بخاطر نابليون بونابرت وادعى أنّ هؤلاء المثقفين سيساعدون في نشر قيم الثقافة والتنوير.

عمل فورييه مديرًا في مصر، وأثبت جدارته في عمله، وقد علِقَت أفكاره الذكية في ذهن بونابرت فوضعه في منصب مماثل في وطنه الأم فرنسا.

وبعد عودة فورييه لأوروبا، أصبح مهووسًا بالحرارة وبدأ بتطبيق مهاراته الرياضيّة بغية فهم عمليّة انتقال الحرارة.

كما ويعود له الفضل في كونه العالم الأول الذّي ناقش دور الاحتباس الحراري في رفع درجة حرارة الكوكب.

أراد فورييه أيضًا أن يفهم عمليّة انتشار الحرارة في الأجسام الصلبة، وقام باكتشاف المعادلة التّي تفسر ذلك، وأظهر كيفيّة حلّها ـــ متوقعًا طريقة تطور انتشار الحرارة، بدءًا من التوزع المعروف عند نقطة الصفر، ولفعل ذلك قام بتقسيم الحرارة لتوابع مثلثيّة، كما لو كانت موجةً صوتيّة.

احتوى تحليله على توابع والتّي سمحت للحرارة بإمتلاك فجوات أو قفزات من ناحية رياضيّة، ما أرعب الرياضيين آنذاك، الذين ارتاحوا مع المنحنيات التّي تميّزت بجمال البساطة، تمسك فورييه بسلاحه وعمل على تطوير أفكاره ونجح أخيرًا بالتفوق على منتقديه.

عدا عن تقسيم التابع إلى ترددات، ابتدع فورييه “نموذجًا مزدوجًا” احتوى جميع الترددات، والذّي عُرِف لاحقًا بتحويل فورييه، النموذج الذي اعتُبِر أساسًا في ميكانيك الكم خلال القرن العشرين، مُظهرًا كيف أنّ الكميات الفيزيائيّة كالموضع والحركة هي كميّات “مزدوجة” أو أنّها تكمّل بعضها بعضًا، ذلك يعني أنّه لا يمكنك معرفتها بدقة كبيرة، وهذا ما يُعرف بـمبدأ الشك لهايزنبرغ، وهو مبدأ أساسي من مبادئ الطبيعة، كما أنّ علماء الذرة يعلمون جيدًا أنّ أنماط انتشار أشعة إكس في البلورة ماهي إلا تحليل فورييه من خلال بنية البلورة ذاتها.

تحوي النسخ الحديثة من نظرية فورييه على مايدعى “تحويل فورييه السريع” و “تحويل فورييه المنفصل” الذَيْن يسمحان بمعالجة أسرع لكميات كبيرة من المعلومات وبكفاءة أكبر.

سيفخر فورييه بالتأكيد لو علم أنّ أفكاره قد عاشت حتّى زماننا هذا، فقد كتب لصديقه منذ مايقارب 229 عامًا معربًا عن أسفه لعدم وصوله إلى صفحة التاريخ الخالدة قائلًا: « البارحة كان عيد ميلادي الحادي والعشرين، في هذا العمر، امتلك نيوتن وباسكال أسبابًا عديدة ليتخلّد اسماهما».

كان قد نجح في عقده الخامس، وكما يقال الصبر فضيلة، فقد فعلها فورييه ونجح في أن يكون عملاقًا علميًا يستحق أن يذكره ويقدره الباحثون في كل مكان.

استمع إلى أصدقائنا في “علم اف ام” حول موضوع مشابه: هنا


  • ترجمة: عصام خلف.
  • تدقيق: آية فحماوي.
  • تحرير: عيسى هزيم.

المصدر الأول
المصدر الثاني
المصدر الثالث
المصدر الرابع